الاثنين، 18 فبراير 2008


يوسف العاصى الطويل

الصليبيون الجدد
الحملة الثامنة
دراسة فى اسباب
التحيز الامريكى والبريطانى لإسرائيل


الطبعة الاولى
نوفمبر 1995
حقوق الطبع محفوظة للمؤلفP
) وقضينا إلى بنى إسرائيل فى الكتاب لتفسدن فى الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيراً . فإذا جاء وعد أولهما بدمائهم ارض فلسطين الحبيبة .
· الى جيل الحجارة الذى اعاد الكرامة وبعث الامل .
· الى كل الاسرى والمعتقلين والمبعدين .
· الى والدى ووالدتى الذين ثبتوا دعائم الحق والخير والوفاء فى نفسى.
· الى اخواى فتحى وسامى .. وفاءاً وحباً لهما.
·الى زوجتى التى صبرت ومنحتنى الوقت لاصدار هذا الكتاب.
·الى ابنائى محمد وعبد الرحمن ليعرفا الحقيقة ولو بعد حين.
الى هؤلاء جميعاً اهدى هذا الكتاب
المؤلف

m
على غزارة ما كتب عن القضية الفلسطينية خلال القرن الحالى، فإن هناك صعوبة كبيرة فى الكتابة عن بعض جوانبها، وبالذات الجوانب التى تتعلق باسباب نشوء هذه القضية، والقوى التى عملت على ايجادها.
والصعوبة هنا لا تنشأ من القضية ذاتها وعدالتها ووضوح الحق فيها، ولكنها تنشأ من الكتابات العديدة التى كتبت عن هذه النقطة أو تلك، وتناولتها من زوايا متعددة، حتى اصبح تاريخ هذه القضية وكأنه سجل للتاريخ المعاصر بكل تناقضاته وصراعاته الايدلوجية والفكرية .
فقد عرف تاريخ هذه القضية تصورات متباينة ومتصارعة، على المستوى العالمى، والعربى، والاسلامى، وحتى الفلسطينى . وامتد هذا التباين حتى برز فى داخل الاطر السياسية نفسها، حيث تناقضت الشعارات حتى فى الميدان الواحد، ونما التباين حتى اصبح كمية هائلة تحتاج وحدها الى بحث وتمحيص، ونما القصور والتباين حتى تحول الى صراع مكشوف او تنافس مدمر .
فعلى المستوى العربى والفلسطينى، لم تخرج معظم التحليلات والكتابات، عن اعتبار اسرائيل حاملة طائرات امريكية فى قلب الشرق الاوسط، وان مهمتها الامبريالية تكمن فى عزل الشرق العربى عن المغرب العربى للحيلولة دون تحقيق الوحدة العربية التى تستوى على امكانيات اقتصادية وبشرية وجفرافية وسياسية هائلة .
فمن ناحية ركز الفكر العربىالثورى على حقيقة اسرائيل الامبرالية، فقال ان هدفها ضرب الانظمة الثورية المعادية للامبرالية فى المنطقة العربية. والمتقفون العرب من ناحيتهم، حصروا اسرائيل فى كونها، كيان استيطانى عنصرى مفرز عن العالمية الرأسمالية . وقد نسى هؤلاء جميعا عدة حقائق منها :
1- ان قضة فلسطين بدأت قبل وجود اى نظام عربى ثورى، وحتى قبل استقلال الدول العربية نفسها .
2- ان الدول الشيوعية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتى - وهى النقيض للنظام الرأسمالى - كانت من اوائل الدول التى اعترفت باسرائيل عند نشأتها، وكانت ايضاً من اوائل الدول التى فتحت ابواب الهجرة على مصراعيه امام اليهود ؟
من هنا فإن الحديث عن الامبرالية والثورية والوحدة العربية - التى لم تتحقق حتى على مستوى قطرى - يصبح حديث مبتور لا معنى له . كما ان الحديث عن دور اللوبى الصهيونى والصوت الانتخابى اليهودى فى تشكيل هذه السياسة امر عارً عن الصحة كما سنوضح . ومن هنا لا بد من البحث مجدداً عن سبب آخر يمكن ان يوضح لنا حقيقة وجود اسرائيل فى المنطقة العربية، والقوى التى تقف وراء هذا الوجود، ودوافعها لذلك .
وبالرغم من صعوبة ذلك فإننا سنحاول، فلايزال للحديث عن قضية فلسطين سبيل وسعه، فهناك معالم لابد من جلائها وتأكيدها على الدرب المتد الى فلسطين ... كل فلسطين .
واول خطوة نود ان نؤكدها هنا، هى ضرورة توحيد التصور الفكرى لقضية فلسطين، طبيعتها - القوى التى تقف وراء نشوئها - دوافع هذه القوى واهدافها . واذا استطعنا ان نصل الى هذا التصور فإن علاج هذه القضية وتداعياتها سيكون امراً سهلاً .
وهذا ما سنحاوله فى هذا الكتاب الذى يحمل اسم "الصليبيون الجدد ... الحملة الثامنة ". هذا بالرغم من ادراكنا، ان الحديث عن حروب صليبية فى هذا العصر ... عصر العلم ... عصر الحرية والديمقراطية ... عصر العلمانية، يعتبر أمراً مستهجناً لدى البعض، الذين يعتقدون أن الدين أو الصراعات الدينية لم يعد لها وجود فى هذا العصر، الذى تحرر على المستوى الاوروبى من قيود الكنيسة، وعلى المستوى الاسلامى من الخلافة الاسلامية التى حلت محلها أنظمة علمانية. ولكن بالرغم من ذلك سنحاول، انطلاقاً من ايماننا بأن الدين كان ولايزال هو الملهم والمحرك الاساسى لكافة الافعال البشرية . فكما يقول المؤرخ الاغريقى بلوكارل: قد وجدت فى التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور... ومدن بلا مدارس ... ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد .
ولتوضيح الصورة اكثر سأقتبس مقاطع من خطاب القاه الزعيم الصهيونى إسرائيل زانغويل فى 2 ديسمبر 1917 ، أى بعد صدور وعد بلفور بشهر واحد، وصف فيه المحاولات البريطانية والأمريكية ، الرامية إلى إعادة اليهود إلى أرض فلسطين بقوله :
" سبع حملات صليبية إلى الأرض المقدسة ، عادت على اليهود بالمذابح ، فهل ستؤدى الصليبية الثامنة إلى إسترجاع اليهود لفلسطين ؟ وإذا كانت صليبية حقة ، فإن تلك الحقيقة بالذات تأتى بمثابة البرهان على النظام الجديد لعالم تسوده المحبة والعدالة "
ولم ينسى زانغويل فى هذا الخطاب ، أن يكمل صورة النظام الجديد الذى توقع ميلاده فى ظل الحملة الصليبية الثامنة ، حيث أشار إلى ضرورة طرد العرب من أرض فلسطين ليتسنى إحلال اليهود مكانهم ، لإقامة الوطن القومى اليهودى . كما تمنى فى هذا الخطاب أن يكتمل هذا العمل عن طريق جعل مدينة القدس مقراً لعصبة الأمم ، بدلاً من لاهاى المفلسة ، ليتسنى جمع الحلمين العبرانيين، الأكبر والأصغر، ودمجهما فى حلم واحد، ولتصبح العاصمة العبرانية - ملتقى الديانات العالمية الثلاث - مركزاً ورمزاً للعصر الجديد فى الحال "
هذا ما قاله زعيم صهيونى، وهذا ما يدور حوله كتابنا هذا، والذى سبق وتم نشر اجزاء منه فى جريدة الخليخ الاماراتية فى عام 1989، تحت عنوان "اليهود فى الثرات الدينى المسيحى" كما تم نشر اجزاء من هذا الكتاب فى جريدة القدس فى عام 1993 تحت عنوان الصليبيون الجدد ... الحملة الثامنة .
والدراسة التى بين ايدينا - وإن كانت لا تخرج عن الاطار العام للدراستين اللتين سبق ونشرتا فى جريدة الخليج والقدس، الا انها اوسع واكثر شمولاً منهما، حيث اضيفت اليها بعض القضايا والمواقف التى لم ترد فى اى من الدراستين السابقتين .
والحمد لله فى البدء والختام
يوسف العاصى الطويل
13/12/1995 رفح - فلسطين
M

هناك تساؤلات كثيره تطرح نفسها على المتتبع للموقف المتحيز لدول اوروبا بوجه عام، وأمريكيا وبريطانيا بوجه خاص، حيال الصراع العربى الإسرائيلى. فلا بد وأن الكثيرين سألوا أنفسهم عن أسباب هذا التحيز، وعن المكاسب التى تسعى لتحقيقها هذه الدول من وراء هذا التحيز.
وسيجد السائل إجابات عديدة على هذا السؤال، من خلال ربط هذا التحيز بالأطماع الإستعمارية لهذه الدول- سواء كانت إقتصادية أو سياسية أو عسكرية - فى هذه المنطقة، هذا بالأضافة إلى ما يقال عن أثر اللوبى الصهيونى فى تشكيل هذه السياسة المتحيزة لاسرائيل والمعادية للعرب .
وأعتقد أن هذه الأجابات ليست كافية لتبرير هذا التحيز والعداء التام من قبل هذه الدول - وبخاصة إنجلترا وأمريكيا. وسبب عدم كفاية هذا التبرير - حسب رأيى - هو أن هذا الموقف المتحيز ليس من قبيل التحيز المرحلى الذى يتغير حسب سير المصالح وتغيرها، فيكون متحيزاً لأحد الأطراف عندما يجد أن مصالحه وأطماعه تتطلب ذلك. ولكن هذا التحيز - كما أعتقد وسأبين - مبنى على أساس عامل مهم جداً يجعل منه موقفاً مبدئياً لا يتغير بسهولة.
حساب المصالح :
بالرغم من أن تحيز الدول الأوربية وأمريكيا إلى جانب إسرائيل يحقق لها أهداف ومصالح كثيرة ويبقى على أطماعها التوسعية حية فى المنطقة العربية، إلا أنه وفى نفس الوقت يضع مصالح هذه الدول فى خطر كبير لأنه يزيد من حجم العداء لهذه الدول فى المنطقة العربية، بالإضافة إلى أنه يدفع الدول العربية إلى اللجوء إلى دول أو أحلاف معادية لأمريكيا وحلفائها، كما كان الحال قبل إنهيار المعسكر الشرقى .
ومهما حاولنا أن نتكلم عن الأهداف التى تسعى أمريكيا وحلفائها إلى تحقيقها من خلال تحيزها إلى جانب إسرائيل، فإن هذا التحيز بحساب المصالح يعد خاسراً وفيه مغامرة كبيرة لا تحمد عقباها على هذه الدول .
فأمريكيا وحلفائها يمكنهم أن يبقوا على هذه المصالح، بل ويزيدونها من خلال وقوفهم موقفاً عادلاً وليس متحيزاً حيال الصراع العربى الإسرائيلى . فما دامت هذه المصالح مصانة إلى حد ما بالرغم من وجود التحيز الأمريكى الأوروبى لاسرائيل، فأنها ستكون مصانة أكثر لو أن هذا الموقف تغير لصالح القضية العربية .
فالتاريخ لم يشهد محاولة دولة معينة الحفاظ على مصالحها فى منطقة معينة عن طريق معاداتها لدول هذه المنطقة، أو التحيز لمن يعاديها. فأى دولة تريد الحفاظ على مصالحها فى منطقة معينة، تسعى بكل الوسائل إلى تعزيز روابطها بدول هذه المنطقة، وتحاول بقدر المستطاع الإبتعاد عن كل ما من شأنه أن يعكر صفو هذه الروابط، حتى لا ينعكس ذلك على مصالحها . ولهذا فإن حساب المصالح هذا دفع كثير من الدول الأوربية إلى تغيير سياستها حيال الصراع العربى الإسرائيلى، بحيث أصبح هذا الموقف أكثر اعتدالاً ومعقولية من ذى قبل (فرنسا وايطاليا على سبيل المثال)، كما أن هذه الدول تحاول قدر المستطاع الإبتعاد عن كل ما يمكن أن يؤثر سلباً على علاقاتها مع الدول العربية .
ولكن الموقف الأمريكى بالذات بقى كما هو عليه، بل إزداد فى تحيزه ودعمه لإسرائيل . لقد أصبح موقفاً إستفزازياً وعدائياً أكثر من أى وقت مضى، ففى أعقاب كل عدوان إسرائيلى على الامة العربية والشعب الفلسطينى، تجد إسرائيل مكافأة أمريكية تنتظرها، ابتداءاً من صفقات الأسلحة المتطورة والمعونات الإقتصادية الضخمة، وإنتهاءً بإستخدام حق الفيتو ضد أى قرار يكون فى غير صالح إسرائيل .
فأى مصلحة اقتصادية أو عسكرية أو سياسية ستعود على أمريكيا من خلال نقل سفارتها الى القدس الشريف، بالرغم من ادراك صانعى القرار فى امريكيا بالمكانة الخاصة للقدس فى قلوب ملايين العرب والمسلمين والمسيحيين ..؟ بالطبع لا توجد اى مصلحة من هذا النوع، حيث ان هذا القرار كغيره من القرارات الامريكية السابقة سيلحق ضرراً كبيراً بالمصالح الامريكية ليس فى العالم العربى فحسب، بل فى العالم الاسلامى ايضاً عاجلاً أم آجلاً .
كل هذا يجعلنا نفترض أن حساب المصالح كما نفهمه ليس هو المؤثر الوحيد فى هذا التحيز، بل لا بد من البحث عوامل آخرى يمكن أن تبرر هذا التحيز من قبل أمريكيا وإنجلترا بالذات، لصالح إسرائيل والتى يمكن أن تجعلنا نتعرف على السر فى أن إنجلترا وأمريكيا من دون دول العالم هما اللتان جعلتا تحقيق الحلم الصهيونى فى أرض فلسطين حقيقة واقعة . فبفضل وعد بلفور والإنتداب البريطانى على فلسطين، إستطاع اليهود إقامة دولتهم، وبفضل الدعم الأمريكى المتواصل، إستطاعت إسرائيل بناء نفسها والتصدى لكافة الأخطار التى واجهتها . فما هو السر فى ذلك ؟!
هل يعود ذلك إلى نفوذ اللوبى الصهيونى وأثر الصوت اليهودى فى الإنتخابات، كما يحلو لكثير من المحلليين السياسيين أن يفسروه ، أم إلى أمر آخر؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه .
نفوذ اللوبى الصهيونى :
يحاول كثير من المحللين إظهار اليهود كنموذج فريد لمجموعة ناجحة فى كل مجالات الحياة، تستطيع التأثير على صناع القرار فى أمريكيا وإنجلترا من خلال سيطرتها على وسائل الإعلام والإقتصاد فى هذه الدول، ومن خلال ما يلجأون إليه من وسائل لممارسة الضغوط على صناع القرار فى هاتين الدولتين، هذا بالإضافة إلى ما يقال عما يتميز به الزعماء الصهاينة من عبقرية ودهاء وإستغلال للفرص، أمثال هرتزل ووايزمان وسوكولوف وغيرهم . لذلك فإن هؤلاء المحللين يعزون صدور وعد بلفور إلى حاييم وايزمان وطاقاته الجبارة وتصميمه وإخلاصه ومواهبه السياسية والعلمية، كما يعزون نجاح الحركة الصهيونية فى أمريكيا إلى اللوبى الصهيونى القوى وما يتمتع به من تنظيم وما يملك من وسائل للضغط على الرؤساء الأمريكيين .
إن تضخيم نفوذ اللوبى الصهيونى وجعله وكأنه يحكم أمريكيا شئ مبالغ فيه جداً، إلا إذا حاولنا فهم هذا النفوذ على أساس أن هذا اللوبى يعمل فى بيئة سياسية وثقافية ملائمة إلى أقصى الحدود للأفكار الصهيونية التى تلقى الدعم المادى والمعنوى على المستويين الشعبى والحكومى .
كما أن تضخيم دور الزعماء الصهاينة أمثال هرتزل ووايزمان وغيرهم، وجعلهم وكأنهم بذلوا جهوداً خارقة وفوق العادة للحصول على مطالبهم، أمر عارٍ عن الصحة. فالأفكار الصهيونية كانت موجودة قبل ظهور الحركة الصهيونية بفترة كبيرة، وتبناها أشخاص أوربيون وأمريكان فى وقت كان فيه اليهود يرفضون ويحاربون من يفكر بهذه الأمور . وسيتضح لنا هذا الأمر بصورة جلية عند حديثنا عن الحركة الصهيونية والظروف التى ظهرت ة والتى تمكن اليهود من التأثير على سير الأنتخابات. ولو كان لهذه النسبة إى تأثير لكان للمسلمين والعرب فى أمريكيا أثر فى تشكيل السياسة الأمريكية، لأن تعدادهم يزيد عن تعداد اليهود هناك .
كما أن السود يشكلون نسبة كبيرة من السكان، بالإضافة إلى أقليات آخرى، وبالرغم من ذلك لم نسمع عن إى أثر لأصواتهم الإنتخابية ولم نسمع عن إى رئيس أمريكى سعى لإسترضائهم كما يفعل مع اليهود . اذاً فالقضية ليست قضية صوت انتخابى فحسب ..!
تضخيم فى غير محله :
إن هذا التضخيم لأثر الصوت الإنتخابى اليهودى ولأثر اللوبى الصهيونى فى تشكيل السياسة الخارجية لأمريكيا شئ مبالغ فيه وعارٍ عن الصحة . فما كان من الممكن أن يكون للصوت اليهودى واللوبى الصهيونى هذا التأثير لولا وجود عامل مهم - غائب عن تحليلات معظم المحللين السياسيين - يجعل الأمريكيين والإنجليز بعامة، والسياسيين بخاصة يرضخون، بل يتبنون الأفكار الصهيونية.
فى هذه الدراسة سنحاول البحث عن هذا العامل (الغائب) فى مضمون التراث الدينى لدى المسيحيين فى هاتين الدولتين، هذا التراث الذى كان له الدور الاساسى فى كسب التعاطف مع الحركة الصهيونية وبرنامجها الإستيطانى فى فلسطين.

الفصل الأول
اليهود فى
التراث الدينى المسيحى

يستمد التراث الدينى فى كلاً من إنجلترا وأمريكيا، أصوله من المذهب البروتستانتى السائد فى هاتين الدولتين، والذى نشأ مع حركة الأصلاح الدينى التى قادها مارتن لوثر فى القرن السادس عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية فى روما . ولسنا هنا بصدد بحث تفصيلى لمبادئ هذا المذهب، بقدر ما سنحاول إبراز التغيير الجوهرى الذى أحدثه هذا المذهب فى تفكير أتباعه حيال اليهود - ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم - والذى ساعد كثيراً على تعاطف الكثيرين من أتباعه مع اليهود وسعيهم لتحقيق آمالهم فى العودة إلى أرض فلسطين حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بثلاث قرون .
لقد أحدتث حركة الأصلاح الدينى تغييراً جوهرياً - بالمقارنة مع موقف الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الآخرى - فى موقفها من اليهود، بحيث تولدت عن هذا الموقف نظرة جديدة للماضى والحاضر والمستقبل اليهودى .
فقد كانت المبادئ التى جاءت بها حركة الأصلاح الدينى مغايرة تماماً للمبادئ الكاثوليكية فى موقفها من اليهود، ولذلك يصف البعض هذه الحركة بأنها ساهمت فى بعث اليهود من جديد.
موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود :
كان موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود - ولازال مع حدوث بعض التغيرات لصالح اليهود- موقفاً متشدداً، حيث كان ينظر إلى اليهود نظرة عدائية بسبب رفضهم الإيمان بدعوة السيد المسيح وكفرهم بها، ولذلك وصفهم السيد المسيح أكثر من مرة (بخراف بنى إسرائيل الضالة ) وبغيرها من الأوصاف، كما أن اليهود كانوا يعتبرون مارقين وكفرة وإتهموا بأنهم قتلة المسيح .
لذلك لم يكن هناك فى العقيدة الكاثوليكية التى تلتزم بالتفسير المجازى للإنجيل أدنى فكرة أو إحتمال لعودة اليهود إلى فلسطين أو بعث الأمة اليهودية من جديد، لأن هذه الأمة حسب رأيهم إنتهى وجودها بظهور دعوة السيد المسيح .
فرجال الدين الكاثوليك كانوا يعتقدون أن الفقرات الواردة فى العهد القديم والتى تتنبأ بعودة اليهود إلى فلسطين وبمستقبل مشرق لإسرائيل لا تنطبق على اليهود، بل على الكنيسة الكاثوليكية مجازاً، لأن اليهود طبقاً للعقيدة الكاثوليكية إقترفوا إثماً، فطردهم الله من فلسطين إلى منفاهم فى بابل، وعندما رفضوا دعوة السيد المسيح نفاهم الله ثانية، وبذلك إنتهت علاقة اليهود بأرض فلسطين إلى الأبد .
وقد وضح هذه النقطة بطرك الروم الكاثوليك فى دمشق فى كتاب له مؤرخ فى 17-11-1977 حيث قال :
" إنه يفوت بنى قومى أن السيد المسيح نسخ أحكام العهد القديم القومية، فبعد أن لعن سبع لعنات فقهاء العهد القديم (متى 23) ختم بهذا الحكم المبرم قائلاً : هوذا بيتكم يترك خراباً (متى 23-38) وقد تحققت نبوءة السيد المسيح الذى رفضوه ولم يبق لهم وعد الله التوراتى بالأرض المقدسة " (2)
كما أن البعض يرى أن هذه النبوءات تحققت فعلاً، عندما أعادهم الملك الفارسى قورش من منفاهم فى بابل فى القرن السادس قبل الميلاد. ولذلك فليس هناك إى نبوءة آخرى فى العهد القديم تنص على عودتهم ثانية إلى فلسطين بعد عودتهم من الأسر البابلى .
كما أن الكنيسة الكاثوليكية وغيرها من الكنائس الآخرى لم تكن تعترف بأن اليهود هم شعب الله المختار، لأن السيد المسيح حارب بشدة هذه النزعة العنصرية فيهم ودعا اليهود وغيرهم إلى الدخول فى ملكوت الله المفتوح أمام جميع الصالحين " لأن الله لايخص أحداً بالرعاية لأسباب ذاتية، فالشمس تسطع على الجميع سواءٍ بسواء " (3)
وبالنسبة للعهد القديم (التوراة) فقد كان مهملاً قبل حركة الإصلاح الدينى حيث كان الإعتماد الأساسى على العهد الجديد ورسائل الرسل والالهامات الغير مكتوبه للبابوات، وكانت اللغة العبرية لغة ميتة، حيث كانت الأساطير الكاثوليكية ترى أن دراسة اللغة العبرية تسلية الهراطقة، وأن تعلمها بدعة يهودية .
فى ظل هذا الموقف من الكنيسة الكاثوليكية لم يكن هناك إى أمل فى إعادة بعث اليهود أو عودتهم وتملكهم لأرض فلسطين من جديد .
موقف البروتستانت من اليهود :
عندما ظهر المذهب البروتستانتى على يد مارتن لوثر فى القرن السادس عشر، قلب هذه الأمور رأساً على عقب، من خلال التغيرات اللاهوتية التى جاء بها والتى روجت لفكرة أن اليهود أمة مفضلة وأكدت على ضرورة عودتهم إلى أرض فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر وبزوع فجر العصر الالفى السعيد .
وكان من أهم الأسباب التى أدت إلى حدوث هذه التغيرات اللاهوتية، هو ما دعا إليه لوثر من وجوب أقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصى دون الخضوع لفهم رجال الدين لها. فأصبح كل بروتستانتى حر فى دراسة الكتاب المقدس وتفسيره وإستنتاج معنى النصوص بشكل فردى مع عدم الإعتراف بأن فهم الكتاب المقدس وفقاً على رجال الكنيسة وحدهم . وهذا الوضع أدى إلى فتح الباب على مصراعيه أمام أصحاب البدع والأضاليل، مما أدى إلى تعدد الفرق البروتستانتية نفسها حتى وصل عددها الآن إلى أكثر من 200 فرقة فى مذهب لم يتعدى وجوده أكثر من أربعة قرون! (4)
كما أنه فى ظل هذا المذهب أزداد الإهتمام بالعهد القديم (التوراة) تحت شعار العودة إلى الكتاب المقدس بإعتباره مصدر العقيدة النقية، مع عدم الإعتراف بالإلهامات والتعاليم غير المكتوبة التى يتناقلها الباباوات الواحد عن الآخر والتى تعتبر مصدراً مهماً من مصادر العقيدة المسيحية.
وهكذا أصبح العهد القديم يشكل جزءاً مهماً من مصادر العقيدة البروتستانتية، فأصبح هو المرجع الأعلى للسلوك والإعتقاد ومصدراً للتعاليم الخلقية والمعلومات التاريخية أيضاً .
وإذا كان العهد القديم يتكون من 39 سفراً يذهب أغلب الباحثين إلى أنه لايمكن نسبة إلا خمسة أسفار- تجاوزاً- إلى سيدنا موسى، أما الباقية فهى عبارة عن سجل لتاريخ بنى إسرائيل فى فلسطين، بالإضافة إلى بعض الأسفار والنبوءات التى كتبها حاخامات اليهود على فترات متفاوته من الزمن .
فى ظل هذا الوضع أصبح العهد القديم مصدراً مهماً للمعلومات التاريخية عند العامة، حيث إقتصر تاريخ فلسطين على القصص المتعلقة بالوجود اليهودى فيها دون غيرها، وبالتالى أصبح البروتستانت مهيئين للإعتقاد بأنه لم يكن فى فلسطين إلا الأساطير والقصص التاريخية الواردة فى العهد القديم، حيث كان يبدو وكأنه لا وجود للشعوب الآخرى التى عاشت فى فلسطين. وهكذا رسخت فى أذهان البروتستانت فكرة الرابطة الأبدية بين اليهود وفلسطين بإعتبارها وطنهم القومى الذى إخرجوا منه والذى يجب أن يعودوا إليه طبقاً للنبوءات الواردة فى العهد القديم .
كما أن حركة الإصلاح الدينى أعطت وزناً كبيراً للغة العبرية بإعتبارها اللغة الأصلية للكتاب المقدس. فلكى يفهم المؤمنون كلمة الله بشكل صحيح لا بد لهم من معرفة اللغة الأصلية التى كتب بها، وبالتالى أصبح العلماء والمصلحون وحتى العامة منكبين على دراسة اللغة العبرية وتعلمها .
وهكذا يمكننا تقدير الخدمة التى قدمها لوثر لليهود، حيث أعاد بعثهم من جديد وأكد على وجوب عودتهم إلى أرض فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر . لهذا فإن الكنيسة الكاثوليكية كانت تصفه ( بأنه يهودى أو نصف يهودى - متهود) وكان الكاثوليك يقولون : "أن لوثر من أصحاب البدع والأضاليل وإنه وأمثاله زاغوا عن طريق الإيمان" (5)
كما أن كثير من الباحثين يذهبون إلى القول بأن المذهب البروتستانتى أصلاً من صنع اليهود والماسون حيث يقول عبدالله التل فى كتابه (جذور البلاء) :
"وجدت الماسونية فى البروتستانتية خير سند لها فى حربها ضد الكتلكة، وتبادل الفريقان الخدمات، الماسون يساندون البروتستانت لإذكاء الحرب بين الفرق النصرانية، والبروتستانت ينخرطون فى محافل الماسون للإستفاد مة لا تقدر، حسبه أخراج العهد القديم من الخزائن الرطبة والأقبية المظلمة وترجمته وربطه بالعهد الجديد ليصبح جميع مطالعيه ساعين لتنفيذ العهود التى سطرت بعد إبراهيم بقرون وألصقت به"(8)
إن أهمية الأفكار التى جاءت بها حركة الإصلاح الدينى على يد لوثر، تعود إلى أنها مهدت الطريق أمام نفس الأفكار التى نادت بها الحركة الصهيونية فى القرن التاسع عشر من خلال تأكيدها على وجود الأمة اليهودية وضرورة بعث هذه الأمة من جديد وكون فلسطين وطناً لليهود .
فهذه الأفكار التى أكدتها البروتستانتية لا تختلف كثيراً عن الصهيونية كفكرة "والتى تنطوى فى جوهرها على دعوة اليهود للعودة إلى صهيون، إى مناشدة اليهود فى العالم للعودة إلى أرض إسرائيل بحدودها التى ورد ذكرها فى الكتب المقدسة لدى اليهود" (9)
وقد أدى إنتشار الأفكار المتعلقة ببعث الأمة اليهودية بين معتنقى المذهب البروتستانتى إلى سعى الكثيرين منهم لتحقيقها طبقاً للنبوءات الواردة فى العهد القديم، "فمع العودة الى اهمية الكتاب المقدس، قام الاصلاحيون بترجمته الى لغات عديدة . كما اصبحت العودة الى التوراة، وهى القسم الاول والاكبر من الكتاب المقدس، اساسا فى المفهوم الدينى الجديد، ومحورا للتعليم فى المدارس .
وهكذا، مع انبعاث التاريخ القديم، بكل تفاصيله وحكاياته التوراتية، تحولت فلسطين فى الضمير البروتستانتى من الارض المقدسة للمسيحيين، الى ارض الشعب المختار، فآمن البروتستانت بأن اليهود لابد عائدون الى الارض المقدسة كما جاء فى النبوءات التوراتية . وهذا مما ايقظ قضية انبعاث اليهود وعودتهم الجماعية الى فلسطين، حيث يظهر المسيح للمرة الثانية، ويحكم لالف عام . وقد آمن بعض البروتستانت بضرورة اعتناق اليهود للمسيحية تمهيدا لقدوم المسيح، وآمن بعضهم بامكان تحولهم هذا بعد قدومه" (10)
الهوامش
1- الولايات المتحدة وإسرائيل - برنارد ريتش - ترجمة مصطفى كمال - ص 166
2- العدوان الإسرائيلى القديم ، والعدوان الإسرائيلى الحديث على فلسطين - محمد عزة دروزة - ص 6
3- مقارنة الأديان والإستشراق - د. أحمد شلبى - مطبوعات معهد الدراسات الإسلامية ص 119
4- قصة الديانات - سليمان مظهر ، ص 231
5- المسيحية - د. أحمد شلبى ، ص 262
6- جذور البلاء - عبد الله التل ، ص 18
7- الماسونية فى العراء - محمد على الزعبى ، ص 106-107
8- المصدر السابق ، ص 320 .
9- القضية الفلسطينية والخطر الصهيونى - مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، عام 1973 - ص 51 .
10- فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 286


الفصل الثانى
بريطانيا
والمشروع الصهيونى

وطدت حركة الإصلاح الدينى أقدامها فى إنجلترا منذ أن إنفصل الملك هنرى الثامن عن كنيسة روما فى القرن السادس عشر، حيث "ظهرت فى بريطانيا، بين عدد من المسيحيين البروتستانت، رجالاً ونساءً، حركة تدعى (حركة العودة) وهى حركة منطلقة من ايمان المسيحيين بعودة اليهود الى فلسطين . وقد اعتقد رواد هذه الحركة ان على العالم ان يساعد اليهود فى استعادة فلسطين . وسيتضح ان مشكلة هؤلاء الرئيسية لم تكن فى اقناع العالم بل فىاقناع اليهود انفسهم" (1).
وقد اسسس هذه الحركة عالم اللاهوت توماس بريتمان، حيث لاقت دعوته آذانا" صاغية من الكثير من الكبار امثال القاضى وعضو البرلمان هنرى فنش، الذى أصدر أول كتاب عن الصهيونية فى لندن فى سنة 1628 (2) وقد كان فنش من المؤمنين بفكرة العصر الالفى السعيد، والتى تعنى عودة المسيح المنتظر الذى سيقيم مملكة الله فى الأرض والتى ستدوم ألف عام، ولابد من عودة اليهود إلى أرض فلسطين كمقدمة لذلك .
ثم وصلت حركة الإصلاح الدينى إلى ذروتها فى إنجلترا فى القرن السابع عشر فى عهد ما يسمى بالثورة البوريتانية، عندما تولى أولفرت كروميل السلطة وأعلن الجمهورية . "والحركة البيوريتانية (حركة التطهر) والتى ظهرت وانتشرت فى القرنين السادس عشر والسابع عشر ، هى الحركة التى حولت الافكار والمبادئ الدينية المتعلقة باليهود الى عقيدة سياسية، اهم افكارها : فكرة وجود، الشعب اليهودى، وفكرة، عودة الشعب اليهودى الى فلسطين، وفكرة، استيطانه وسيادته فى فلسطين " (3)
ففى عهد البيوريتاريين ازداد الإهتمام بالعهد القديم بشكل كبير، واصبح كتابهم الوحيد الذى يستمدون منه فلسفتهم وأفكارهم ومعتقداتهم وطريقة سلوكهم. كما إزداد فى عهدهم الإهتمام باللغة العبرية بشكل كبير جداً حتى جعلها بعضهم اللغة الوحيدة للصلاة وتلاوة الكتاب المقدس، وأقترح بعضهم أن يتضمن منهج التعليم العام فى المدارس الثانوية دراسة العبرية، وظهرت لديهم نزعة التخلى عن المبادئ الخلقية المسيحية وإستعاضوا عنها بالعادات والأخلاق اليهودية، بل إن إحدى مجموعاتهم المتطرفة دعت الحكومة الإنجليزية لإعلان التوراة دستوراً للقانون، وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فإعتنق اليهودية، أما الذين بقوا على مسيحيتهم فقد أخذوا ينظرون بعطف متزايد إلى اولئك الذين أطلقوا عليهم إسم شعب الله القديم (اليهود)" (4) وقد انتشرت الحركة البوريتانية بمبادئها وافكارها، خارج بريطانيا، وكان نشاطها الطويل نواة للاهتمام البريطانى بالمسألة اليهودية .
المطالبة بإعادة اليهود إلى فلسطين :-
كان من نتائج إنتشار البروتستانتية فى إنجلترا، ظهور حركة منظمة تنادى بإعادة اليهود إلى فلسطين . ففى عام 1649 قام أثنان من الإنجليز المقيمين فى أمستردام برفع عريضة إلى حكومتهم يطلبون فيها بذل جهد مشترك مع هولندا لتوطين اليهود فى فلسطين، حيث جاء فى العريضة :
"ستكون هذه الأمة الإنجليزية مع سكان الإراضى المنخفضة (هولندا) أول الناس وأكثرهم إستعداداً لنقل أبناء إسرائيل وبناتها إلى الأرض التى وعد بها أجدادهم إبراهيم وإسحق ويعقوب كأرث باق أبداً" (5)
ولم تكن هذه الأفكار سائدة فى إنجلترا وحدها فى هذه الفترة، بل أنها إمتدت إلى المناطق الآخرى من أوروبا والتى أصبحت البروتستانتينية راسخة الأقدام فيها مثل هولندا وبلجيكيا ومجموعة الدول الإسكندنافية.
وبالرغم من أن هذه أن هذه الأفكار كانت تخبو من حين لآخر، ولاقى الكثير من المؤمنين بها الإزدراء والتعذيب، إلا أن الكتابات الكثيرة التى روجت لهذه الأفكار ساعدت على تعزيز فكرة العودة اليهودية إلى فلسطين .
الأفكار الصهيونية تغزو عقول الطبقات المثقفة :-
تأثر كثير من الأدباء والفنانين بأفكار وأساطير العهد القديم، وأصبح مصدر ألهام لكثير منهم "فقد فسحت الاجواء البروتستانتية المجال واسعاً امام اليهودية لدخول عالم الفن والادب، وما عادت اهمية التوراة تنحصر فى كونها كتاباً دينياً، اذ اضحت مرجعاً لتعليم الاخلاق. وهكذا انطلقت اليهودية مع عصر النهضة ركناً اساسياً فى الفكر الاوروبى الحديث، ومصدر الهام لشعراء الغرب وادبائه ورساميه" (6)
و " اليوم تضم اكبر متاحف الدنيا واهمها، اللوحات الزيتية للفنانين المسيحيين البروتستانت، الذين خلدوا مرحلة وهج الاصلاح الدينى برسمهم حكايات التوراة وانبياء التوراة عوضا من القديسين. ويحتل رمبراندت الرسام الهولندى البروتستانتى مكان الصدارة فى بعث المشاهد الاسرائيلية القديمة وشخصياتها . فقد استلهم رمبراندت التوراة عندما رسم العديد من اللوحات لإبراهيم ويعقوب وشاول وشمشون وإستر وداود، كما إنه استلهم الحياة اليهودية المعاصرة، فرسم عروساً يهودية ولوحة ليهودى طاعن فى السن" (7)
اما فى مجال الادب فقد أصبح أنبياء اليهود يحتلون بالتدريج مكانة الأبطال اليونانيين الكلاسيكين فى عالم الأدب الغربى. كما شاعت شخصيات العهد القديم فى الاعمال الأدبية حتى أن بعض هذه الأعمال حملت أسماء بعض شخصيات العهد القديم، مثل (استر) و(ناتان الحكيم).
بالاضافة الى ذلك كان بعض الفلاسفة والعلماء من المؤمنين بضرورة عودة اليهود إلى أرض فلسطين. فقد جاء فى كتاب (تعليقات على رسائل القديس بولس) الذى كتبه الفيلسوف الانجليزىجون لوك، قوله : "إن الله قادر على جمع اليهود فى كيان واحد وجعلهم فى وضع مزدهر فى وطنهم" (8)
كما أن اسحق نيوتن مكتشف قانون الجاذبية، فى كتابه (ملاحظات على نبوءات دانيال ورؤيا القديس جون) توصل إلى أن اليهود سيعودون إلى وطنهم، وحاول أن يضع جدولاً زمنياً للأحداث التى ستفضى لذلك، وتوقع تدخل قوة أرضية من أجل إعادة اليهود المشتتين" (9) وكان جوزيف برستلى - مكتشف الأوكسجين - شديد الإيمان بعودة اليهود إلى فلسطين، بشرط تحولهم إلى المسيحية، حيث كان هذا الرأى السائد بين البروتستانت .
وهكذا فقد كان القرن السابع عشر هو العصر الذهبى لإنتشار الأفكار الدينية المتعلقة بعودة اليهود إلى فلسطين .
تغير فى الأفكار :-
شهد القرن الثامن عشر فترة عدم إستقرار فى أوروبا بسبب كثرة الحروب وما تبعها من ثورات، حيث بدأ يظهر تغير فى مضامين الأفكار المتعلقة بعودة اليهود إلى فلسطين .
فبعد أن كانت هذه الأفكار تحمل الطابع الدينى البحث، تسربت إليها الأفكار السياسية، حيث أصبح للقوى الأرضية دور يجب عليها أن تقوم به لكى تعيد اليهود إلى فلسطين، هذا التدخل الذى كان مرفوضاً قبل ذلك حتى من اليهود أنفسهم الذين كانوا يرون أن عودتهم إلى أرض فلسطين لا بد وأن تتم بتدخل قوة إلهية. وربما كانت جماعة حراس المعبد (ناطورى كاترا) من الجماعات القليلة التى بقيت محافظة على هذه العقيدة، حيث ترى هذه الجماعة " أن دولة إسرائيل هى ثمرة الغطرسة الآثمة للكافرين العلمانيين من أتباع الحركة الصهيونية الذين تحدوا مشيئة الرب بإنشاء الدولة دون إنتظار تدخله على شكل معجزة وظهور المسيح المخلص الذى يعتبر فى نظرهم الوحيد القادر على إقامة دولة إسرائيل لتكون مملكة للكهنة والقديسين" (10)
كما إن فكرة تحول اليهود إلى المسيحية كأمر لازم لعودتهم إلى أرض فلسطين لم تعد ضرورية، ففى عام 1800م نشر جيمس بيشنو - وهو من المؤمنين بالعصر الألفى السعيد - كتابه (عودة اليهود أزمة جميع الأمم) والذى إعتبر فيه عودة اليهود إلى فلسطين قضية دولية، بالإضافة إلى أنه لم يربط عودتهم بتحولهم إلى المسيحية كما كان سائداً قبل ذلك (11) حيث اصبح الاعتقاد السائد بأن اليهود سيدخلون المسيحية بظهور المسيح المنتظر الذى سينقذهم من اعدائهم .
اللورد شافتسبرى :-
حمل القرن التاسع عشر تطوراً بارزاً فى طبيعة (حركة العودة)، حيث ظهرت جماعات بروتستانتة تعتبر عودة اليهود الى ارض اجدادهم ركناً اساسياً فى عقيدتها . ففى هذا القرن شهدت إنجلترا نهضة دينية جديدة مشابهة فى مبادئها ومعتقداتها لتلك التى كانت سائدة فى عهد الثورة البوريتانية، وكان من أبرز ممثلى هذه الفترة اللورد شافتسبرى الذى كان مؤمناً بضرورة قيام دولة يهودية فى فلسطين تحقيقاً للنبوءات التوراتية .
فقد نشر فى عام 1839م مقالاً فى إحدى الصحف، لخص فيه فكرته عن العودة اليهودية، التى تقوم على أساس تدخل البشر لتحقيق نبوءات العهد القديم المتعلقة بعودة اليهود إلى فلسطين . كما " تقدم اللورد شافتيسبرى بمشروع الى وزارة الخارجية البريطانية لاستيطان اليهود فى فلسطين، على ان يخضعوا للحكم القائم فى البلاد، وطالب بضمانات من الدول الأربع الكبرى.
ولكن لم ينجح مشروع شافتيسبرى، غير ان صاحبه لم يعرف اليأس، وانتظر مناسبة اخرى، فلما كانت حرب القرم بين العثمانيين والروس على وشك الوقوع سنة 1854، سجل فى مذكراته ان المنطقة فى غليان، وانها مقبلة على تغيرات، وان عدداً كبيراً من المناطق سيصبح بلا حكام . ولما تساءل عن القوة التى يمكن اعطاؤها فلسطين، وهل ستكون امريكيا ام احدى دول الشرق؟ رد على تساؤله بنفسه وفى مذكراته، كالآتى : " لا . لا . لا. هناك بلد بلا شعب، والله يوجهنا الآن بحكمته ورحمته نحو شعب بلا وطن" وقد تبنى الصهاينة فيما بعد هذه الجملة، واصبحت من اول الشعارات الصهيونية، كالآتى: "ارض بلا شعب، لشعب بلا ارض" (12)
وقد كان شافتسبرى يعتقد أن فلسطين بلداً مهجوراً من السكان، حيث كان كغيره من المتدينين البروتستانت الذين" نظروا الى فلسطين من زاوية انها ارض التوراة وعهد التوراه، وما رأوا فيها شيئا غير ذلك، حيث أنهم ارادوا بعث الماضى حياً امام اعينهم، وهذا ما دعاهم، بوعى منهم وبلا وعى، الى اغماض عيونهم عن كل ما لا يريدون رؤيته" (13)
لهذا قام شافتسبرى بتأسيس صندوق إستكشاف فلسطين فى عام 1865م حيث قال فى الخطاب الإفتتاحى الذى ألقاه بمناسبة تعينه رئيساً للصندوق : "دعونا لا نتأخر فى إرسال أفضل العلماء لتنقيب طول فلسطين وعرضها ولمسح الأرض وتغطية كل زاوية فيها إذا أمكن، ولتجفيفها وقياسها، إى إذا شئتم لإعدادها من أجل عودة مالكيها القدماء. إذ ينبغى على أن أعتقد بأنه لن يطول الزمن كثيراً قبل أن يقع هذا الحدث العظيم" (14)
وإعتقاد شافتسبرى وغيره عن أرض فلسطين بأنها أرض خالية، يخالف الواقع الذى يحاول الصهاينة طمسه لأغراض دعائية. فهذا السير مونتفيور - وهو من المؤمنين بضرورة إعادة اليهود إلى أرض فلسطين - والذى زار منطقة صفد فى عام 1839م يقول : "إنه رأى مساحات من أشجار الزيتون عمرها على ما أعتقد يزيد عن 50 سنة، وكروماً ومراعى شاسعة وآبار كثيرة، وكذلك التين والبندق والليمون، والتوت وغيرها ... إلخ ... وحقولاً غنية بالقمح والشعير والعدس" (15)
ولكن شافتسبرى وغيره أرادوا من خلال زعمهم السابق، إقناع الحكومة الإنجليزية والشعب الإنجليزى بالدرجة الأولى، بوجوب الإسراع بتوطين اليهود فى فلسطين والإعداد لذلك عن طريق إنشاء مزيد من الجمعيات والمنظمات التى تقوم بإجراء الأبحاث والدراسات حول فلسطين .
وفعلاً فقد شهد القرن التاسع عشر زيادة كبيرة فى عدد الجمعيات والمنظمات التى تدعى أنها تهدف إلى إستكشاف فلسطين وتطويرها، وكأن هذه الأرض خالية من السكان !!
ومما يجدر ذكره ان فلسطين تعرضت منذ اواخر القرن الخامس عشر "كغيرها من بلاد المشرق الغنى بتاريخه وآثاره، لرحلات متعددة قام بها رحالة وعلماء اجانب، افراد وجماعات . الا ان فلسطين قد لاقت - من دون سائر بلاد الشرق - اهتماماً خاصاً، لكونها ارض التوراة ومهد المسيح، فتوجهت اليها انظار اللاهوتيين والعلماء لدراسة ارضها وتربتها ومناخها وآثارها، وللتنقيب عن اى اثر او دليل يعود الى العهد التوراتى" (16) حيث "كانت الدوافع الدينية - احيانا- وحدها البارزة وراء البعثات الاستكشافية . ومن ابرز الامثلة، الامريكى ادوارد روبنسون الذى ابندأ يعمل مع تلميذه وصديقه ايلى سميث فى منطقة القدس منذ سنة 1838. وقد اعترف منافسه السويسرى تيتس توبلر بأن اعمال روبنسون، فى جغرافية فلسطين، تتجاوز فى اهميتها اعمال السابقين جميعاً. اما الكابتن ويلسون، وهو الذى كان من المتطوعين الاوائل منذ سنة 1866 لعمليات المسح فى القدس وضواحيها، فقد كان يعلن امام الجميع العطف الكبير الذى كان يحمله دوماً لاستيطان اليهود فى فلسطين .
كذلك كان يعلن زميله كيتشنر صراحة ان عمله فى فلسطين ليس كباحث آثار فقط وانما كرجل سياسى ايضا، لذلك، فهو يتفحص البلاد ارضها وتربتها تمهيدا لـ "الاستيطان اليهودى وللمستقبل المشرق الذى يبدو ان فجره سوف يطل على هذه الارض .
ويبقى الاسم الاول البارز بين هؤلاء اسم الكابتن كلود كوندر (1848-1910)، ويعود ذلك الى حماسته الصهيونية التى لا حد لها، والى العمل الذى قام به، برسم خريطة مفصلة تشمل فلسطين كلها، وقد سميت حينئذ فلسطين الغربية . اما فلسطين الشرقية (الاردن حالياً) فقد كانت هى الاخرى هدفاً للاستيطان اليهودى، وكانت مهمة كوندر الاساسية ان يضع على الخريطة الاماكن التوراتية، وان يرسم الحدود لقبائل بنى اسرائيل الاثنى عشر .
وقد اتاح هذا العمل الفرصة لكوندر كى يتعرف على فلسطين اكثر من غيره. وقد نشر العديد من الكتب والمقالات عن تاريخ فلسطين وحاضرها ومستقبلها، فكان اكثر كاتب بريطانى "صهيونى" انتاجاً . وهو الذى وصفه المؤرخ اليهودى سوكولوف بأنه افضل عالم وخبير بفلسطين فى عصره . وحين اعلن هيرسل قيام "الصهيونية" رسميا فى بازل، كان كوندر من اوائل الذين اعتنقوها. كما انه وافق فوراً على خطة لورانس اوليفانت باستيطان اليهود ارض جلعاد، شرقى الاردن، وقدم له خبرته فى شؤون الارض والناس " (17)
وهكذا مهدت اعمال بعثة (صندوق استكشاف فلسطين) الذى انشأه شافتسبرى، بالاضافة الى شهادات الرحالة والعلماء وكتاباتهم، دربا" واضح المعالم للصهيونية السياسية، كما ساهمت فى زرع فكرة (فلسطين الكبرى) التى اصبحت (اسرائيل الكبرى) "(18)
وبالرغم من أن شافتسبرى كان من أبرز المهتمين بعودة اليهود إلى أرض فلسطين فى القرن التاسع عشر، إلا أن هناك كثير من ذوى المكانة والنفوذ عملوا جادين لتحقيق هذا الهدف. فقد كان هناك نبلاء بريطانيون وعلى رأسهم دوق كنت وكثير من أعضاء مجلس اللوردات، بالإضافة إلى أدباء وشعراء عبروا عن عطفهم وإعجابهم بالشعب اليهودى ودعوه للعودة إلى أرضه فى فلسطين ؟
"فلم يكن شافتيسبرى - بحماسته اللامحدودة - نسيجاً وحده، بل كان واحداً من مجموعة من كبار الانكليز الذين صرفوا جل اهتمامهم وعملهم، فى العقدين الخامس والسادس من القرن التاسع عشر، من اجل اعادة اليهود الى فلسطين . ومن هؤلاء البارزين الكولونيل تشارلز هنرى تشرشل الذى كان قنصلاً سابقاً لبريطانيا فى دمشق، فقد كان من كبار المتحمسين للدولة اليهودية، ومن المؤمنين بأن مهمة بريطانيا التاريخية ان تقود اليهود المعذبين فى عودتهم الى وطنهم الاصلى .
فقد بعث الكولونيل تشرشل برسالة الى السير موسى مونتفيورى، احد اقطاب اليهود الاثرياء، يناشده فيها ان يأخذ اليهود قضيتهم على عاتقهم، وهذا امر لابد منه، اذ تبقى لليهود خطوة البداية. وليتقدم الحركة الاشخاص اليهود البارزون فى مجتمعهم. فليجتمعوا، وليتفقوا وليقدموا العرائض .
وقد فاقت حماسة تشرشل الانكليزى عشرات المرات حماسة اليهود الذين كان يخاطبهم. فقد كانت اقصى ردة، لمونتفيورى على حماسة تشرشل، انه اكتفى ذات مرة باعطائه مبلغاً من المال كى يوزعه على فقراء اليهود لدى عودته الى الشرق . اما ردة فعل مجلس ممثلى اليهود فى لندن، على رسالة مماثلة، فقد كانت فى منتهى البرودة والحذر، وتذرع المجلس بضرورة استشارة اليهود فى كل اوروبا" (19)
" اما الكولونيل جورج غولير، الحاكم البريطانى السابق فى جنوب استراليا، فقد كان يعتبر ابرز هؤلاء المنادين بعودة اليهود، مع مساعدة بريطانيا. فمنذ عودته من استراليا الى بلده، كرس نشاطه للمسألة اليهودية، وقد تفوق على رفاقه لكونه خبيراً بالادارة، وخبيراً بالاستعمار ووسائله . يقول فى تقديمه لمشروعه الصهيونى :
" اننى بفضل العناية الالهية... تمكنت من تأسيس اروع مستعمرة ظهرت حتى الآن فى العالم كله. ولذلك فإننى اطمح جاداً الى ان اصبح مستشاراً فى شأن تأسيس اهم مستعمرة يمكن للعالم ان يشهدها - اول مستعمرة يهودية فى فلسطين" (20)
اليهود فى الأدب الإنجليزى :-
إنعكس التعاطف مع اليهود وآمالهم فى العودة إلى فلسطين على الأدب الإنجليزى كما اشرنا سابقا". حيث اصبح انبياء اليهود يحتلون بالتدريج مكانة الابطال اليونان الكلاسيكين فى عالم الادب الغربى . وحتى اليهود باتوا يصورون كشخصيات متميزة . وجاءت مرحلة حل الادب فيها مكان النهج الدينى، ولمعت اسماء عديدة من الشعراء والادباء الذين انصرفت اقلامهم الى وصف الشخصيات والصفات اليهودية . وقد فاقت حماسة البعض منهم فى تأييده عودة اليهود الى فلسطين، كل تصور .
فحتى بداية القرن التاسع عشر كان اليهودى يصور فى القصص الإنجليزى إما على صورة (شايلوك) أو (اليهودى التائه)، غير أن روايتى (هارنغتون) 1817 لماريا ادجورت، و(ايفنهو) 1811، للسير والتر سكوت قدمتا مفهوماً جديداً لليهودى بأبرازه على أنه شخصية طيبة. لقد وجدت ثمة بادرة عابرة حملت بذرة هذا التغيير فى رواية طوباياس كوليت (مغامرات فرديناند كونت فادم- 1753) التى قدمت ميتاسا على أنه إسرائيلى سخى يمارس فعل الخير مع كلاً من اليهود والأمميين بطريقة سوية " (21)
لقد ساهم فى هذا التغيير عدد من الشعراء الكبار امثال جون ملتون، وكوليريدج، واللورد بايرون، ووليان بليك، ووليام وردزوورت، وروبرت براونينغ . وكان من الروائيين والتر سكوت الذى ابتدع شخصية ربيكا فى روايته الشهيرة " آيفنهو " واسكندر دوماس الابن الذى نادى بلسان احدى بطلاته المسرحيات بوطن دائم للشعب اليهودى. اما دزرائيلى، الذى اصبح رئيسا للوزراء فى بريطانيا، فقد الف العديد من الروايات، تضمنت اثنتان منها، محتوى سياسياً صهيونياً واضحاً . وقد كان دزرائيلى من كبار المتحمسين للصهيونية " (22)
وعندما جاء النصف الثانى من القرن التاسع عشر تبنى كلاً من روبرت براونتج و جورج اليوت، قضية عودة اليهود إلى فلسطين. فقد جاء فى قصيدة براوتنج ( يوم الصليب المقدس ) عام 1855 قوله :
سيرحم الله يعقوب
وسيرى إسرائيل فى حماه
عندما ترى يهودا القدس
سينضم الغرباء
وسيتشبت المسيحيون ببيت يعقوب
هكذا قال النبى وهكذا يعتقد الأنبياء . (23)
أما جورج اليوت، فقد كتبت فى عام 1874 رواية دانيال ديروندا، حيث تعتبر هذه الرواية أول رواية صهيونية - ولو جزئياً - فى تاريخ الأدب الإنجليزى. "وقد إعتبرت (انسيكلوبيديا الصهيونية وإسرائيل) أن رواية دانيال ديروندا كانت مقدمة أدبية لوعد بلفور" (24) فإمكانية وجود أنبياء وقادة بين اليهود على غرار العهد القديم، تبدو واضحة فيها، وكذلك تظهر الشخصية اليهودية والتراث اليهودى فى أعلى مجدها وشاعريتها. كما أن هدف إنشاء جمهورية يهودية بحثة مرسوم ليس فقط كإمكانية وإنما كواجب" (25) فالكاتبة جعلت من دانيال بطلاً صهيونياً يكتشف بنفسه قوميته وإرثه اليهودى .
يقول ديروندا بعد لقائه بموردخاى : "إن الفكرة التى تتمكن منى هى إستعادة وجود سياسى لشعبى، جعلهم أمة آخرى، إعطائهم مركزاً قومياً، مثلما للإنجليز. إنها مهمة تتقدم إلى كواجب ... وأنا مصمم على تكريس حياتى لها، على الأقل قد أتمكن من إيقاظ حركة فى العقول الأخرى مثلما أوقظت فى عقلى" ( البحار، وأصبحت السلطتان الدينية والدنيوية تتاجران بضرورة عودة اليهود إلى فلسطين .
وهكذا تم خلال هذا القرن ربط الأفكار الدينية مع المتطلبات السياسية للإمبراطورية البريطانية، ومنذ ذلك الحين بدأ ما وصفه دافيد بولك "بالاتحاد العجيب بين السياسة الإمبراطورية ونوع من الصهيونية المسيحية الأبدية التى تتجلى فى السياسة البريطانية فيما بعد" (28)
فقد كانت سياسة بريطانيا تجاه فلسطين فى هذا الوقت، تغذيها عدة عوامل أهمها :
1- محاولتها الحفاظ على ميزان القوى فى أوروبا .
2- تأمين تجارتها مع الهند المهددة من فرنسا وروسيا .
3- الحد من طموحات محمد على فى توسيع دولته .
كما أن بريطانيا كانت مهتمة بالشرق الأوسط وبخاصة فلسطين لأهميتها الإستراتيجية للإمبراطورية البريطانية. ولذلك سعت لكى توجد لها موطئ قدم فى هذه المنطقة الإستراتيجية، فكانت بحاجة إلى من تحميه فى هذه المنطقة ليرعى مصالحها، وليكون ذريعة لتدخلها فى المنطقة عندما تجد أن هذه المصالح فى خطر.
فقد كانت فرنسا تتمتع بنفوذ فى المنطقة بإعتبارها حامية المسيحيين الكاثوليك، وكانت روسيا قد حصلت على حق حماية مصالح الرعايا الأرثوذكس. لهذا سعت بريطانيا للتحالف مع الدولة العثمانية ودعمها لكبح جماح الأطماع التوسعية الروسية والفرنسية، وأطماع محمد على فى بلاد الشام. وقد كانت بريطانيا تعتقد أن توطين اليهود فى فلسطين هو الذى يمكن أن يحقق هذا الهدف .
اللورد بالمستون :
عندما تولى اللورد بالمستون وزارة الخارجية فى عام 1830 كان أهم نصير سياسى لمشروع اللورد شافتسبرى الخاص بإعادة اليهود إلى فلسطين، هذا بالرغم من أنه لم يكن بروتستانتنياً مؤمناً ولم يكن من الرجال الذين تؤثر فيهم الأفكار الدينية . إلا أنه كان سياسياً محنكاً، حيث أدرك ما فعلته الأفكار البروتستانتية المتعلقة بعودة اليهود إلى أرض فلسطين، من آثار فى الرأى العام البريطانى . ولذلك كانت خطوته الأولى أفتتاح قنصلية بريطانية فى القدس فى عام 1838 بناءً على إلحاح اللورد شافتسبرى، وقد كانت تعليمات بالمستون للقنصل الجديد تنص على أن من بين مهامه حماية كل اليهود المقيمين فى فلسطين. وقد قام اللورد شافتسبرى بوداع القنصل الجديد حيث عبر فى مذكراته الخاصة بالمناسبة، عن أمله بأن يأتى اليوم الذى ستحفر فيه فلسطين وتنقب، ويومذاك "تبرهن الأرض المقدسة على مصداقية التوراة وصحتها"(29)
لقد كان بالمستون يرى أن إستيطان اليهود فى فلسطين سيحقق للمصالح البريطانية مكسبين:
الأول: ارضاء الرأى العام البريطانى المتدين الذى يتشوق الى اعادة اليهود الى فلسطين، مما سيساهم فى ايجاد مجموعة موالية لبريطانيا فى منطقة ليس لها فيها من يواليها.
الثانى: أن إستيطان اليهود فى فلسطين، وتدفق أموالهم إليها، سيدعم تركيا المنهارة والتى سعى بالمستون إلى تجديد شبابها لكى تستطيع الوقوف فى وجه الأطماع الروسية والفرنسية من جهة، ومحاولات محمد على الإستيلاء على بلاد الشام من جهة آخرى .
وقد حاول بالمستون إستغلال النفوذ البريطانى لدى الباب العالى على أثر التدخل الإنجليزى الناجح ضد حملة إبراهيم باشا فى بلاد الشام - هذا التدخل الذى أدى إلى فشل هذه الحملة - أراد بالمستون إستغلال هذا النفوذ لكى يحث السلطان على القيام بعمل ملموس لتوطين اليهود فى فلسطين . ففى عام 1840 وجه بالمستون رسالة إلى السفير الإنجليزى فى القسطنطينية قال فيها :
" لا تتوانى عن متابعة نصحى للباب العالى بدعوة اليهود للعودة إلى فلسطين. إنك لا تدرى مدى ما سيثيره مثل هذا الإجراء من إهتمام المتدينين فى هذا البلد بقضية السلطان. إن نفوذهم كبير وإتصالاتهم واسعة، فضلاً عن ذلك، فإن هذا الإجراء فى حد ذاته سيكون ذا فائدة كبيرة للسلطان، إذ سيجلب إلى ملكه عدداً كبيراً من الأثرياء الرأسماليين الذين سيوظفون الناس ويثرون الإمبراطورية " (30)
وهكذا نرى أن بالمستون كان مدفوعاً لتوطين اليهود فى فلسطين بدافع دينى - لإرضاء الرأى العام المتدين، صاحب النفوذ- وبدافع سياسى . فبالمستون لم يكن بوسعه أن يهمل ضغوط الرأى العام البريطانى الذى يؤيد أقامة دولة يهودية فى فلسطين .
" ففى عام 1839 تلقى بالمستون مذكرة من هنرى اسن ، سكرتير البحرية البريطانية ، رفعها نيابة عن الكثيرين ممن ينتظرون تحرير إسرائيل. وكانت المذكرة موجهة إلى كل دول شمال أوروبا وأمريكيا البروتستنتية، وتطالب الحكام الأوربيين بأن يقتدوا بقورش وينفذوا إرادة الله عن طريق السماح لليهود بالعودة إلى فلسطين . وقد قام بالمستون برفع المذكرة إلى الملكة فكثوريا التى كانت معروفة بورعها "(31)
ولم يكن بالمستون ، الوحيد فى وزارة الخارجية ، المؤمن بأهمية توطين اليهود فى فلسطين من الناحيتين السياسية والدينية ، بل إن هناك الكثيرين غيره كانوا يوافقونه وجهة النظر هذه ، أمثال إدوارد متفورد ولورانس اوليفرنت وغيرهما .
القس وليام هشلر :-
كان القس هشلر، الذى كان يعمل ملحقاً فى السفارة البريطانية فى فينا، من أكثر المتحمسين لفكرة إعادة اليهود إلى فلسطين فى نهاية القرن التاسع عشر " فقد قام فى عام 1882 بعقد مؤتمر مسيحى فى لندن، دعا إليه كبار المسيحيين للنظر فى توطين اليهود المهاجرين من رومانيا وروسيا فى فلسطين " (32)
وقد زار هشلر فلسطين أكثر من مرة وألف فى عام 1894 كتاباً بعنوان (إعادة اليهود إلى فلسطين حسب نبوءات الأنبياء) حيث توصل فيه من خلال بعض الحسابات إلى أن اليهود سيعادون إلى فلسطين فى عام 1897-1898. كما أن القس هشلر نشر مقالاً فى العدد الأول من صحيفة (دى فلت) اليهودية، إختتمه بقوله :
" أفيقوا يا أبناء إبراهيم ، فالله ذاته الأب السماوى ، يدعوكم إلى الرجوع إلى وطنكم القديم " (33)
وأثناء عمل هشلر فى السفارة البريطانية فى فينا ، قدم له أحد أصدقائه كتاب (الدولة اليهودية لهرتزل) فلم يكد هشلر يفرغ من قراءة الكتاب حتى هرع إلى سفير بلاده قائلاً :
" إن الحركة التى قدرها الله من قبل قد جاءت " (34) يقصد الحركة الصهيونية - وبعد قراءته الكتاب طلب عقد لقاء مع هرتزل، حيث إستطاع هرتزل بفضل هذا اللقاء، مقابلة قيصر ألمانيا، والذى كان يأمل منه أن يستغل نفوذه لدى الباب العالى ليقنعه بتوطين اليهود فى فلسطين، ولكن هذا المسعى لم ينجح بسبب رفض السلطان عبد الحميد لذلك .
الهوامش
1. فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 292
2. فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 292
3. فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 287
4. الصهيونية غير اليهودية - د. ريجينا الشريف - ص 53 .
5. الصهيونية والصراع الطبقى - د. صادق جلال العظم - ص 54 .
6. فلسطين ، القضية * الشعب * الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 287 .
7. فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 288
8. الصهيونية غير اليهودية - د. ريجينا الشريف - ص 73 .
9. المصدر السابق - ص 79 .
10.أزمة الفكر الصهيونى - د. محمد ربيع - ص 80 .
11.الصهيونية غير اليهودية - د. ريجينا الشريف - ص 87
12.فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 295
13.فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 309
14.الصهيونية والصراع الطبقى - صادق جلال العظم - ص 87 .
15.تيودور هرتزل عراب الحركة الصهيونية - مؤسسة الدراسات الفلسطينية - ص 94
16.فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 301
17.المصدر السابق - ص 303-305
18.المصدر السابق ص 305
19.المصدر السابق ص 296
20.المصدر السابق ص 298
21.الشخصية اليهودية فى الأدب الإنجليزى - د. هانى الراهب - ص 5 .
22.الصهيونية غير اليهودية - د. ريجينا الشريف - ص 97 .
23.فلسطين ، القضية * الشعب * الحضارة - بيان نويهض الحوت _ ص 290 .
24.الشخصية اليهودية فى الأدب الإنجليزى _ د. هانى الراهب - ص 53
25.المصدر السابق - ص 71 .
26.فلسطين ، القضية * الشعب * الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 290 .
27.المصدر السابق - ص 287-288
28.إفلاس النظرية الصهيونية - نصر شمالى - ص 81 .
29.فلسطين ، القضية * الشعب * الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 302 .
30.الصهيونية غير اليهودية - د. ريجينا الشريف - ص 124 .
31.المصدر السابق - ص 121 .
32.فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 301 .
33.الاستعمار وفلسطين - رفيق النتشة - ص 169
تيودور هرتزل عراب الحركة الصهيونية - ص 49

الفصل الثالث
ظهور الحركة الصهيونية
يعزو معظم الكتاب والمحللين- المهتمين بالقضية الفلسطينية - للحركة الصهيونية، القيام بالدور الاساسى فى إقامة دولة اسرائيل، ويضفون على زعماء هذه الحركة هالة من العبقرية والدهاء والقدرة على المناورة واستغلال الفرص، واستعمال وسائل الضغط المختلفة على الحكومات وصانعى القرار، من خلال ما يقال عن سيطرة اليهود على الاقتصاد العالمى .
فقد احتلت الكتابات والدراسات المتعلقة بالحركة الصهيونية حيزاً كبيراً فى الادبيات العربية خلال القرن الحالى، ولكنها جميعاً لم تستطع وضع هذه الحركة فى حجمها الطبيعى، وبيان دورها الحقيقى فى قيام اسرائيل، والذى لم يكن فى احسن الاحوال الا كصدى للافكار التى انتشرت بين المسيحيين البروتستانت .
ولذلك فإنه ليس من المغالاة فى شئ القول ان الصهيونية غير اليهودية كانت قد انتشرت فى اوروبا، ووصلت فكرا" وتخطيطا" الى اعلى مراحل الصهيونية - اى مشروع الدولة - بينما كان اليهود انفسهم، سواء فى اوروبا الغربية او اوروبا الشرقية، لا يزالون خارج النشاطات الصهيونية . وفى الكثير من الاحيان كانوا يقفون ضدها، كان بعضهم لا يستوعبها عقلياً، وبعضهم يرفضها دينياً او نفسياً، وبعضهم لم يسمع بها بعد . ويمكن القول، بصورة عامة، ان اليهود كانوا آخر من اكتشف الصهيونية فى اوروبا" (1) .
وقد لاحظنا من خلال العرض السابق كيف ان المسيحين البروتستانت بدؤا يطالبون بإعادة اليهود الى فلسطين منذ القرن السادس عشر، ولم يتركوا وسيلة لتحقيق ذلك، من خلال عقد اللقاءات وطرح المشاريع على رجال الدولة، والقيام برحلات استكشافية لدراسة فلسطين وتهيئتها لعودة اليهود اليها، هذا فى حين كان اليهود آخر من يفكر فى هذا الامر .
ويعود السبب فى احجام اليهود عن المشاركة والتجاوب مع هذه الدعوات الى ان " اليهود المتدينون يبنون آمال المستقبل من العبرة بالماضى، فهم يفسرون التوراة، بان الاسرائيليين القدماء اضاعو الارض المقدسة بسبب ارتكابهم المعاصى ضد الآخرين، وبسبب تخليهم عن الههم الواحد من اجل آلهة اخرى . واليهودية فى جوهرها دين ميثاق وعهد وان اختلف هذا العهد من جيل الى جيل، فهو دائماً يبقى عقداً بين الشعب والله. فالله وعدهم بالارض وبأن يعيشوا فيها عيشة ازدهار، لكن فى مقابل ذلك، على اليهود من جانبهم ان يقوموا بتنفيذ الشروط الخلقية والمبدئية للعهد، كما يشرحها انبياء الله فى كل عصر .
الله وحده اذاً هو الذى يحكم على سلوك ابناءه اليهود، وهو وحده الذى يرى - فى مرحلة ما - انهم قد وصلوا الى حد المثالية الخلقية، مما يستدعى تصحيح العهد، فيرسل لهم مسيحاً ليخلصهم من الشتات، ويعيدهم الى الارض المقدسة " (2)
كانت هذه هى النظرة التى حكمت تفكير اليهود منذ تدمير الهيكل للمرة الثانية وحتى بداية القرن التاسع عشر، حيث التزموا بهذه الرؤية الدينية طوال هذه الفترة لم يبدلوا اى جهد فى سبيل العودة الى فلسطين، وظلوا ينتظرون المسيح المنتظر لكى يخلصهم ويعيدهم الى فلسطين بمعجزه الهية، لهذا كانت تظهر بين الفترة والاخرى دعوات من بعض اليهود الذين يدعون انهم المسيح المنتظر، فيلتف حولهم اليهود ويعقدوا عليهم الآمال ولكن سرعان ما يتضح كذب دعواتهم فتنهى هذه الدعوات بمقتل صاحبها او تراجعه عن دعوته .
وقد ظهرت آخر هذه الدعوات فى عام 1648 عندما ظهر شاب يهوى يدعى (سافتاى زيفى) من ازمير بتركيا لم يتجاوز عمره الثانية والعشرين، حيث اعلن انه المسيح المنتظر. وما ان اعلن دعوته حتى تبعه عدد كبير من اليهود المتحمسين، واستمر فى نشر دعوته فى الاوساط الدينية اليهودية فى العالم، فصار له اعوان كثيرون. وفى سنة 1666 غادر ازمير مع جمهور من اعوانه متجها نحو استنبول لممارسة سلطته كملك، ولكن الباخرة التى كانت تقله مع اعوانه داهمتها عاصفة شديدة اضطراتها الى اللجوء الى مضايق الدردنيل، ومن هناك سيق مكبلاً بالحديد الى استنبول، فسجن،الا ان سجنه زاد من الاقبال علي دعوته، فامر السلطان محمد الرابع بنقله الى سجن ادرنه، واقنعه بالعدول عن دعوته بعد ان تحداه ان يمنع طلقات الرصاص من اختراق جسده، فما كان من (سبتاى زيفى) الا ان ادعى الاسلام وغير اسمه الى (محمد افندى). (3)
هكذا كان حال اليهود طوال تاريخهم الطويل، وبناء على هذه الصهيونية المسيائية المتدينة (ان جاز التعبير)، لا يوجد سبب على الارض - مهما تكن اهميته - يستدعى العودة الى صهيون، الا ان يكون السبب هو الامر الالهى. فالعودة مرتبطة بسلطة الله التى لا تناقش . ولذلك فالصهاينة المتدينون يتهمون، كل من نادى بالعودة الى فلسطين بدون انتظار عودة المسيح المنتظر، بالهرطقة، اى الكفر. ومن هنا تختلف هذه الصهيونية الدينية، عن الصهيونية السياسية التى قرر رجالها فى مؤتمر بازل سنة 1897 العودة الى الارض المقدسة، ولم ينتظروا المعجزة الالهية. فالصهاينة المتدينون لا يرون فى اى مؤتمر سياسى طريقا للعودة، وهم، اكثر من ذلك، لا يرون حتى فى عذاب الهولوكوست ومعسكرات النازية سببا للعودة . فالعودة ان لم تقترن بالارادة الالهية، بقدوم المسيح الجديد، هى عودة باطلة " (4)
ولقد رأينا كيف ان اليهود انفسهم احجموا عن المشاركة فى تأييد او دعم دعوات المتدينين البروتستانت لهم من اجل العودة الى ارض فلسطين، حيث كانت هذه المشكلة من اشد الصعاب التى واجهها الصهاينة غير اليهود (البروتستانت). ولكن مع بدايات القرن التاسع عشر، ولاسباب كثيرة اهمها، تنامى التيار المسيحى البروتستنى الداعم لامانى اليهود بالعودة الى فلسطين، بالاضافة الى ازدياد اضطهاد اليهود فى اوروبا، ظهر عدد من المفكرين اليهود الذين نشروا العديد من الكتابات التى هاجمت الافكار التقليدية التى ترى بأن الخلاص لن يتم الا من خلال معجزة الهية على يد المسيح المخلص، حيث نادى هؤلاء المفكرون بضرورة تحرك اليهود من اجل تحقيق حلم العودة الى ارض فلسطين من خلال العمل واستغلال كافة العوامل التى تخدمهم فى هذا المجال.
وبذلك كان هؤلاء المفكرون من امثال الكعى وكاليشتر وغيرهم، هم الدعاة الاوائل الذين مهدوا الطريق امام ظهور الحركة الصهيونية على يد هرتسل .لهذا فإن الكثيرون يعتبرون ان الحركة الصهيونية المتعارف عليها الآن وكما دعا هيرسل اليها فى مؤتمر بازل سنة 1897، هى الوارث الشرعى لعدد من النداءات والدعوات الفكرية التى ابتدأت تظهر فى اواخر الثلاثينات من القرن التاسع عشر، لكنها لم تجد تجاوبا - ولو محدودا - الا مع بداية الستينات وهذا فضلا عن ان بعض النداءات والمؤلفات لم تكن لتجد الحد الادنى من الانتشار والشهرة - حتى بين اليهود انفسهم . ومع ذلك، فانها فى مجموعها مقدمة مهمة لمعرفة الصهيونية، فكراً وحركة سياسية يهودية" (5)
ففى ستينات القرن التاسع عشر، اضحى العامل المشترك لدى الرواد الاوائل، امثال الكعى، وكاليشر وهس، اعتقادهم ان مستقبل الشعب اليهودى مشروطه بعودته الى وطنه التاريخى، وطالبوا بالعمل لتحقيق ذلك بدون انتظار عودة المسيح المخلص.
1- يهودا الكعى (1798-1878
كان الكعى غارقاً مثله مثل باقى اليهود، فى الغيبيات الدينية، لما انتشرت فى البلقان اشاعة تقول ان سنة 1840 ستكون سنة الخلاص. حيث تعلق معظم اليهود وخصوصا المتدينين منهم بهذه الشائعة - النبوة.
وقبل موعد الخلاص بعام، اى فى سنة 1839، نشر الكعى كتابا فى تعليم اللغة العبرية، دعا فيه اليهود الى الاستغراق فى الصلاة تمهيداً لتحقيق النبوءة المسيائية، ثم اتبعه بكتاب ثان سنة 1840 سماه "شلوم يروشالايم" حث فيه اليهود على دفع عشر مدخولاتهم لمساعدة يهود القدس .
ولكن لما فشلت النبوة بعدم ظهور المسيح المخلص، ولما وقعت حادثة دمشق الشهيرة فى السنة نفسها، اى سنة 1840 وهى الحادثة التى اتهم فيها اليهود بقتل المسيحيين واستنزاف دمهم - تخلى الكعى عن الغيبيات الدينية وسيلة وحيدة لخلاص اليهود، وبات يدعو الى درب عملى، خصوصا بعد رؤيته اهمية تدخل القناصل والدول الاجنبية لوقف محاكمة اليهود فى دمشق، فكرس ما تبقى من حياته داعياً الى تخليص اليهود وعودتهم، بالصلاة والعمل . وقد نشر منذ سنة 1843 سلسلة من الكتيبات والمقالات ركز فيها على اهمية الطلب من شعوب العالم كى تسمح لليهود بالعودة الى وطنهم، كما طالب اليهود بدفع العشر من اجل العودة " (6 )
2- تسفى هيرش كاليشر (1795-1874)
اعلن منذ 1832 ان استرداد صهيون يجب ان يبدأ بالعمل عليه من جانب اليهود اولاً، اما المعجزة الميسائية، بقدوم المسيح المنتظر، فتتبع ذلك . لهذا دعا الحاخام كاليشر اليهود للاعتماد على انفسهم لان خلاص بنى اسرائيل لا يمكن تصور حدوثه بواسطة معجزة "فالرب لن ينزل لقيادة شعبه، وهو لن يرسل المسيح من السماء لينفخ النفير ويجمع اليهود المشتتين للتوجه الى اورشليم " (7)
تم نشر كاليشر افكاره سنة 1843 فى كتاب من جزأين بعنوان (عقيدة صادقة) ثم اكمل تصوره فى مجلد اخير نشره سنة 1862 بعنوان (البحث عن صهيون) وهو اكثر كتبه شهرة . ومن اهم الافكار التى جاء بها كاليشر
1- ان خلاص اليهود كما تنبأ الانبياء به، يمكن ان يتم بوسائل طبيعية، اى بمجهود اليهود انفسهم، من دون ان يتطلب ذلك مجئ المسيح .
- ان الاستيطان فى فلسطين يجب ان يتم من دون تأخير.
ومما قاله فى شأن الخلاص: "ان خلاص اسرائيل لن يكون بمعجزة فجائية، والمسيح لن يرسل من السماء نافخاً فى بوقه الكبير، وجاعلاً جميع الناس يرتجفون ... فالناس البلهاء فقط، يمكن ان يصدقوا هراء كهذا . اما العقلاء فيعرفون ان الخلاص لا يكون الا بالتدريج، وهو فوق كل شئ لن يكون الا نتيجة جهود اليهود انفسهم. واذا كانت القدرة الالهية ستقوم بمعجزة، فأى مغفل لا يكون مستعداً، عندئذ، للذهاب الى فلسطين ؟ اما ان يتخلى المرء عن بيته وماله من اجل المسيح المنتظر، فذاك هو الامتحان الحقيقى، وذاك هو التحدى" (8 )
وقد اتهم كاليشر بالهرطقة وقوبلت اراؤه، كما قوبلت آراء الكعى المماثلة، بعدم التجاوب من قبل اليهود، ان لم يكن بالبرود، وذلك بسبب دعوتهما الى الاسراع فى النهاية، وعدم انتظار المعجزة الالهية، مما جعل اليهودية الأرثوذكسية تناصبهما العداء .
ليون بنسكر
كان بنسكر على غرار كاليشر وهس، يرفض الاعتماد على الايمان الغيبى بالمسيح المنتظر، كما انه قد وضع اللوم على الايمان الغيبى بجعل اليهود يتخلفون عن الاهتمام بحريتهم القومية ووحدتهم واستقلالههم، مما جعلهم يغرقون الى الاسفل، فالاسفل .(9)
هرتسل ومؤتمر بازل
مع انتشار كتابات وافكار المفكرين اليهود، امثال الكعى وكالشر وهس وبنسكر وغيرهم بين اليهود فى دول اوروبا، اصبح الجو مهيئاً لتوحيد جهود المؤمنين بهذا النهج الجديد من خلال حركة يهودية عامة، حيث ابتدأ التحضير الجدى لعقد مؤتمر صهيونى مع مطلع سنة 1897. وكان مقرراً عقده فى ميونخ، ولكن لما ارسلت الدعوات الرسمية، غضب اليهود الغربيون واعلنوا سخطهم على المؤتمر واعتبرته الصحافة الالمانية اليهودية خيانه، كما اعلنت رابطة رجال الدين اليهود فى المانيا ان هذا المؤتمر يناقض الدعوة الميسائية، ولذا رفضته بشده، وقد ادت هذه الحملة الى نقل مكان المؤتمر الى بازل بسويسرا، حيث عقدت الحركة الصهيونية مؤتمرها الأول فى عام 1897، وأعلنت عن برنامجها السياسى الذى يهدف إلى إقامة وطن قومى للشعب اليهودى فى أرض فلسطين .
واذا كان لنا ان نقيم انجازات المؤتمر الصهيونى الاول، فإنه يمكن القول ان أهم انجاز له على الاطلاق، تمثل فى انعقاد المؤتمر ذاته، اى التقاء الزعماء اليهود واتفاقهم على نهج جديد فى التعامل مع المسألة اليهودية. وقد تمثل هذا النهج فى رفض تصور اليهود التقليدى حول المسيح المنتظر، والبدء فى البحث عن طرق عملية من اجل تحقيق الحلم القديم للشعب اليهودى، بحيث تكون هذا الطرق متكيفة وملائمة مع عوامل الزمن الملائمة لحركتها .
وربما يرفض البعض حصر اهمية قيام الحركة الصهيونية فى مجرد انها رفضت التصور التقليدى الغيبى الذى كان سائدا" قبل ذلك، واتباع منهج جديد لتحقيق الحلم الصهيونى، ويعتبرون فى ذلك انتقاصاً للدور الكبير الذى لعبته الحركة فى قيام اسرائيل . وكان من الممكن ان يكون هذا الرفض فى محله لو ان هذه الحركة عملت لتحقيق قيام اسرائيل بمفردها أو انها كانت اول من تبنى هذه الفكرة، ولكننا لاحظنا من خلال العرض السابق كيف ان التفكير باعادة اليهود الى فلسطين بدأ قبل ظهور الحركة الصهيونية بثلاثة قرون على ايدى اتباع المذهب البروتستانتى، الذين لم يتركوا مناسبة الا استغلوها من اجل تحقيق هذه العودة، كما انهم قاموا بدراسة فلسطين والبحث فيها من اجل اعدادها وتهيئتها لسكانها الجدد، الذين لم يطلب منهم سوا التجاوب مع هذه الجهود وعدم رفضها . وقد جاء هذا التجاوب من قبل الحركة الصهيونية، التى وجدت كافة الامور ممهدة أمامها، ولم يكن مطلوب منها سوى تبنى هذه الدعوة نيابة عن اليهود فى كل مكان، والعمل على إستغلال كافة العوامل الدينية والسياسية والاقتصادية والانسانية، بالاضافة الى المتغيرات الدولية لصالحها، من أجل إقناع الحكومة البريطانية ودول اوروبا بضرورة توطين اليهود فى ارض فلسطين .
ومن هنا بدأ الزعماء الصهاينة يتحركون نحو الحكومة البريطاينة لمساعدةتهم فى ذلك. فبالإضافة إلى العامل الدينى والمكاسب السياسية التى ستجنيها بريطانيا من خلال توطين اليهود فى فلسطين، برز عامل آخر مهم ، وهو هجرة اليهود من دول أوروبا الشرقية إلى دول أوروبا الغربية وأمريكيا فراراً من الإضطهاد . فقد كانت هذه الهجرة تقلق تلك الحكومات ومنها بريطانيا التى سعت لوضع حل لهذه المشكلة . فشكلت فى عام 1902م اللجنة الملكية لهجرة الغرباء ، والتى حاولت تقدير أخطار هذه الهجرة غير المقيدة وما يجب أن تتخذه الحكومة البريطانية حيالها .وكان من بين الشهود الذين تحدثوا أمام تلك اللجنة تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية ، الذى قدم حلاً للمشكلة مبنى على أسس صهيونية، حيث قال فى شهادته :
" لا شئ يحل المشكلة التى دعيت اللجنة إلى حلها وتقديم الرأى بشأنها، سوى تحويل تيار الهجرة الذى سيستمر بصورة متزايدة من أوروبا الشرقية . إن يهود أوروبا الشرقية لا يستطيعون أن يبقوا حيث هم ، أين سيذهبون ؟ إذا كنتم ترون أن بقائهم هناك غير مرغوب فيه، فلا بد من إيجاد مكان آخر يهاجرون إليه دون أن تثير هجرتهم المشاكل التى تواجهكم هنا . لن تبرز هذه المشكلة إذا وجد وطن لهم يتم الإعتراف به قانونياً وطناً يهودياً " (10)
وقد لاقى إقتراح هرتزل السابق آذاناً صاغية من السياسيين البريطانيين ، حيث إقترح تشامبرلين - وزير المستعمرات البريطانية - إعطاء العريش لليهود لتكون مركز تجميع لهم قرب فلسطين ، ولكن هذا الإقتراح فشل لعدة أسباب، فما كان من تشامبرلين إلا أن إقترح فى عام 1903 ( فى عهد حكومة بلفور ) إعطاء اوغندا لليهود ليقيموا فيها وطناً لهم ، ولكن المؤتمر الصهيونى السادس المنعقد فى لندن عام 1903، رفض هذا العرض لبعده عن الهدف النهائى وهو فلسطين .
ولكن فلسطين فى هذه الفترة كانت خاضعة للسيطرة التركية، ولذلك لم يكن بمقدور الحكومة البريطانية إعطاء إى إلتزام للحركة الصهيونية تجاه فلسطين .
وعد بلفور :-
عندما إستطاعت بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى، الإستيلاء على فلسطين فى عام 1917، أصدر اللورد بلفور وزير الخارجية البريطانى وعده المشؤوم فى 2-11-1917، فى عهد حكومة لويد جورج ، والذى ينص على إعطاء اليهود وطناً قومياً فى فلسطين، وهذا النص الحرفى للوعد : " إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطي،ن وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية ، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يغير الحقوق المدنية والدينية التى تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن فى فلسطي،ن ولا الحقوق والوضع السياسى الذى يتمتع به اليهود فى البلدان الآخرى " (11)
ويصف السير رونالد ستوز فى كتابه ( استشراقات ) الصدى الذى لقيه صدور الوعد بقوله :
" لقى الوعد صدى رائعاً وإستحساناً فى الصحافة ، يضاف إلى ذلك ما حظى به من التأييد العام والكبير لدى آلاف الكهنة الإنغليكانيين والقساوسة البروتستانت وغيرهم من الرجال المتدينين فى سائر أنحاء الكرة الغربى " (12)
هربرت صموئيل ومستقبل فلسطين :-
لم يكن صدور وعد بلفور فى هذا الوقت أمراً غريباً أو مفاجئاً، بالنسبة لصانعى السياسة البريطانية، حيث أن الحكومة البريطانية كانت قد أعربت فى إجتماع لها فى بداية الحرب العالمية الأولى ، عن عزمها إقامة دولة يهودية فى فلسطين .
ففى ذلك الإجتماع أعلن رئيس الوزراء البريطانى، اسكويت عن تخلى بريطانيا عن سياستها التقليدية إزاء الإمبراطورية العثمانية وسعيها إلى تجزئتها وإقتطاعها . فأعرب له لويد جورج - وزير الخزانة آنذاك - عن إهتمامه بإقامة دولة يهودية فى فلسطين، كما أشار وزير الخارجية ، إدوارد غراى " إلى الفرصة التى قد تتاح لتحقيق الأمنية القديمة للشعب اليهودى وإعادة أمجاد الدولة اليهودية " (13)
وقد حضر هذا الإجتماع هربرت صموئيل - المندوب السامى البريطانى فى فلسطين، فيما بعد - حيث قدم لهذا الإجتماع دراسة عن مستقبل فلسطين بعد الحرب ، تضمنت خمسة إحتمالات، كان أحدها ينص على وضع فلسطين تحت الحماية البريطانية، حيث بين أهمية ذلك قائلاً :
" إن الإمبراطورية البريطانية بإتساعها وإزدهارها الحاضر، ليس لديها ما تضيفه إلى عظمتها . ولكن فلسطين على صغر مساحتها تنتفخ ضخمة فى مخيلة العالم، حتى أن كل إمبراطورية مهما كانت عظيمة، قد ترفع من مكانتها ومركزها بإمتلاكها لها .
إن ضم فلسطين إلى الإمبراطورية البريطانية سوف يزيد حتى فى لمعان التاج البريطانى، وسيشكل جاذباً شديد القوة لشعب المملكة المتحدة والمملكات المستقلة، خصوصاً إذا ظهر كوسيلة معلنة لمساعدة اليهود على إحتلال البلاد من جديد . هناك عطف واسع الإنتشار وعميق الجذور فى العالم البروتستانتى على فكرة إرجاع الشعب العبرانى إلى الأرض التى إعطيت ميراثاً له ، وهناك إهتمام شديد بتحقيق النبوءات التى توقعت ذلك مسبقاً " (14)
الدافع الدينى ووعد بلفور :-
بالرغم من أن اللورد بلفور كانت له دوافعه السياسية والعسكرية التى سعى إلى تحقيقها من وراء إعطاء هذا الوعد للحركة الصهيونية ، إلا أننا لا يجب أن نغفل أثر ثقافته الدينية التى لعبت دوراً حاسماً لصالح صدور هذا الوعد.حيث يبدو أن اللورد بلفور كان ينتظر بفارغ الصبر وقوع فلسطين تحت السيطرة البريطانية حتى يحقق مطالب الحركة الصهيونية والنبوءات الواردة فى العهد القديم ، مثله فى ذلك مثل الجنرال اللينبى الذى قال مقولته المشهورة عندما دخل مدينة القدس : " ها قد عدنا يا صلاح الدين ، اليوم إنتهت الحروب الصليبية ! "(15)
فاللورد بلفور كان بروتستانتينياً مؤمناً ، ترعرع فى أحضان التقاليد البروتستانينية الإسكوتلندية ، بكل ما تحمله من حب للعهد القديم وإيمان شديد بضرورة عودة اليهود إلى فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر .
وعن ثقافته تقول إبنة أخته ومؤرخة حياته ، بلانش دوغويل :
" لقد تأثر منذ نعومة أظافره بدراسة التوراة فى الكنائس ، وكلما اشتد عوده زاد إعجابه بالفلسفة اليهودية، وكان دائماً يتحدث بإهتمام عن ذلك، وما زلت أذكر أننى فى طفولتى اقتبست منه الفكرة بأن الدين النصرانى والحضارة النصرانية، مدينة بالشئ الكثير لليهودية " (16)
ويقول عنه ب. جروبر فى كتابه ( إسرائيل فى العقل الأمريكى) : " لقد كان بلفور أكثر فهماً من هرتزل لطموحات الصهيونية " (17) وكان صهيونياً أكثر من أى صهيونى آخر ، كما كان يردد ذلك بفخر .
وهل كانت طموحات هرتزل وزعماء الحركة الصهيونية تفوق ما جاء فى وعد بلفور الذى أكد على وجود اليهود كأمة ، ثم دمج الوعد فى سك الإنتذاب الذى وافقت عليه عصبة الأمم ؟
وهل كانت طموحات هرتزل وتوقعاته ترقى إلى ما وصل إليه تفكير بلفور، عندما أجاز لليهود توسيع حدودهم شمالاً وشرقاً بحجة الحصول على المياه التى يحتاجونها ؟ فقد جاء فى مذكرة بلفور حول سوريا وفلسطين وما بين النهرين قوله :
" إذا كان للصهيونية أن تؤثر على المشكلة اليهودية فى العالم، فينبغى أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين اليهود، ولذا فإن من المرغوب فيه أن تكون لها السيادة على القوة المائية التى تخصها بشكل طبيعى سواء كان عن طريق توسيع حدودها شمالاً ، أم عن طريق عقد معاهدة مع سوريا الواقعة تحت الإنتذاب . وللسبب ذاته يجب أن تمتد فلسطين لتشمل الأراضى الواقعة شرق نهر الأردن " (18)
صهيونية لويد جورج :-
إذا كانت تلك هى صهيونية اللورد بلفور ، فإن صهيونية رئيس وزرائه لويد جورج ، لا تقل عن ذلك .
فقد تربى لويد جورج على يد خاله الواعظ فى إحدى الكنائس المعمدانية، المعروفة بتعصبها وإيمانها الشديد بضرورة عودة اليهود إلى أرض فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر . وكانت للويد جورج خلفية كبيرة بالعهد القديم، حيث إعترف بأثره عليه عندما قال :
" نشأت فى مدرسة تعلمت فيها تاريخ اليهود أكثر من تاريخ بلادى، وبمقدورى أن أذكر أسماء جميع ملوك إسرائيل، ولكننى أشك إن كنت أستطيع ذكر أسماء بضعة ملوك من ملوك إنجلترا أو مثل ذلك العدد من ملوك ويلز. لقد تشربنا تاريخ جنسكم - يقصد اليهود - فى أعظم أيام مجده عندما أقام أدبه العظيم الذى سيتردد صداه حتى آخر أيام هذا العالم القديم ، والذى سيؤثر فى الأخلاق الإنسانية ويشكلها وسيدعم ويلهم الحاضر الإنسانى، لا لليهود فحسب، بل للمسيحيين كذلك. لقد إستوعبناه وجعلناه جزء من أفضل ما فى الأخلاق المسيحية " (19)
وهذا هو حاييم وايزمان يؤكد مدى إعجاب لويد جورج بالعهد القديم ، عندما تحدث عن إحدى لقاءاته معه ، حيث قال :
" وصلت إلى مقر رئيس الوزراء فى دوانج ستريت وكانت الشوارع مكتظة بالأهالى المتهليين . ولما دخلت على لويد جورج وجدته يقرأ فى مزامير داوود ، وعرضت عليه خلاصة مستعجلة لأعمالنا وزياراتنا لبلاد فلسطين " (20)
الأنتذاب البريطانى وتسليم فلسطين :-
بعد صدور وعد بلفور ، سعت بريطانيا جاهدة للحصول على موافقة الحلفاء لإخضاع فلسطين للإنتذاب البريطانى، وقد تم ذلك .
ففى يوم 25 ابريل 1920 وافق المجلس الأعلى للدول المتحالفة عند إنعقاده فى سان ريمو ، على أن يوكل إلى الحكومة البريطانية مهمة الإنتذاب على فلسطين، وفى 24 يوليو 1922 أسند مجلس جمعية الأمم المتحدة مهمة الإنتذاب إلى الحكومة البريطانية ، غير أن الإنتذاب لم يطبق رسمياً، لأن تركيا لم تكن قد وافقت على إنفصال الولايات العربية عنها.
وبمقتضى معاهدة سيفر التى عقدت فى 10 أغسطس 1920 وافقت تركيا على إنفصال الولايات العربية عنها، كما وافقت على تصريح بلفور ، بيد أن معاهدة سيفر لم يتم التصديق عليها فى الجمعية الوطنية التركية، التى رفضت بعض أحكامها بما فى ذلك تصريح بلفور.
ولم يصبح فصل الولايات العربية عن تركيا نافذاً بصورة قانونية إلا بعد ثلاث سنوات عندما أبرمت معاهدة لوزان ، ووقعت عليها تركيا فى 24 يوليو 1923"(21)
وهكذا حصلت بريطانيا على ما تريد لتحقيق الحلم الصهيونى عن طريق وضع فلسطين تحت إنتذابها ، الذى تم فى ظله فتح أبواب فلسطين على مصراعيها أمام الهجرة اليهودية ، بالإضافة إلى التسهيلات الكبيرة التى قدمتها سلطات الإنتذاب لليهود، والتى مكنتهم من إقامة المستعمرات وشراء الأراضى وتأسيس نواة الجيش الإسرائيلى .
وحتى فى بعض الحالات التى وجدت فيها الحكومة البريطانية، أن بعض المسئولين يقفون حائلاً أمام سرعة تنفيذ المشروع الصهيونى كما تريد، قامت هذه الحكومة بإبعاد أمثال هؤلاء المسئولين عن مناصبهم، كما فعلت ذلك مع الجنرال بولز الحاكم العسكرى لفلسطين فى بداية الإنتذاب .
فقد قدم الجنرال بولز توصيات إلى حكومته ، طالبها فيها بإنتهاج سياسة عادلة تجاه السكان العرب فى فلسطين، بالإضافة إلى مطالبته بإلغاء اللجنة الصهيونية ، بسبب تدخلها المستمر فى شؤون فلسطين الداخلية .
هربرت صموئيل :
سارعت السلطات البريطانية بإقالة بولز من منصبه ، وعينت مكانه هربرت صموئيل الصهيونى العريق ، وسلمته مقدرات فلسطين ووضعته على رأس الإدارة المدنية ، بعد إستبدال الحكم العسكرى بحكم مدنى، مع العلم بأن أحكام معاهدات لاهاى ، لا تجيز للدولة المحتلة أقامة حكم غير عسكرى قبل التوقيع على معاهدة سلام .
وقد تم هذا التبديل بعد مداخلات أجراها الرئيس الأمريكى ويلسون والكولونيل هاوس واللورد بلفور ، مما حذا بالأخير إلى إصدار التعليمات اللازمة " والإتيان بضباط يعطفون على الأمانى الصهيونية ، لإحلالهم محل الذين شكا الصهيونيون منهم "(22)
بمجرد أن تولى هربرت صموئيل منصبه الجديد، قام بأعمال كثيرة تخدم الأهداف الصهيونية، حيث إعتمد اللغة العبرية كلغة رسمية فى فلسطين، وملء الدوائر الحكومية بالموظفين اليهود . وفى تصرف غير عادى أمر بإطلاق سراح الزعيم الصهيونى جابوتنسكى، بالرغم من أن سلطات الإنتذاب كانت قد حكمت عليه بالسجن لمدة 15 عاماً. (23)
الضباط البريطانيون .... وبناء الجيش الإسرائيلى :
أطلق هربرت صموئيل يد الضباط البريطانيين، لتقديم المساعدة للمنظمات العسكرية اليهودية، وتغاضى عن كثير من تصرفاتهم التى تتنافى مع مهمتهم فى فلسطين .
فقد قام كثير من الضباط البريطانيين بتزويد المنظمات اليهودية بالأسلحة اللازمة لها، هذا فى الوقت الذى منع السلاح عن العرب . كما قام كثير من هؤلاء الضباط بالإشراف على تدريب هذه المنظمات .
وينغيت والتفسير العسكرى للتوراة :
كان الكابتن تشالز اورد (وينغيت) مؤسسس الوحدات الليلية الخاصة، ابناً لعائلة اسكتلندية تنتمى الى جماعة (اخوان بليموث) احدى طوائف "المنشقيين" فى انجلترا المتشبعة بروح بوريتانية صارمة . حيث كانت قصصص التوراة وترانيم سفر المزامير مادة قراءاته الاولى . وظل يلهج بها طوال حياته، حتى اصبحت دارجه على لسانه . وعن طريقهما عرف اول مره شعب اسرائيل وارض اسرائيل، اللذين الهبا خياله منذ نعومة اظافره . (24)
وفى اثناء توجهه الى فلسطين، انكب وينغيت على دراسة مشكلات ارض اسرائيل الحديثة . واتضح له بسرعة، ان النضال اليهودى ليس غريبا عنه ابداً . اذ ان قصص التوراة عن حروب بنى اسرائيل ضد ملوك الكنعانيين، ومناظر البلد التى كان مولعاً بها، قربته من المسألة اليهودية اكثر فأكثر .
وفور وصوله، التحق وينغيت بالقوات البريطانية العاملة فى فلسطين، وبدأ نشاطه من اجل تحقيق اقامة الدولة اليهودية، من خلال نشاطة العسكرى المميز، حيث قام بتشكيل الوحدات الليلية الخاصة التى لعبت دوراً اساسياً فى محاربة الثوار الفلسطينيين، كما لعب دوراً اساسياً فى انشاء الجيش الاسرائيلى من خلال تدريب افراده وتزويدهم بالمعدات، وقد حدث ان التقى وينغيت بحاييم وايزمان وبن غوريون وقدم لهما خطة مفصلة لانشاء جيش عبرى فى فلسطين ليكون جاهزاً لتسلم البلاد فى اللحظة المناسبة .
لهذا يعتبر وينجيت من أشهر الضابط الإنجليزى الذين قدموا مساعدة للمنظمات الصهيونية العسكرية، حيث كان ينظر إلى المساعدة التى يقدمها لليهود كواجب دينى مفروض عليه أن يؤديه .
فقد كان وينغيت - مثله ، مثل معظم الصهاينة غير اليهود - من الحرفيين الدينيين، الذين يفسرون العهد القديم تفسيراً حرفياً ، ولذا كان مثابراً على تفسير الأحداث التاريخية التى وردت فى الإنجيل تفسيراً عسكرياً وكأنها حدثت بالإمس، على حد قول بن جوريون .
وكان وينغيت مقتنعاً تمام الإقتناع بأنه مرسل فى مهمة دينية مقدسة ومحددة لإنقاذ إسرائيل، وفى ذلك يقول عنه موشى ديان :
" كان وينغيت يؤمن إيماناً لا يتزعزع بالتوراة . فقبل أن ينطلق فى مهمته كان يقرأ فى التوراة، المقطع الذى يتحدث عن المنطقة التى سيسلكها، فيجد فيه ضماناً لإنتصارنا، إنتصار إله يهوذا " (25)
ويوضح دافيد هكوهين - وهو أحد الزعماء الصهاينة - مدى معرفة وينغيت بفلسطين، ومدى ايمانه بكل ما ورد بشأنها فى التوراة، فيقول :
" كنت معتاداً على التجول فى البلد (فلسطين) برفقة زوار من ابناء الشعب الانجليزى، كانوا على معرفة بأسماء من تاريخنا، ويعرفون خريطة البلد جيداً ويحفظون مقاطع من التوراة عن ظهر قلب . لكن اياً منهم لم يكم شبييهاً بوينغت فى عمق معرفته، واطلاعه المذهل، وقدرته على تفسير ماورد فى التوراة . كان يروى شفاها مقطعاً فى اثر مقطع . ها هى حاروشت هغوييم، ديبواره وبراك، جبال غلبواع، تل هاموريه، شوننم وعين دور - كل هذا كما لو كان يقرأ فى خريطة أمام عينيه - هنا تماماً، تقريباً هنا، ... ربما خلف هذه الصخور ... هنا ارسلوا الاشارات الضوئية ... لهذا السبب او ذاك أصيبوا ... بالتأكيد فروا من هذا الوادى ... ولماذا لم يساعدهم إخوانهم من السبط الفلانى، أما كانوا قاطنين هنا، وراء الجبل ؟ وكان يتحدث بألم، بانفعال وغضب، كما لو أن الأمر حدث البارحة، كما لو ان الانقسام الكبير بين آل داود وأسباط اسرائيل امر يخصه شخصياً " (26)
ووينغيت هذا لم يكن الا نموذجاً من النماذج الكثيرة لضباط وجنود ومسئولين انجليز، عملوا فى فلسطين، وكانت النظرة الدينية البحثة هى التى تحكم تصرفاتهم وقراراتهم تجاه فلسطين .
الدافع الدينى للتحيز :
مما تقدم يمكننا تقدير حجم المساعدة ، ودوافعها الدينية، التى قدمتها بريطانيا للحركة الصهيونية .
فهذه المساعدة التى قدمتها بريطانيا لليهود لم تكن بدافع الحصول على مكاسب مادية، او بسبب أثر اللوبى الصهيونى، او نتيجة لدهاء وعبقرية الزعماء الصهاينة ، بل كان الدافع الأساسى لها كما اتضح لنا، دافعاً دينياً فى الأساس.
تقول دائرة المعارف البريطانية : "إن الإهتمام بعودة اليهود إلى فلسطين قد بقى حياً فى الأذهان بفعل النصارى المتدينين، وعلى الأخص بريطانيا التى كان إهتمامها أكثر من إهتمام اليهود أنفسهم "(27)
كما أن حاييم وايزمان - اول رئيس لدولة إسرائيل- وضح هذا الأمر بجلاء فى كتابه (التجربة والخطأ) حيث قال :
" لقد إحتضنت بريطانيا الحركة الصهيونية منذ نشأتها، وأخذت على عاتقها تحقيق أهدافها، ووافقت على تسليم فلسطين خالية من سكانها العرب لليهود فى عام 1932 . ولولا الثورات المتعاقبة التى قام بها عرب فلسطين، لتم إنجاز هذا الإتفاق فى الموعد المذكور " (28)
ويقول وايزمان فى مكان آخر :
" للقارئ أن يسأل ، ماهى أسباب حماسة الإنجليز لمساعدة اليهود وشدة عطفهم على آمانى اليهود فى فلسطين ؟ والجواب على ذلك، أن الإنجليز - لاسيما من كان منهم من المدرسة القديمة - هم أشد الناس تأثراً بالتوراة . وتدين الإنجليز هو الذى يساعدنا فى تحقيق آمالنا ، لأن الإنجليزى المتدين يؤمن بما جاء فى التوراة من وجوب عودة اليهود إلى فلسطين . وقد قدمت الكنيسة الإنجليزية فى هذه الناحية أكبر المساعدات" (29)
وهكذا لعبت بريطانيا دوراً رئيسياً فى قيام دولة إسرائيل بفضل وعد بلفور وما تبعه من إنتداب ، كان هدفه الأساسى الإعداد والتحضير لإعلان الإستقلال فى عام 1948 .
الهوامش
1-فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 285
2-فلسطين، القضية، الشعب، الحضارة - بيان نويهض الحوت ص 326-327
3-مقارنة الاديان - د. أحمد شلبى ص 223-225
4-فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 327
5-فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 311
6-فلسطين، القضية، الشعب، الحضارة - بيان نويهض الحوت -ص 311-312
7-ازمة الفكر الصهيونى - د. محمد ربيع ص23
8-فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 314
9-فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 323
10-الصهيونية غير اليهودية - د. ريجينا الشريف - ص 192 .
11-فلسطين ، القضية * الشعب * الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 457
12-إسرائيل الكبرى ، دراسة فى الفكر التوسعى الصهيونى - د. أسعد رزوق -ص 362 .
13-المصدر السابق - ص 227 .
14-المصدر السابق - ص 237 .
15-الإستعمار وفلسطين -رفيق النتشة - ص 220
16-قبل أن يهدم الأقصى - عبد العزيز مصطفى - ص 157 .
17-من أوراق واشنطن - د. يوسف الحسن - ص 125 .
18-الصهيونية غير اليهودية - د. ريجينا الشريف - ص 160 .
19-المصدر السابق - ص 161 .
20-التجربة والخطأ - مذكرات حاييم وايزمان- ترجمة محمد الشهابى - ص 78.
21-فلسطين فى ضوء الحق والعدل- هنرى شن - ترجمة وديع فلسطين -ص 18
22-إسرائيل الكبرى - د. أسعد رزوق - ص 443 .
23-الأيديولوجية الصهيونية - عبد الوهاب المسيرى - ص 138 .
24-الثورة العربية الكبرى فى فلسطين - 1936-1939 (الرواية الاسرائيلية الرسمية) مؤسسة الدراسات الفلسطينية - ص 331
25-يوميات موشى ديان - ترجمة جوزيف صفير - ص 38 .
26-الثورة العربية الكبرى فى فلسطين - 1936-1939 (الرواية الاسرائيلية الرسمية) مؤسسة الدراسات الفلسطينية - ص 332
27-التجربة والخطأ - مذكرات حاييم وايزمان - ترجمة محمد الشهابى - ص 25
28-فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 292
29- المصدر السلبق - ص 18 .

الفصل الرابع
أمريكيا والمشروع الصهيونى

كان دافيد بن جوريون يعلم ، عندما أعلن عن قيام دولة إسرائل فى عام 1948، بأنه لا بد من وجودحليف قوى يقوم بحماية هذه الدولة الوليدة . وقد كانت الدولة المؤهلة للقيام بهذه المهمة هى الولايات المتحدة الأمريكية التى خرجت من الحرب العلمية الثانية كأقوى قوة فى العالم، حيث أصبحت تلعب دوراً رئيسياً فى تشكيل السياسة الدولية .
وهذا لا يعنى أن بريطانيا قد تخلت عن دعم دولة إسرائيل بعد ذلك، أو أن أمريكيا كانت غائبة عن دعم مطالب الحركة الصهيونية فى فلسطين قبل ذلك . كلا، إن هذا التغير فرضته المتغيرات الدولية ، بحيث أصبحت أمريكيا تحتل مركز الصدارة فى دعم الحركة الصهيونية بعد الحرب العالمية الثانية .
فأمريكيا مثلها مثل بريطانيا ذات أغلبية بروتستانتية ، تغلغلت فى تفكير مواطنيها الأفكار والنبوءات الثوراتية الخاصة بعودة اليهود إلى فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر ، حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بفترة كبيرة من الزمن.
هجرة البروتستانت إلى أمريكيا :
عندما بدأ الإستيطان الأوروبى لأمريكيا كان معظم المهاجرين الجدد من البروتستانت، الذين فروا من الإضطهاد الدينى الذى ساد أوروبا فى ذلك الوقت.
فقد هاجر إلي أمريكيا كثير من البروتيان المتدينين، فراراً من الإضطهاد الدينى الذى ساد إنجلترا أثناء حكم آل ستيوارت .
وقد كان هؤلاء المستوطنون الجدد يحملون معهم ثراتهم الدينى المستمد من العهد القديم ، والذى أخذ يلعب دوراً رئيسياً فى تشكيل الفكر الأمريكى منذ ذلك الوقت .
ومما قوى من أهمية هذا الدور ، هو ربط هؤلاء المستوطنون بين تجاربهم التى مروا بها منذ رحيلهم من أوروبا وإنجلترا بالذات ، وبين التجارب التى مر بها اليهود القدماء عندما فروا من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين . فهم مثلهم مثل اليهود فروا من الظلم بحثاً عن الأرض الموعودة التى تدر لبناً وعسلاً ، وجابهوا الصعاب فى رحلتهم عبر المحيط، كما حدث لليهود فى صحراء سيناء . كما أنهم جوبهوا بمقاومة السكان الأصليي،ن كما جوبه اليهود بمقاومة أهل فلسطين، وعندما كانوا يعلنون الحرب على أصحاب البلاد الأصليين، كانوا يستحضرون العهد القديم ، حيث ثمة تشابه بين تجاربهم فى حربهم مع الهنود الحمر، وتجربة اليهود فى حربهم ضد الفلسطينيين فى الماضى .
لقد عانوا من الإنقسام ومن تجارب الحرب الأهلية المررة، كما حدث مع اليهود القدماء عندما إنقسمت مملكتهم إلى مملكتين إحداهما فى الشمال والأخرى فى الجنوب .
لقد كان هؤلاء المستوطنون يعلمون أن الأرض التى إستولوا عليها من سكانها الأصليين ليست أرضهم ، كما إنهم يعلمون أن ما يقومون به من عمليات إضطهاد وقتل وتشريد للسكان الأصليين، يتنافى مع أبسط المبادئ الأخلاقية ، فكانوا لذلك بحاجة إلى شئ يبرر لهم أفعالهم هذه ويضفى عليها نوعاً من الشرعية والأخلاقية ولو مزيفة ، فلم يجدوا هذا التبرير إلا فى العهد القديم.
فكما أن اليهود القدماء برروا إحتلالهم لفلسطين بالإدعاء بأنها الأرض الموعودة التى وهبها الله لشعبه المختار - كما يقولون - فإن هؤلاء المستوطنون الجدد فعلوا نفس الشئ بالإدعاء بإن الله إختار العنصر الأنجلوسكسونى البروتستانى الأبيض لقيادة العالم ، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك عندما شبهوا الشعب الأمريكى بالشعب اليهودى الذى يسعى إلى دخول الأرض الموعودة " (1) ولأن هذا الإختيار لا وجود له فى إى كتاب مقدس، فإنهم سعوا إلى إيجاد رابطة بينهم وبين اليهود الذين يدعون أنهم شعب مختار . لهذا فقد زعم أحد الكتاب ويدعى ريتشارد بروترز فى كتابه ( المعرفة المنزلة للنبوءات والأزمنة ) بأن الإنجليز السكسون هم من أصل يهودى ، على أساس أنهم ينحدرون من سلالات الأسباط التى إدعى اليهود أن أفرادها فقدوا بعد إجتياح الآشوريين لمملكة إسرائيل عام 721 قبل الميلاد " (2)
وربما يفسر هذا الإدعاء ما كتبه هيرمان ملفيل فى بداية القرن التاسع عشر متحدثاً عن الشعب الأمريكى حيث قال : " نحن الأمريكيون شعب خاص، شعب مختار وإسرائيل العصر الحاضر " (3)
الفكر الأمريكى والبعث اليهودى :
فى ظل هذا الوضع، ومع نهاية القرن الثامن عشر الذى شهد بعث الأمة الأمريكية، أصبح الإعتقاد بالبعث اليهودى يشكل جانباً مهماً من الفكر الأمريكى ، حيث كان واضحاً أثر العهد القديم على الفكر الأمريكى .
فهذا الرئيس توماس جيفرسون ، واضع وثيقة إستقلال أمريكيا ، يقترح أن يمثل رمز الولايات المتحدة الأمريكية، على شكل أبناء إسرائيل تقودهم فى النهار غيمة وفى الليل عمود من النار ، بدلاً من الرمز المعمول به حالياً . وواضح أن هذا الشكل المقترح رمزاً للولايات المتحدة يتفق مع النص التوراتى الوارد فى سفر الخروج والذى يقول :
"كان الرب يسير أمامهم نهاراً فى عمود سحاب يهديهم فى الطريق ، وليلاً فى عمود نور ليضئ لهم " (4)
وفى النصف الثانى من القرن التاسع عشر ظهرت فى امريكيا عدة مذاهب بروتستانية نادت بعودة اليهود الى فلسطين، انطلاقا من ايمانها بالمعتقدات المسيائية . ولم يكتف اصحاب هذه المذاهب بالدعوة، بل عملوا من اجلها (5) فقد تبنت كثير من الفرق البروتستانتية الدعوة إلى هذه الأفكار ، مثل المعمدانيين والمرمون والسبتيين وغيرها من الفرق .
وقد علق على ذلك هنرى فورد فى كتابه - اليهودى العالمى - بقوله :
" لقد سيطر اليهود على الكنيسة فى عقائدها وفى حركة التحرر الفكرى المسماة بالليبرالية ، وإذا كان ثمة مكان تدرس فيه القضية اليهودية دراسة صريحة وصادقة ، فهو موجود فى الكنيسة العصرية ، لأنها المؤسسة التى أخذت تمنح الولاء دون وعى أو إدراك إلى مجموعة الدعاية الصهيونية " (6)
كما أنه بدأ واضحاً خلال هذا القرن مدى التعاطف مع اليهود وآمالهم فى العودة إلى فلسطين ، سواء على المستوى الشعبى أو المستوى الحكومى .
ففى عام 1818 بعث الرئيس الثانى لأمريكيا جون آدمز برسالة إلى الصحفى اليهودى ، مردخاى مانويل نوح عبر فيها عن أمنيته فى أن يعود اليهود إلى جوديا - يهودا - لتصبح أمة مستقلة " (7)
كما ازادت فى هذه الفترة المشاريع الهادفة الى اعادة اليهود الى فلسطين، حيث احتل مشروع موردخاى نواه الذى تقدم به سنة 1845 امام جمع من المسيحيين فى نيويورك، مركز الصدارة بين مشاريع العودة، فهو ينص - الى جانب التطورات التى اضافها اليه فيما بعد - على عودة اليهود نهائيا الى فلسطين . الا انه كمرحلة تمهيدية دعاهم الى اقامة المستوطنات فى منطقة آرارات قرب بافالو وشلالات نياجرا . وقد ايد الرئيس الامريكى جو آدامز عودة اليهود، فى رسالة وجهها الى نواه(8)
العمل من أجل تحقيق النبوءات التوراتية :-
فى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، بدأ التعاطف الأمريكى مع اليهود يتحول إلى عمل ملموس لتحقيق النبوءات التوراتية، سواء عن طريق أفراد أو جمعيات أو كنائس .
ففى عام 1840 بعث مؤسس الكنيسة المورمينية ، جوزيف سميث، تلميذه اورسون هايد من أجل تسهيل نبوءة (بعث إسرائيل) ، ومن بين كتب التوصية التى حملها هايد معه، كتاب من وزير خارجية الولايات المتحدة، وآخر من حاكم ولاية إيلينوى .
وفى عام 1850 قام واردكريون القنصل الأمريكى فى القدس، بتأسيس مستوطنة زراعية فى منطقة القدس، وخطط لتأسيس مستوطنات آخرى ، وحاول الحصول على دعم زعماء اليهود، ولكنهم لم يستجيبوا له رغم أنه تحول عن ديانته المسيحية إلى اليهودية .
وكان القنصل الأمريكى يرى أن تلك المستوطنات الزراعية ستكون البداية الأولى لفلسطين الجديدة، حيث ستقيم الأمة اليهودية وتزدهر "(9) وقد حذا حذو القنصل الأمريكى، بعض المواطنين الأمريكيين، حيث أسسو مستوطنة زراعية بالقرب من يافا لنفس الغرض.
وفى هذا القرن أيضاً ظهرت كثير من الطوائف والجمعيات المسيحية التى دعت إلى ضرورة إعادة اليهود إلى أرض فلسطين، حيث أخذت تنشر دعوتها بين العامة ، بالإضافة إلى سعيها للتأثير على الشخصيات المهمة فى أمريكيا .
جماعة أخوة المسيح :
فى عام 1848 أسس جون طوماس الجماعة الدينية المعروفة بإسم (أخوة المسيح) والتى تقوم دعوتها التبشيرية بشكل رئيسى، على تطبيق النبوءات التوراتية وسفر الرؤيا، على الأحداث الحاضرة والمستقبلية. وقد ساهمت هذه الطائقة بلسان أحد أتباعها وبقلمه، فى إظهار الحركة الصهيونية بمظهر البينة أو العلامة على مجئ المسيح قريباً ليبسط حكمه وسلطانه على العالم أجمع من مقره فى القدس، وذلك كما جاء فى كتاب فرانك جنادى (فلسطين واليهود) أو (الحركة الصهيونية بينة لظهور المسيح عما قريب فى القدس، ليحكم العالم بأسره من هناك) " (10)
جمعية بنى بريث (ابناء العهد):
فى عام 1843 أنشأ هنرى جونز بالتعاون مع مجموعة من الصهاينة الأمريكيين، جمعية بنى بريث فى مدينة نيويورك، بهدف تسهيل إعادة اليهود إلى فلسطين. ومن نيويورك انتشرت فروع الجمعية فى امريكيا وجميع انحاء العالم. وقد أنشئ فرع للجمعية فى فلسطين فى عام 1888 من اجل المساهمة فى بناء المستعمرات اليهودية لتكون نواة للوطن القومى اليهودى. كما تم فتح فرعين للجمعية فى مصر . (11)
وقد إستطاعت هذه الجمعية وفروعها المنتشرة فى كثير من البلدان التأثير على كثير من الشخصيات المهمة فى أمريكيا والعالم، من أجل كسب دعمهم ومساندتهم للمطالب الصهيونية فى فلسطين. وقد حرص غالبية الرؤساء والمسؤولين الامريكيين على المشاركة فى المناسبات والحفلات التى تقيمها الجمعية، لكى يشيدوا بالاعمال العظيمة التى تقوم بها هذه الجمعية من اجل خدمة الاهداف الصهيونية .
جمعية شهود يهوة :
أنشأت هذه الجمعية فى ولاية بنسلفانيا الأمريكية فى عام 1884، ثم إنتقلت إلى مدينة نيويورك فى عام 1909، حيث أخذت توفد المبشريين إلى جميع أنحاء العالم لكسب التأييد لفكرة إعادة اليهود إلى أرض فلسطين ، تحقيقاً للنبوءات التوراتية . وقد وصل نشاط هذه الجمعية إلى البلاد العربية نفسها.
يقول عبد الله التل ، فى كتابه جذور البلاء عن هذه الجمعية :
" هى جمعية يهودية ترتدى ثوباً مسيحياً مزيفاً ، وهى فى الواقع من أخطر الجمعيات اليهودية فى العالم، ذلك أنها تقوم على مبدأ خذاع الجماهير المسيحية الساذجة، وإدخال نبوءات التوراة فى النفوس المؤمنة ليصبح الإعتقاد جازماً عند المسيحيين، بوجوب عودة اليهود إلى أرض الميعاد . وطريقة التبشير عند أتباع هذه الجمعية ، هى إقتحام بيوت الناس بوقاحة عجيبة والبدء بإلقاء دروس دينية من التوراة اليهودية، لإستدرار عطف السامعين وكسبهم فى صف الداعية ، إلى ضرورة عودة اليهود لأرض الميعاد، تحقيقاً لأوامر اليهود .
ولقد تسربت هذه الجمعية إلى البلاد العربية ، وخدعت حكومات عربية كثيرة، فتغاضت عن نشاطها، وفى لبنان إستفحل نفوذها، فهب فريق من رجال الدين المسيحى الواعين وهالهم التطبيق العملى لتعاليم هذه الجمعية ، وقاد المعركة ضد شهود يهوه، الخورى ، جورج فاخورى، وفضح أسرارها وكشف حقيقتها " (12)
وليم بلاكستون والبعثة العبرية نيابة عن إسرائيل:
فى أواخر القرن التاسع عشر ظهر رجال دين ، يطالبون بعمل شعبى لإعادة اليهود إلى فلسطين، وكان من أبرز هؤلاء وليام بلاكستون، رجل الدين والمؤلف والملونير الذى ينفق الملايين على التبشير، والذى يعتبر أباً للصهيونية اليهودية، بسبب نشاطه المتواصل من أجل تحقيق النبوءات التوراتية .
ففى عام 1878 ألف بلاكستون كتاب (عيسى قادم) الذى بيع منه أكثر من مليون نسخة، وترجم إلى 48 لغة بما فيها العبرية . وقد أثار هذا الكتاب جميع الأمريكيين بكافة طبقاتهم، حيث كان من أكثر الكتب التى تتحدث عن عودة اليهود إلى أرض فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر .
وبالإضافة إلى ذلك فقد أسس القس بلاكستون فى شيكاغو منظمة سماها (البعثة العبرية نيابة عن إسرائيل) . وقد عملت هذه المنظمة فى مجالات متعددة ودعت اليهود إلى العودة إلى فلسطين، وإستمرت هذه المنظمة فى العمل حتى يومنا هذا وأصبح إسمها حالياً، أتباع أمريكيا المسيحية " (13)
وقد زار بلاكستون فلسطين عام 1888، وإدعى أن تطويرها زراعياً وتجاريأ لن يتم إلا على أيدى ورثة هذه الأرض وهم اليهود .
وبلغ نشاط بلاكستون ذروته عندما قاد حملة لجمع توقيعات على عريضة قدمها للرئيس الأمريكى بنيامين هارسون فى عام 1891، حيث طالب فيها بالمساعدة فى إعادة فلسطين لليهود . وقد جاء فى هذه العريضة قوله : " لماذا لا نعيد فلسطين لهم - اليهود- إنها وطنهم حسب توزيع الله للأمم، وهى ملكهم الذى لا يمكن تحويله لغيرهم والذى طردوا منه عنوة . لقد كانت أرضاً مثمرة بفضل فلاحتهم لها، وكانت تعيل ملايين الإسرائيليين الذين كانوا يفلحون سفوحها ووديانها بكل نشاط، كانوا مزارعين ومنتجين، كما كانوا أمة ذات أهمية تجارية كبرى - مركز الحضارة والدين . لماذا لا تعيد الدول التى أعطت بموجب معاهدة برلين عام 1878، بلغاريا للبلغاريين والصرب للصربيين، فلسطين لليهود " (14) وقد تسلم الرئيس هارسون هذه العريضة ووعد بأن يأخذها بعين الإعتبار.
وعندما أنشئت الحركة الصهيونية بزعامة هرتزل، قام القس بلاكستون بإرسال نسخة من التوراة إلى هرتزل، واضعاً خطوطاً وعلامات تحت النصوص التى تشير إلى إستعادة فلسطين ، ولقد حفظت هذه النسخة فى ضريح هرتزل" (15)
الحكومة الأمريكية والمطالب الصهيونية :
لما وضعت الحركة الصهيونية برنامجها، وسعت إلى تحقيقه عن طريق الحصول على مساعدة الحكومة البريطانية، كان لأمريكيا دوراً كبيراً فى تحقيق أولى المطالب الصهيونية والتى تحققت بفضل وعد بلفور، هذا الوعد الذى لم يصدر إلا بعد إتصالات بين الحكومتين البريطالنية والأمريكية، حيث كانت موافقة أمريكيا على الوعد ضرورية .
الرئيس ويلسون :
لعب الرئيس ويلسون دوراً رئيسياً فى صدور وعد بلفور، حيث شارك فى الإتصالات التى سبقت صدور الوعد، وأعلن عن تأييده لمنح اليهود وطناً قومياً فى فلسطين . فقد صرح عشية صدور الوعد بقوله :
" لن تصبح فلسطين مؤهلة للديمقراطية إلا إذا إمتلك اليهود فلسطين كما سوف يمتلك العرب شبه جزيرتهم أو البولونيون، بولونية " (16) وعندما صدر وعد بلفور عام 1917 لم يتوانى الرئيس ويلسون عن تأييد هذا الوعد وإعلان موافقته عليه .
ففى آب 1918 قال الرئيس ويلسون :
" أعتقد أن الأمم الحليفة قد قررت وضع حجر الأساس للدولة اليهودية فى فلسطين بتأييد تام من حكومتنا وشعبنا " (17)
كما أن ويلسون بعث برسالة إلى الحاخام ستيفان وايز، رحب فيها بالتقدم الذى أحرزته الحركة الصهيونية فى الولايات المتحدة وفى البلدان الحليفة بعد تصريح بلفور، وفى 20-9-1922 صادقت الحكومة الأمريكية بصورة نهائية على مشروع بلفور .
والرئيس ويلسون كان مدفوعاً لتحقيق آمال اليهود بناءً على خلفيته الدينية . فقد تربى ويلسون فى ظل التعاليم البروتستانتية التى تؤمن بالنبوءات التوراتية ، وكان يسعده أن يكون له دور فى إعادة اليهود إلى فلسطين، حيث كان يقول :
" إن ربيب بيت القسيس ينبغى أن يكون قادراً على المساعدة فى إعادة الأرض المقدسة لأهلها " (18)
وكان يرى نفسه من خلال خطبه العديدة، بأنه أعطى الفرصة التاريخية لخدمة رغبات الله بتحقيقه للبرنامج الصهيونى .
خلفاء ويلسون :
بعد أن وافق الرئيس ويلسون على وعد بلفور ودعم مطالب الحكومة البريطانية فى مؤتمر سان ريمو ، الذى كرس الأنتذاب البريطانى على فلسطين، لخدمة الحركة الصهيونية ، أخذ خلفاء ويلسون فى الرئاسة يلزمون أنفسهم بالموقف الصهيونى ويعبرون عن تعاطفهم مع الحركة الصهيونية .
فقد عبر الرئيس الأمريكى هاردنج فى عام 1921 عن تعاطفه مع الحركة الصهيونية وتأييده الشديد لإنشاء صندوق فلسطين .
وفى عام 1922 إتخذ الكونغرس الأمريكى قراراً، وقع عليه الرئيس هاردنج جاء فيه الإعتراف بأنه نتيجة للحرب، أعطى بنى إسرائيل الفرصة التى حرموا منها منذ أمد بعيد لإعادة إقامة حياة وثقافة يهوديتين مثمرتين فى الأراضى اليهودية القديمة، وأن كونغرس الولايات المتحدة يوافق على إقامة وطن قومى فى فلسطين للشعب اليهودى"(19)
وفى عام 1928 قام الرئيس الأمريكى هربرت هرمز بتهنئة الحركة الصهيونية لإنجازاتها العظيمة فى فلسطين .
وفى ثلاثينات القرن الحالى، إزداد عدد الجمعيات الأمريكية المؤيدة لإقامة دولة يهودية فى فلسطين، حيث كان هدفها حشد الرأى العام الأمريكى من أجل تحقيق الأهداف الصهيونية فى فلسطين .
ففى عام 1930 أسس الكاهن تشارلى أى رسل، إتحاد المنظمات الأمريكية الموالية لفلسطين، والتى كانت تهدف إلى تشجيع التعاون بين اليهود وغيرهم من المسيحيين، بهدف الدفاع عن قضية الوطن القومى اليهودى . وفى عام 1932 أسست اللجنة الأمريكية الفلسطينية للهدف ذاته. وقد ساعدت هذه الجمعيات وغيرها، كثيراً فى دعم مطالب الحركة الصهيونية، بسبب وجود وسط بروتستانتى ملائم لترويج الأفكار الصهيونية .
مركز ثقل الصهيونية ينتقل إلى أمريكيا :
فى أربعينات القرن الحالى إزداد حجم الدعم الأمريكى للحركة الصهيونية، حيث أدرك الزعماء الصهاينة أن مركز الثقل فى عملهم قد بدأ ينتقل من بريطانيا إلى أمريكيا . فبعد أن أصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض فى عام 1939 والذى حد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، قابل الزعماء الصهاينة والمتعاطفون معهم، هذا الكتاب بالرفض والإستنكار، وبدؤا يشعرون أن بريطانيا بدأت تتخلى عنهم ولو جزئياً بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، هذا التحول دفع الزعماء الصهاينة لتركيز جهودهم فى الولايات المتحدة الأمريكية .
وقد كتب بن جوريون فى عام 1940 يصف مشاعره فى هذه الفترة، فقال : " أما أنا فلم أكن أشك فى أن مركز الثقل بالنسبة لعملنا السياسى كان قد أنتقل من بريطانيا إلى الولايات المتحدة ، التى كانت قد إحتلت المرتبة الأولى فى العالم كدولة كبرى "(20)
وعندما إجتمع الزعماء الصهاينة فى مؤتمر بلتمور فى عام 1942، قرروا نقل جهودهم إلى أمريكيا لكى تساعدهم فى تحقيق مطالبهم . فقد أعلن بن جوريون أمام المؤتمر، أن اليهود لم يعد بإستطاعتهم الإعتماد على الإدارة البريطانية فى تسهيل إنشاء الوطن القومى اليهودى فى فلسطين .
العمل من أجل إلغاء الكتاب الأبيض :
لقد كان كل هم الزعماء الصهاينة والمتعاطفين معهم فى هذه الفترة، إلغاء الكتاب الأبيض الذى أصدرته بريطانيا فى عام 1939، والذى يحد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين. لهذا فقد نشط المتعاطفون مع الحركة الصهيونية فى هذا الوقت .
" فبمعونة 1000 زعيم صهيونى فى الديار الأمريكية إستطاع مجلس الطوارئ الذى شكلته الحركة الصهيونية ، الحصول على قرار ضد الكتاب الأبيض من جميع المنظمات اليهودية الكبرى والجمعيات المهمة ، أمثال الليونز والدلكس والروتارى ونادى السيدات العاملات فى التجارة والمهن الحرة وغيرها من الجمعيات والنوادى . كما أن نقابات العمال وجمعيات الكنائس إنضمت ضد الكتاب الأبيض " (21)
وفى آذار عام 1944 قدم بعض أعضاء مجلس الشيوخ إلى لجنة الشئون الخارجية ، مشروع قرار يدعو إلى إلغاء الكتاب الأبيض البريطانى، وتأييد خطة إنشاء دولة يهودية فى فلسطين، ولكن المستر جورج مارشال وزير الخارجية، ورئيس أركان حرب الجيش الأمريكى آنذاك ، تدخل وطلب من اللجنة عدم بحث ذلك الإقتراح، خوفاً من إثارة الرأى العام العربى وإنعكاس ذلك على الموقف العسكرى، فنزلت لجنة الشئون الخارجية عند طلب المستر مارشال، وأرجأت البحث فى الإقتراح المقدم لها .
وبعد بضعة أشهر تغير مجرى الحرب نهائياً لصالح الحلفاء، فأرسل المستر مارشال نفسه كتاباً إلى السناتور واغنر، عضو مجلس الشيوخ الأمريكى ، قال فيه : " إن الأعتبارات العسكرية التى حملته فيما مضى على معارضة بحث ذلك الإقتراح قد زالت " (22)
وفى فبراير 1945 وقع خمسة آلاف قسيس بروتستانتى أمريكى، عريضة رفعوها إلى الحكومة ومجلس الأمة والكونغرس، يطالبون فيها بفتح أبواب فلسطين على مصراعيها للهجرة اليهودية، وقد قامت وكالات الأنباء ومحطات الإذاعة والصحافة بدعاية واسعة النطاق لمشروع إنشاء دولة يهودية فى فلسطين " (23)
وبالرغم من أن هذا التعاطف الكبير مع الحركة الصهيونية ، من قبل الجمعيات والمؤسسات العامة خلال عشرينات القرن الحالى وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية ، لم يرافقه موقف عملى واضح من الحكومة الأمريكية ، إلا أن ذلك لم يكن لعدم إيمان الرؤساء الأمريكيين - فى تلك الفترة - بأهداف الحركة الصهيونية، بل لأن بريطانيا فى ظل إنتذابها على فلسطين كانت تقوم بتقديم كافة التسهيلات والمساعدات للحركة الصهيونية . ولذلك لم يكن هناك أى داعى لتدخل أمريكيا ما دامت بريطانيا تقوم بنفس العمل وعلى أكمل وجه.
هذا بالإضافة إلى أن الرؤساء الأمريكيين فى تلك الفترة كانوا يعتبرون أن فلسطين هى من جملة المسئوليات البريطانية فى الشرق الأوسط ، ولذلك فأن روزفلت خلال مدد ولاياته الثلاث كأسلافه ، لزم بدقة الموقف الأساسى الذى كان قائماً خلال الفترة التى كان هيوز فيها بالحكم، وهو أن الأحكام الخاصة بأنشاء وطن قومى يهودى الواردة فى سك الأنتذاب، لم تكن فى عداد المصالح الأمريكية، بل أنها من الشئون البريطانية "(24)
هذا بالإضافة إلى أمر آخر مهم ، وهو ظروف الحرب العالمية الثانية التى فرضت على أمريكيا عدم تأييد المطالب الصهيونية بصورة علنية، والسعى إلى إسترضاء العرب حرصاً على الموقف العسكرى فى المنطقة .
" ففى 29 ديسمبر 1942 أشار هال على الرئيس روزفلت بألا يبعث بأية رسالة إلى هيئة الصندوق القومى اليهودى، نظراً إلى الموقف فى الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية، حيث يسود شعور عنيف ضد الصهيونية فى صفوف الشعوب العربية . فقد أكدت كافة التقارير العسكرية والدبلوماسية المرسلة من البلاد العربية، خطورة أثارة العرب بالتصريحات المؤيدة للصهيونية "(25)
لهذا فأن روزفلت، وفى محاولة منه لكسب ود الزعماء العرب، قطع وعداً للملك عبد العزيز بن سعود - عاهل السعودية - بأنه لن يؤيد أى حركة من شأنها تسليم فلسطين لليهود .
روزفلت والأفكار الصهيونية :
بالرغم من أن الظروف السياسية والعسكرية ، فرضت على روزفلت عدم تأييد مطالب الحركة الصهيونية ، بصورة علنية ، إلا أنه كان متعاطفاً مع اليهود، وكان أثر العهد القديم واضحاً عليه ، فقد إتخذ نجمة داوود شعاراً رسمياً للبريد وللخوذات التى يلبسها الجنود فى الفرقة السادسة، وعلى أختام البحرية الأمريكية وطبعة الدولار الجديد وميدالية رئيس الجمهورية (26) كما أنه دعا إلى عقد مؤتمر ايفيان فى عام 1938، لحل مشكلة الاجئين فى أوروبا وبالذات اليهود منهم . فقد كان يريد روزفلت أن تكون فلسطين هى الحل لهذه المشكلة ، ولكن المؤتمر فشل فى إتخاذ أى حل .
وفى أثناء الحرب العالمية الثانية قام موريس أرنست - يهودى - وأحد المقربين من الرئيس روزفلت، بزيارة للندن ، لمحاولة إيجاد مأوى لليهود المهجرين فى بريطانيا وأمريكيا ، وإذا برزفلت يعلن بأنه أقتنع تمام الأقتناع بأن ذلك البرنامج لن يحل المشكلة ، لا سيما وأن قادة الصهيونية فى أمريكيا رفضوا هذا الحل . وإستطرد قائلاً : إنهم على حق فى معارضتهم ، لأنهم يدركون أن فلسطين يجب أن تصبح عاجلاً أم عاجلاً الملجأ الأمين لمجيئهم .
وهكذا نرى أن سياسة روزفلت تجاه فلسطين كانت غير واضحة، حيث أنه حاول أن يوفق بين عواطفه وميوله الصهيونية ، وبين الضرورة السياسية والعسكرية التى فرضتها ظروف الحرب العالمية الثانية .
ولكن عندما أصبح إنتصار الحلفاء مؤكداً ، أظهر ميوله الصهيونية الواضحة ، حيث أكد بعد إعادة أنتخابه فى يناير 1945 تعهده لليهود بمساعدتهم على إنشاء دولة يهودية فى فلسطين، ولكن القدر لم يمهله طويلاً حيث توفى فى 12 ابريل عام 1945 .
ترومان - قورش - العصرالحديث !
عندما تولى ترومان منصب الرئاسة خلفاً لروزفلت ، كان من أكثر الرؤساء الأمريكيين تأييداً للمطالب الصهيونية . ففى 31 أغسطس عام 1945 ، طلب الرئيس ترومان - نيابة عن الصهيونية - من رئيس الوزراء البريطانى أتلى، إدخال مائة ألف لاجئ يهودى إلى فلسطين، ولكن رد أتلى كان غير مشجع ، حيث أنه إشترط أن تتحمل أمريكيا الأعباء العسكرية والإقتصادية لتنفيذ هذا الطلب . ولكن الرئيس ترومان رفض ذلك وقال أنه لا يرغب فى إرسال50,000 جندى لإقرار السلام فى فلسطين .
ونتيجة لذلك بدأت إتصالات بين الحكومة البريطانية وبين الزعماء الصهاينة المدعومين من أمريكيا، لتحقيق مطالبهم ، ولكن هذه الإتصالات فشلت ، مما دفع ترومان إلى تأييد الحل الصهيونى المتمثل بتقسيم فلسطين .
ترومان ومشروع التقسيم :
أصدر الرئيس ترومان فى 4 أكتوبر بياناً بادر فيه إلى المطالبة بإدخال مائة ألف يهودى فوراً إلى فلسطين، كما أوصى بتطبيق خطة التقسيم حسب الخطوط التى إقترحتها الوكالة اليهودية، وقال ترومان :
" أنه كان يعتقد بأن حلاً على هذه الصورة سيصادف تأييداً من الرأى العام فى الولايات المتحدة ، وصدفة على حد قوله ، صدر هذا البيان فى يوم عيد كيبور - الغفران - اليهودى "(27)
ولم يمضى وقت طويل حتى صدر رد الفعل العربى على بيان ترومان، ففى رسالة من الملك عبد العزيز بن سعود ، إلى ترومان ، اتهم فيها اليهود بأنهم يضعون مخططات ضد الأقطار العربية المجاورة، وإنتهى الملك عبد العزيز إلى القول ، بأن بيان ترومان قد بدل الموقف الأساسى فى فلسطين، خلافاً للوعود السابقة .
وفى الرد على ذلك بتاريخ 26 اكتوبر 1946، إدعى ترومان، ان تأييد وطن قومى يهودى كان دائماً من صلب السياسة الأمريكية المنسجمة مع نفسها " (28)
وبعد مشاورات عديدة رفع مشروع تقسيم فلسطين إلى الأمم المتحدة، حيث أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد أن قامت أمريكيا بالضغط على كثير من الدول لتأييد المشروع، وبعد فترة تراجعت أمريكيا عن هذا المشروع بسبب صعوبة تنفيذه، وإقترحت وضع فلسطين تحت الوصايا، ولكن هذا الإقتراح لم يقبله الزعماء الصهاينة الذين كانوا يعدون العدة لإعلان قيام دولة إسرائيل بمجرد إنتهاء الإنتذاب البريطانى عليها فى 15مايو 1948.
وعندما أعلن عن قيام دولة إسرائيل ، أعترف الرئيس ترومان بها بعد دقيقة من إعلان قيامها، كما أنه قام بتصرف يخالف كل المبادئ الدبلوماسية المعروفة، عندما إعترف بدولة إسرائيل قبل أن تطلبه رسمياً وقبل إنتهاء الإنتذاب البريطانى بعشر ساعات .
حرب عام 1948:
لم يقف تأييد ترومان للحركة الصهيونية عند هذا الحد، بل أنه إستطاع أن يحل أصعب مشكلة مرت بها الدولة الوليدة .
فعندما دخلت سبع جيوش عربية أرض فلسطين فى 15 مايو 1948 ، إستطاعت هذه الجيوش تحرير كثير من الأراضى الفلسطينية ، وضيقت الخناق على الجيش الإسرائيلى ، بحيث أصبح فى وضع حرج . وهنا أحس الرئيس ترومان بأن القتال الدائر فى فلسطين يسير لصالح الجيوش العربية ، وأصبح قلقاً على مصير الدولة التى عمل على إنشائها على أرض العرب، فمارس ضغوطاً مباشرة على المندوبين فى مجلس الأمن للحصول على قرار بوقف القتال بأى طريقة يمكن التوصل إليها .
إتفاقية الهدنة :
بعد مناقشات ومشاورات وملاحقات وضغوط من الرئيس ترومان شخصياً، وبناءاً على إقتراح المستر دوغلاس، المندوب البريطانى، وفى 29 مايو 1948 أقر مجلس الأمن الدولى الموافقة على وقف القتال فى فلسطين بموجب هدنة يتم الإتفاق عليها عن طريق وسيط دولى ، وقد تم تعيين الكونت برنادوت وسيطاً دولياً ، حيث إستطاع التوصل إلى إتفاق للهدنة لمدة أربعة أسابيع .
ونصت إتفاقية الهدنة الأولى على أن يحتفظ كل طرف بالمكان المتواجدة فيه قواته فى ذلك الوقت ، ولا يحق لأى طرف إستغلال الهدنة والحصول على مكاسب عسكرية ، سواء بإحتلال الأراضى أو جلب الإمدادات البشرية والأسلحة . ولكن إسرائيل لم تلتزم بهذه الهدنة ، حيث عملت على جلب مزيد من المتطوعين والأسلحة من الخارج بمساعدة سرية من أمريكيا وبريطانيا ، فى الوقت الذى فرض حظر على تصدير الأسلحة للدول العربية .
فأصبح لدى إسرائيل بعد الهدنة الأولى 90,000 مقاتل كقوات هجومية مسلحة بالدبابات والمدفعية والطيران. كما أن إسرائيل إستطاعت فى ظل هذه الهدنة تنظيم جيشها والإستيلاء على مزيد من الأراضى العربية ، بحيث أصبح ميزان القوى لصالحها بفارق كبير.
وهكذا كانت موافقة الدول العربية على الهدنة خطوة متسرعة وغير محسوبة ، وربما جاءت رضوخاً لضغوط خارجية ، لأن الجيش الإسرائيلى كان فى وضع صعب . وقد عبر مناحيم بيغن - فى مذكراته - عن إستغرابه وتعجبه لقبول الدول العربية للهدنة بالرغم من أن الموقف كان فى صالحها، كما أن موشى ديان، الذى كان من كبار ضباط الجيش الإسرائيلى فى ذلك الوقت ، قال : " كانت الهدنة بالنسبة لنا كأنها قطرة ندى قادمة من السماء " ( 29)
وقبل إنتهاء فترة الهدنة الأولى إقترح الوسيط الدولى برنادوت، أن تجدد الهدنة إلى أجل غير محدود، ووافقت الدول العربية على الهدنة الجديدة فى 17 تموز 1948، ولكن إسرائيل لم تلتزم بالهدنة الجديدة، حيث إحتلت مزيداً من الأراضى الفلسطينية وشردت مزيداً من السكان. وبعدها أجبرت الدول العربية على الدخول فى مفاوضات مع إسرائيل لعقد هدنة دائمة ، حيث وقعت الدول العربية كلاً على إنفراد معاهدات للهدنة مع إسرائيل فى جزيرة رودس فى عام 1949 .
وتكمن أهمية إتفاقات الهدنة لدولة إسرائيل فى أنها حصلت عن طريقها على مكاسب عديدة ، فقد حصلت إسرائيل على مزيد من الأراضى العربية، كما أن إتفاقات الهدنة أتاحت لإسرائيل فترة من الإستقرار كانت بأمس الحاجة إليها ، لبناء مرافق الدولة الجديدة وجلب مزيد من المهاجرين، كما أن إسرائيل فى هذه الفترة إستطاعت أن تحقق تفوقاً عسكرياً على الدول العربية .
صهيونية ترومان :
من العرض السابق يمكننا تقدير حجم المساعدة التى قدمها الرئيس ترومان لدولة إسرائيل قبل وبعد إنشائها ، إبتداءً من دعوته لفتح أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية وتبنيه لقرار التقسيم وإعترافه بدولة إسرائيل ، وإنتهاءًاً بإتفاقية الهدنة التى عقدت بين إسرائيل والدول العربية.
فقد كان ترومان صهيونياً أكثر من الصهاينة، حيث إنعكس ذلك على سياسته تجاه المسألة الفلسطينية، والتى كانت سياسة رئاسية ثم تنفيذها من جانب واحد رغم معارضة كثير من المستشارين الحكوميين لها، والذين كانوا يرسمون سياسة بلادهم الخارجية بناءاً على مصالحها القومية ، وليس بناءاً على عواطف دينية أو غيرها . لهذا فقد حدث أكثر من مرة أن تضاربت قرارات ترومان مع قرارات وزارة الخارجية ومستشاريه .
ففى أحدى المرات كان منذوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ، يطالب بشدة بوضع فلسطين تحت الوصاية ، من غير أن يعلم بأن الرئيس ترومان قد إعترف قبل ذلك بقليل بدولة إسرائيل .
وقد إعترف ترومان نفسه بحقيقة سياسته هذه حيث قال فى مذكراته : " لقد كنت أعلم بأن المستشارين جميعاً لا ينظرون إلى المسألة الفلسطينية نظرتى أنا إليها ، وأكثر من ذلك ، كان الإختصاصيون من موظفى وزارة الخارجية فى شئون الشرق الأوسط جميعهم تقريباً ضد فكرة دولة يهودية " (30)
ولكن ما هى نظرة ترومان للمسألة الفلسطينية ، التى جعلته يخالف جميع مستشاريه ويتحدى مشاعر جميع العرب والمسلمين ؟!
إنها نظرة شخص تربى على تعاليم الكنيسة المعمدانية، التى تتبع مذهب العصمة الحرفية فى تفسيرها للكتاب المقدس ، وهذا يعنى الإيمان بصورة حرفية بكل ما جاء فى العهد القديم من أخبار ومعلومات تاريخية ونبوءات من غير تأويل . لهذا فإن أتباع هذه الكنيسة من أكثر المتحمسين للحركة الصهيونية، حيث يؤمنون بضرورة قيام دولة إسرائيل تحقيقاً للنبوءات التوراتية.
لقد كان واضحاً أثر هذه الأفكار على ترومان وحياته ، فقد كان يؤمن - بإعتباره أحد تلاميذ التوراة - بالتبرير التاريخى لوطن قومى يهودى ، وكانت لديه قناعة بأن وعد بلفور ، حقق آمال وأحلام الشعب اليهودى القديمة .
كما كان واضحاً أثر الثقافة اليهودية والعهد القديم عليه ، وكيف لا وهو يعتبر التلموذ اليهودى كتابه المفضل . ولهذا كانت هديته لليهود عام 1946، فى عيد الغفران -كيبور- تأييده لمشروع تقسيم فلسطين.
كما عرف عنه حبه الشديد للفقرة الواردة فى المزمار 137والتى تقول : " لقد جلسنا على أنهار بابل وأخذنا نبكى حين تذكرنا صهيون"(31)
لقد كان ترومان يرى أن خدماته العظيمة التى قدمها لليهود تجعله يرقى إلى مقام الملك الفارسى قورش، الذى أعاد اليهود من منفاهم فى بابل، إلى فلسطين . " فعندما قدمه إيدى جاكوبسون إلى عدد من الحاضرين فى معهد لاهوتى يهودى ، وصفه بأنه الرجل الذى ساعد على خلق دولة إسرائيل. فرد عليه ترومان بقوله : وماذا تعنى بقولك ساعد على خلق ؟ إننى قورش .... إننى قورش "(32)
المساعدات الأمريكية لإسرائيل :
بعد أن أتم ترومان - قورش - مهمته على أكمل وجه ، لم يكن هناك شئ ذو أهمية كبيرة يمكن أن تقدمه أمريكيا لإسرائيل فى الخمسينات ومطلع الستينات من هذا القرن .
فقد كان تحسين الظروف الإجتماعية والإقتصادية وجلب المهاجرين الجدد من الخارج، والإبقاء على التفوق العسكرى، يحتل مكان الصدارة فى إهتمامات إسرائيل فى هذه الفترة . وقد إستطاعت إسرائيل تحقيق هذه الأهداف بمساعدة أمريكيا وحلفائها .
فعلى صعيد تحسين الظروف الإجتماعية والإقتصادية ، لعبت أمريكيا دوراً مهماً فى تأمين المساعدات المالية لإسرائيل ، حيث مارست ضغوطاً كبيرة على ألمانيا لإجبارها على دفع تعويضات لدولة إسرائيل عن اليهود الذين قتلوا فى العهد النازى، حيث كانت هذه التعويضات مصدراً مهماً للأموال اللازمة لعملية التنمية والبناء .
ومن ناحية أخرى ، قدمت أمريكيا كثير من المساعدات المالية لإسرائيل فى هذه الفترة .
فعلى سبيل المثال ، بلغت المنح التى قدمتها أمريكيا لإسرائيل من سنة 1950 وحتى 1959 حوالى 4035 مليون دولار ، وقروضاً قدرها 369 مليون دولار ، ومساعدات فنية قدرها 35 مليون دولار ، وأجهزة علمية قيمتها 10 مليون دولار ، وإستثمارات أمريكية بمبلغ 95 مليون دولار ، وحصيلة بيع السندات الإسرائيلية مبلغ 347 مليون دولار ، هذا عدا الإعفاءات من الضرائب والرسوم التى تمنحها الحكومة الأمريكية على ما يحصل من اليهود وما يتم جمعه عن طريق الجمعيات والمنظمات الأمريكية المؤيدة لإسرائيل "(33)
أما على صعيد جلب المهاجرين الجدد ، فقد تدفق الكثير منهم إلى إسرائيل منذ إعلان قيامها من كافة البقاع بدون إى مشاكل ، ولم تكن هناك مشكلة فى وصول المهاجريين اليهود إلا بالنسبة ليهود الدول العربية . وقد ساعدت أمريكيا على حل هذه المشكلة .
فعلى سبيل المثال ، قامت طائرات سلاح الجو الأمريكى بشكل سرى فى مطلع الخمسينات بنقل 65,000 يهودى يمنى إلى إسرائيل " (33) أما بالنسبة إلى تحقيق التفوق العسكرى ، فقد حققته إسرائيل بمساعدة أمريكيا وحلفائها من خلال حرب 1948، وما تبعها من تدفق للأسلحة على إسرائيل ، فى ظل فرض حظر على تزويد الدول العربية بالأسلحة .
وحتى فى اللحظة التى إستطاعت إحدى الدول العربية ، وهى مصر ، الحصول على أسلحة من الخارج فى عام 1955، قامت إسرائيل فى عام 1956 بالتعاون مع فرنسا وبريطانيا ، بشن العدوان الثلاثى على مصر ، لتدمير القوة العربية الجديدة ، من أجل الإبقاء على التفوق العسكرى الإسرائيلى والحصول على مكاسب جديدة .
ايزنهاور :
هكذا يبدو واضحاً أن إسرائيل فى هذه الفترة لم تكن بحاجة إلى الدعم الأمريكى الصارخ كما كان الحال فى عهد ترومان .
لذلك كان المجال مفتوحاً أمام أيزنهاور لتقليل حجم الدعم الأمريكى العلنى لإسرائيل ، لإمتصاص ردة الفعل العربية الساخطة على التحيز والتآمر الأمريكى التام على العرب أيام ترومان .
كما أن الظروف الدولية والأقليمية ، ساعدت على تحجيم هذا الدعم . فقد كان تركيز أيزنهاور فى هذه الفترة ينصب على إحتواء المد السوفيتى فى العالم ، والحيلولة دون إنتشاره فى العالم العربى . كما أن ظروف المنطقة العربية ومد القومية العربية الجارف ساهم فى تحجيم هذا الدعم إلى أدنى مستوياته .
لهذا كان الموقف الأمريكى تجاه العرب يبدو وكأنه معتدل نسبياً، حيث ركزت السياسة الأمريكية فى هذه الفترة على تخويف الدول العربية من الخطر السوفيتى، لحثها على الدخول فى تحالفات إقليمية لمواجهة الخطر السوفيتى المزعوم، او لعقد معاهدات سلام مع إسرائيل .
وبالرغم من هذا الاعتدال الظاهرى للسياسة الامريكية تجاه المنطقة العربية، الا أنه لا يجب اغفال حقيقة الالتزام الامريكى الدينى تجاه اسرائيل فى هذه الفترة، والذى عبر عنه جون فوستر دالاس - وزير الخارجية الامريكى فى عهد ايزنهاور - حيث ادلى بتصريح، امام جمعية بنى بريت (ابناء العهد) بتاريخ 8 مايو 1958 قال فيه :
"ان مدنية الغرب قامت فى أساسها على العقيدة اليهودية فى الطبيعة الروحية للإنسانية، لذلك يجب أن تدرك الدول الغربية أنه يتحتم عليها أن تعمل بعزم أكيد من أجل الدفاع عن هذه المدنية التى معقلها إسرائيل" (35)
جون كنيدى الرئيس الكاثوليكى الوحيد:
تولى جون كيندى الحكم فى بداية الستينات ، حيث كانت فترة ولايته من الفترات القليلة والنادرة التى تم فيها ضبط السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربى الإسرائيلى .
وقد جاء ذلك نتيجة لبعض العوامل الخارجية التى تكلمنا عنها سابقاً ، والتى أدركها كيندى بوضوح ، حيث كان يرى : " أن الإنحياز الأمريكى فى النزاع العربى الإسرائيلى لا يهدد الولايات المتحدة فحسب، بل يهدد العالم بأسره " (36)
يضاف إلى ذلك أن قناعات الرئيس كنيدى الشخصية ، بوصفه من أتباع الكنيسة الكاثوليكية ، والرئيس الأمريكى الكاثوليكى الوحيد فى تاريخ أمريكيا ، لم تترك مكاناً للأفكار والنبوءات التوراتية فى وجدان الرئيس أو عقله .
ليندون جونسون :
للأسف لم يستمر هذا الموقف طويلاً ، حيث أغتيل الرئيس كنيدى فى ظروف غامضة وتولى الرئاسة من بعده ليندون جونسون الذى أعاد السياسة الأمريكية إلى سابق عهدها ، حيث لم يتوانى عن تقديم كافة أنواع الدعم الإقتصادى والسياسى والعسكرى لإسرائيل .
ففى عهده حصلت إسرائيل على صفقات كبيرة من الأسلحة الهجومية والمعدات اللازمة للحرب الإلكترونية ، والتى تمكنت إسرائيل بفضلها من هزيمة الجيوش العربية فى عام 1967 والإستيلاء على أراضى شاسعة تفوق مساحتها، مساحة إسرائيل عدة مرات .
وقد وصف وليم . بالكوانت - فى كتابه عقد من القرارات - علاقة جونسون بإسرائيل بقوله :
" إن عواطفه الشخصية تجاه إسرائيل كانت تبدو راسخة بالمحبة والإعجاب، وتشير الظواهر كلها إلى أنه كان فعلاً يحب إسرائيل والإسرائيليين الذين تعامل معهم . كما عرف أقرب مستشاريه بصداقتهم لإسرائيل ، إضافة إلى أن إتصالاته المباشرة مع الجالية اليهودية الأمريكية كانت حميمة خلال مسيرة حياته " (37)
وهناك تصريح لجونسون ، أدلى به فى سبتمبر 1968 أمام جمعية بنات برث ( أبناء العهد ) ربما يلقى الضوء على أثر الأفكار والنبوءات التوراتية على سياسته تجاه الصراع العربى الإسرائيلى حيث قال فيه :
" إن بعضكم ، إن لم يكن كلكم ، لديكم روابط عميقة بأرض إسرائيل ، مثلى تماماً ، لأن إيمانى المسيحى ينبع منكم ، وقصص التوراة منقوشة فى ذاكرتى ، تماماً مثل قصص الكفاح البطولى ليهود العصر الحديث ، من أجل الخلاص من القهر والإضطهاد " (38)
مستقبل إسرائيل والعالم ؟!
عندما عبر الرئيس جونسون عن قناعاته الدينية التى تدفعه لدعم إسرائيل ، فإنه لم يكن الوحيد الذى ينظر إلى الصراع العربى الإسرائيلى هذه النظرة الدينية ، بل أنه كان يعبر عن وجهة نظر عامة سادت الأوساط الشعبية المتدينة فى أمريكيا ، وبالذات بعد الأنتصار الإسرائيلى فى حرب 1967 .
فقد ساهم هذا الإنتصار إلى حد كبير فى تزايد التيار المسيحى البروتستانتى المؤيد لإسرائيل ، بإعتبار أن ما حدث على أرض فلسطين ما هو إلا تحقيق لنبوءات توراتية ولمشيئة ألهية .
لهذا لم يكن من المستغرب أن نجد عناوين الكتب والمقالات التى نشرت فى أمريكيا وبعض الدول الأوربية ، فى أعقاب حرب 1967 من هذا الطراز الدينى المستمد من النصوص التوراتية ، مثل (وإنتصروا فى اليوم السابع) ، (حرب إسرائيل المقدسة ) ، (عملية السيف البتار) ، (داوود وجوليات) ، (أضربى يا صهيون )وغيرها .
وضمن الإطار نفسه ، قامت بعض الجماعات الدينية المسيحية ، بتوزيع منشورات وكراسات بعناوين مثل ، (مستقبل إسرائيل والعالم) و (الخطط المقدسة للتاريخ) ، حاولت فيها إظهار إنتصار إسرائيل فى عام 1967، وكأنه ينبثق عن الإرادة الألهية إذ تبر بوعدها لشعب الله المختار ، وتقوم بإستباق الأحداث لتجعلها مطابقة لما جاء فى النصوص الدينية ، ونبوءات العهد القديم من الكتاب المقدس .
وقد نشرت صحيفة الأنوار اللبنانية ، صورة لمنشور (مستقبل إسرائيل والعالم ) فى صفحتها الأولى فى 10 نيسان 1968 . وهذه مقتطفات مما جاء فى هذا المنشور :
" إن العهد القديم من الكتاب المقدس لم يتنبأ بالأزمة التى نشهدها فى الشرق الأوسط فحسب ، بل تنبأ بالإنتصارات الإسرائيلية وإحتلال القدس .... وحتى توقيت هذه الأحداث فى حد ذاته .
لقد تنبأت نصوص الكتاب المقدس بمساحة أكبر من المساحة الواقعة بأيدى إسرائيل فى شباط- فبراير- 1968، فالنص الوارد فى سفر التكوين (15:18) يوضح المسألة بإختصار على أساس وعد أله إسرائيل بالأرض الممتدة من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات (39).
غير أن الكثيرين يتساءلون عن صحة هذه النبوءات ، ويزعم البعض الآخر ، أن الأساس التوراتى لمزاعم إسرائيل الأرضية لا علاقة له بالموضوع ..... وأن الواقع المعاصر هو الذى يقوم بتعيين حدود الشرق الأوسط . ومع ذلك فإن النصوص المقدسة برهنت على صحتها فيما يتعلق بالأحداث حتى الآن ، مما يقوى الحجة لصحتها فيما يتعلق بالأحداث المستقبلية أيضاً " (40)
وواضح من مضمون المنشور السابق أنه يفسر الأحداث الحاضرة والمستقبلية ، التى جرت وستجرى فى منطقة الشرق الأوسط ، على أسس دينية صرفة وكأنها ليس إلا تحقيقاً لوعود ونبوءات توراتية . وهذا أمر خطير جداً كما سيتضح لنا فيما بعد .
ريتشارد نيكسون والإنتحار السياسى :
تولى ريتشارد نيكسون الرئاسة فى جو مشحون بالمشاعر الدينية المؤيدة لإسرائيل ، حيث لم يتوانى عن تقديم كافة أنواع الدعم الإقتصادى والعسكرى والسياسى لإسرائيل ، وذلك إستجابة لرغبة الرأى العام المتدين من ناحية ، وإرضاءاً لقناعاته الدينية من الناحية الأخرى .
فقد كان نيكسون من المتأثرين بالأفكار والنبوءات التوراتية ، وكانت تربطه علاقات حميمة مع بعض رجال الدين المسيحيين المعروفين بتأييدهم لإسرائيل . وقد وصل تعاطف نيكسون مع إسرائيل إلى الحد الذى جعله يقول :
" إن إستعداده للقيام بالإنتحار السياسى ، أكثر من إستعداده لإلحاق الضرر بإسرائيل . " (41)
ولم يكن موقف نيكسون هذا نابع من حرصه على الصوت الإنتخابى اليهودى ، أو غيرها من الأمور التى نسمع عنها . فاليهود لم يعطوه أكثر من 17% من أصواتهم الإنتخابية فى عام 1968 ، وبالرغم من ذلك كان دعمه المستمر لإسرائيل .
ولو إستمرينا فى تتبع سياسات الرؤساء الأمريكيين تجاه الصراع العربى الإسرائيلى ، فإننا سنجد على الدوام ، أن خلفياتهم الدينية لعبت دوراً حاسماً فى تشكيل سياستهم المنحازة لإسرائيل . يقول برنارد ريتش فى كتابه - الولايات المتحدة وإسرائيل - :
" إن القادة السياسيين فى أمريكيا وخاصتة الرؤساء منهم ، كانوا ولا يزالون يتبنون وجهة النظر الدينية المؤازرة لإسرائيل ، سواء ويلسون وترومان الذين يعترفان بالتأثير الدينى على قراراتهما ، أو ليندون جونسون ، الذى ينسب إليه قول مشهور أدلى به فى إجتماع لجمعية بنات برث - أبناء العهد - فى سبتمبر 1968 "(42)
إن علاقة الرؤساء الأمريكيين بإسرائيل يصدق عليها قول الكاتب اليهودى الأمريكى جون بيتى ، الذى قال :
" إن الرؤساء الأمريكيين ومعاونيهم ينحنون أمام الصهيونية كما ينحنى المؤمن أمام قبر مقدس "(43)
جيمى كارتر ينفذ أمراً ألهياً :
فى النصف الثانى من السبعينات وصل إلى الرئاسة الأمريكية ، جيمى كارتر ، الذى قام بجهد غير عادى لدعم إسرائيل ، تم تتويجه بتوقيع أول معاهدة سلام مع دولة عربية وهى مصر .
وقد وصف سايروس فانس وزير الخارجية الأمريكى آنذاك ، سياسة كارتر تجاه الشرق الأوسط ، فقال : " لم يكن محلاً للسؤال أن حجر الأساس فى سياسة كارتر حيال الشرق الأوسط ، سيبقى هو إلتزامنا بأمن إسرائيل . " (44)
كما عبر كارتر نفسه عن العلاقة الأمريكية الإسرائيلية خلال مؤتمر صحفى فى عام 1977، فقال :
"إن لنا علاقة خاصة مع إسرائيل ، وإنه من المهم للغاية أنه لا يوجد أحد فى بلادنا أو فى العالم أصبح يشك فى أن إلتزامنا الأول فى الشرق الأوسط إنما هو حماية إسرائيل فى الوجود ...... الوجود إلى الأبد ، والوجود بسلام ، إنها بالفعل علاقة خاصة . "(45)
ولكن ما هى طبيعة هذه العلاقة الخاصة التى يتحدث عنها الرئيس كارتر؟ إنها بالتأكيد ليست علاقة مبنية على المصالح المشتركة ، لأن المصالح تتغير من فترة إلى فترة ، وليس لها طابع الدوام وإلى الأبد .
إن هناك أمر آخر هو الذى جعل هذه العلاقة خاصة والإلتزام نحوها أبدياً كما جاء فى تصريح كارتر السابق. وقد وضح الرئيس كارتر هذا الأمر بنفسه فى تصريح له أمام الكنيسة الإسرائيلى فى مارس 1979 حيث قال :
"إن علاقة أمريكيا بإسرائيل أكثر من علاقة خاصة ، لقد كانت ولا زالت علاقة فريدة لا يمكن تقويضها لأنها متأصلة فى وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكى نفسه .
وفى إحتفال أقامته على شرفه جامعة تل أبيب ، وضح كارتر الأمر أكثر حيث قال : " إنه كمسيحى مؤمن بالله ، يؤمن أيضاً بأن هناك أمراً ألهياً بأنشاء دولة إسرائيل " (46)
فكارتر هنا ينفذ أمر المشيئة الألهية بحذافيرها عندما يدعم إسرائيل، وكيف لا، وهو المسيحى المؤمن الملتزم بالصلاة فى الكنيسة كل أحد، والذى كان عضواً فى أكبر كنائس بلدته وأكترها جاهاً ، وكان معلماً وشماساً فى مدرسة الأحد، ويساهم كل عام فى إسبوع لإيقاظ الروح الدينية فى المجتمع "(47)
إن خلفية كارتر الدينية الصارمة ، بوصفه أحد أتباع الكنيسة المعمدانية المعروفة بدعمها لإسرائيل ، إنطلاقاً من إيمانها الشديد بكل ما جاء فى العهد القديم من نبوءات وأخبار تاريخية ، هى التى رسمت سياسته تجاه إسرائيل .
ريجان ومعركة أرماجيدون !
لو تتبعنا سياسة رولاند ريجان تجاه الصراع العربى الإسرائيلى، فإننا سنجد أن النظرة الدينية أيضاً هى التى حكمت سياسته تجاه إسرائيل، فقد صرح الرئيس ريجان بانه كان يشعر عند الانتخابات الامريكية بان المسيح يأخذ بيده . وانه سوف ينجح ليقود معركة (الهرمجدون) التى يعتقد انها ستقع خلال الجيل الحالى فى منطقة الشرق الاوسط " (48) وبالرغم من ذلك فأنه لم يكن مديناً لليهود فى إعادة إنتخابه . فقد أعطوا 68 % من أصواتهم الإنتخابية للمرشح الديمقراطى والتر مونديل، الذى كان شعاره الإنتخابى يقول :
" إننى أفضل أن أخسر المعركة الإنتخابية واليهود يدعموننى على أن أربحها بدون أصوات اليهود ودعمهم "(49)
" وقد عبر رولاند ريجان عن الأبعاد التوراتية لإلتزام الولايات المتحدة الأمريكية - الأخلاقى والروحى والثراتى والأدبى - بإسرائيل بقوله ، مخاطباً المدير التنفيدى للمنظمة الصهيونية (ايباك) :
حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة فى العهد القديم وإلى العلامات المنبئة بمعركة ارماجيدون - أى نهاية العالم - أجد نفسى متسائلاً، عما إذا كنا نحن الجيل الذى سيرى ذلك لاحقاً . ولا أدرى أذا كنت قد لاحظت مؤخراً أي من هذه النبوءات ، ولكن صدقنى إنها تنطبق على زماننا الذى نعيش فيه " ويقول أيضاً :
إن نهاية العالم قادمة ، ويراها الرئيس كما تفسر النظريات معركة - ارماجيدون - حينما تغزو جيوش السوفيت والعرب وآخرين دولة إسرائيل ، وستباد جيوش الغزاة بواسطة قنبلة ذرية محدودة وسيموت ملايين اليهود ، أما المتبقى منهم فإنه سيتم إنقاذهم بواسطة جيش المسيح، والذى سيعود إلى الأرض لمعاقبة القوى المضادة للإسرائيليين وسيقضى على قوى الشر فى معركة تسمى ارماجيدون، وتقع فى سهل المجدل فى فلسطين، وستنتهى هذه المحنة بقبول اليهود للمسيح كمنقذ لهم ، وبزوغ فجر عصر الألف عام السعيدة تحت حكم المسيح "(50)
وآراء ريجان هذه ليست الأولى من نوعها، فلها سوابق كثيرة فى المكتب البيضاوى، ولكنها تعكس التصديق الواسع النطاق للنبوءات التوراتية وإستخدامها لتبرير وجود إسرائيل .
الهوامش
1.من أوراق واشنطن - د. يوسف الحسن - ص 119 .
2.أزمة الفكر الصهيونى - د. محمد ربيع - ص 46 .
3.الأمبراطورية الأمريكية - كلود جوليان - ترجمة ناجى أبو خليل - ص 19 .
4.من أوراق واشنطن - د. يوسف الحسن - ص 119 .
5.فلسطين - القضية * الشعب * الحضارة - بيان نويهض الحوت - ص 288
6.اليهودى العالمى - هنرى فورد - تعريب / خيرى حماد - ص 59
7.من اوراق واشنطن - يوسف الحسن - ص 119
8.فلسطين - القضية * الشعب * الحضارة - ص
9.الإتصالات السرية - محمود عباس - ص 286 .
10.إسرائيل الكبرى - أسعد رزوق - ص 219 .
11.الماسونية فى المنطقة 245 - ابو إسلام أحمد عبد الله - ص 52
12.جذور البلاء - عبد الله التل - ص 156 .
13.من أوراق واشنطن - د. يوسف الحسن - ص 120-121 .
14.الولايات المتحدة والفلسطينيون بين الإستيعاب والتصفية - د. محمد شديد _ ترجمة كوكب الريس - ص 58 .
15.من أوراق واشنطن - د. يوسف الحسن - ص 120 .
16.إسرائيل الكبرى - د. أسعد رزوق - ص 407 .
17.الإتصالات السرية - محمود عباس - ص 29 .
18.الصهيونية غير اليهودية - د. ريجينا الشريف - ص 195 .
19.الصهيونية الأمريكية وسياسة أمريكيا الخارجية - ريتشارد ستيفن - ص 75 .
20.المصدر السابق - 70 .
21.الصهيونية الأمريكية وسياسة أمريكيا الخارجية - ريتشارد ستيفن - ص 70 .
22.المؤامرة الكبرى ، إغتيال فلسطين - أميل الغورى - ص 150 .
23.الإستعمار وفلسطين - رفيق النتشة - ص 260 .
24.الصهيونية الأمريكية وسياسة أمريكيا الخارجية - ريتشارد ستيفن - ص 107
25.المصدر السابق - ص 114 .
26.الصهيونية العالمية - جمال الدين الرماوى - ص 126 .
27.الصهيونية الأمريكية - ريتشارد ستيفن - ص 234 .
28.المصدر السابق - ص 234
29.الإستعمار وفلسطين - رفيق النتشة - ص 244 .
30.إنى أتهم - روجيه ديلورم - ترجمة نخله كلاس - ص 91 .
31.الصهيونية غير اليهودية - د. ريجينا الشريف - ص 203 .
32.المصدر السابق - ص 204 .
33.الناصرية - عبد الله إمام - ص 137 .
34.إندماج - يوسف الحسن - ص 63 .
35.الماسونية فى المنطقة 245 - ابو إسلام أحمد عبد الله - ص 53
36.إنى أتهم - روجيه ديلورم - ترجمة نخله كلاس - ص 81 .
37.عقد من القرارات- وليم كوانت - ترجمة عبد الكريم ناصيف -ص67- 68
38.الولايات المتحدة وإسرائيل - برنارد ريتش- ترجمة مصطفى كمال -ص 179
39.إسرائيل الكبرى - د. أسعد رزوق - ص 605 .
40.المصدر السابق - ص 605 آو صحيفة الأنوار اللبنانية العدد - 2677- .
41.الولايات المتحدة والدول العربية - ا. ا. اوسيبوف - ترجمة محمود شفيق الشعبان - ص 19 .
42.الولايات المتحدة وإسرائيل - برنارد ريتش- ترجمة مصطفى كمال -ص 178
43.التحدى الصهيونى - جاك دومال - ترجمة نزيه الحكيم - ص 58 .
44.خيارات صعبة - مذكرات سايروس فانس - ص 9 .
45.الولايات المتحدة وإسرائيل - برنارد ريتش - ص 179 .
46.مجلة المستقبل - عدد 733 - السنة الرابعة - تاريخ 16-3-1983 .
47.لماذا ننشد الأفضل - جيمى كارتر - ص 218 : 219 .
48.المسخ الدخال - سعيد ايوب - 167
49.إندماج - يوسف الحسن - ص 67 .
50.ريغان الرجل والرئيس - تأليف مجموعة من الصحفيين الأمريكيين - ص 78 .


الفصل الخامس
تنامى التيار الدينى
المسيحى الأصولى فى امريكيا

فى ثمانينات القرن الحالى، صعد وتنامى التيار الصهيونى غير اليهودى، وصار يشكل أكبر وأقوى قوة متنامية مؤيدة لإسرائيل على المسرح السياسى الأمريكى، خاصة بعد أن إمتد نفوذه إلى عقول وجيوب الملايين وإمتلك شبكة تلفزيونية وإذاعية هائلة وبتقنية متقدمة للغاية وبإستخدام الأساليب الإستعراضية الدينية فى التلفزيون أو ما تسمى الآن - الكنيسة التلفزيونية أو الديانة فى الأوقات المناسبة " (1)
ولما كانت عضوية الكنائس البروتستانتية المحافظة قد إتسعت خلال العقد الماضى، فإن هذا الإتجاه، المسيحى الصهيونى نحو الشرق الأوسط، يجد من ينتصر له فى منابر مختلفة متزايدة، كالكنائس والإذاعات وحتى قاعات الكونغرس .
أسباب البركة فى أمريكيا ؟!
عندما عقدت منظمة، ايباك الصهيونية مؤتمرها السياسى السنوى للعام 1981، ألقى سناتور ايدوارووجر، و. جبسن، كلمه أمام المؤتمر قال فيها :
" إن من أسباب تأييده الحيوى الذى لا يتغير لإسرائيل، هو دينه المسيحى، وقال : إن المسيحيين وبخاصة الإنجيليين، هم من أفضل أصدقاء إسرائيل منذ ولادتها الجديدة عام 1948 .
وقال أيضاً : أعتقد أن أسباب البركة فى أمريكيا عبر السنين، أننا أكرمنا اليهود الذين لجأوا إلى هذه البلاد ، وبورك فينا لإننا دافعنا عن إسرائيل بإنتظام ، وبورك فينا لأننا إعترفنا بحق إسرائيل فى الأرض" (2)
جيرى فالويل ومنظمة الأغلبية الأخلاقية :
وهذا أيضا جيرى فالويل زعيم منظمة الأغلبية الأخلاقية، والصديق الشخصى لمناحيم بيغن وإسحق شامير والمحافظ الذى يحظى بأكبر قدر من الإعجاب خارج الكونغرس، يجسد الصلة المتنامية بين المسيحية الإصولية والصهيونية ، حين قال فى كتاب صدر له بعنوان (جيرى فالويل واليهود) :
" إن إسرائيل تحتل الآن مكان الصدارة فى نبوءات الكتاب المقدس، وإنى أومن أن عهد الوثنيين - يقصد العرب والمسلمين - قد ولى بسيطرة اليهود على الأرض المقدسة فى عام 1967، أو إنه سينتهى فى القريب العاجل . وإنى على قناعة بأن معجزة إنشاء دولة إسرائيل فى عام 1948 كان بفضل العناية الإلهية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وإن الإله وعد مراراً فى العهد القديم بأنه سيجمع الشعب اليهودى فى الأرض التى وعدها إبراهيم ، وأعنى بها أرض إسرائيل الآن، ولقد أوفى الإله بوعده ، وإن إنشاء دولة إسرائيل لدليل ثابت على أن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب حى كريم ، وستبقى دولة إسرائيل محور التاريخ .
ويقول أيضاً : " لا أعتقد أن فى وسع أمريكيا أن تدير ظهرها لشعب إسرائيل وتبقى فى عالم الوجود ، والرب يتعامل مع الشعوب بقدر ما تتعامل هذه الشعوب مع اليهودى .
وجيرى فالويل هذا يقوم بإنتاج برنامج دينى إسمه - ساعة من أزمان الإنجيل - يتم إذاعته من 392 محطة تلفزيونية ومن حوالى 500 محطة إذاعية كل إسبوع ، كما أنه يقوم بتنظيم رحلات إلى إسرائيل للمسيحيين الذين ولدوا من جديد، كما يسميهم . " (3)
وتقديراً لجهوده ، فقد أوعز مناحيم بيغن، بمنحه ميدالية إعترافاً بتأييده التابث لإسرائيل ، حيث تم تقليده هذه الميدالية فى عام 1980 خلال مأدبة عشاء إقيمت فى نيويورك بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الزعيم الصهيونى جابوتنسكى .
تأييد إسرائيل عمل لاهوتى !
إذا كان فالويل من أشهر المتحدثين بلسان المسيحيين المحافظين أو أتباع مذهب العصمة الحرفية الذين يصل تعدادهم إلى أكثر من 30 مليون أمريكى ، فإن هناك الكثير من المسيحيين البروتستانت فى أمريكيا ينظرون إلى الشرق الأوسط ، على الأقل من منظار الصلة الدينية بإسرائيل ، ويرون فى تأييدهم لها عملاً لاهوتياً ، إذ ينسبون لإسرائيل دوراً بارزاً فى تفسير التعاليم المسيحية . فهم يعتقدون من جهه ، إن إسرائيل تستحق التأييد المسيحى لأن وجودها هو تحقيق لنبوءات التوراة، ودليل على صدق الكتاب المقدس ، ويكثرون من الإستشهاد بفقرات من العهد القديم دفاعاً عن هذا الرأى . ويدعم عدة مسيحيين إسرائيل من جهه ثانية لإعتقادهم بأن اليهود مازالوا كما كانوا زمن التوراة، شعب مختار .
إسرائيل مفتاح أمريكيا للبقاء ؟!
حدث فى صيف 1983 ، أن أذاع مايك ايفانس ، قسيس بدفورد فى تكساس ، برنامجاً تلفزيونياً خاصاً ولمدة ساعة كاملة ، بعنوان - إسرائيل مفتاح أمريكيا للبقاء - حيث إستغله ليصف الدور الحاسم الذى تلعبه إسرائيل فى مصير الولايات المتحدة ، السياسى والروحى ، وإدعى بأن تخلى إسرائيل عن الضفة الغربية وغيرها من الأراضى المحتلة بعد حرب 1967، سوف يجر إلى دمار إسرائيل ومن بعدها الولايات المتحدة، وختم ايفانس برنامجه بنداء وجهه للمسيحيين ، يناشدهم فيه بتوقيع ، بيان البركة لإسرائيل ، وقال إن هذا البيان مهم بنوع خاص لأن الحرب مقبلة - يقصد معركة ارماجيدون - وعلينا أن نطلع رئيسنا - ريجان - ورئيس الوزراء - بيغن - على شعورنا نحن الأمريكيين نحو إسرائيل . وعن سبب إنتاجه لهذا البرنامج الذى إذيع فيما لا يقل عن 25 ولاية أمريكية ، قال ايفانس : إن الرب أمرنى بوضوح بإنتاج هذا البرنامج الخاص بدولة إسرائيل .
" وفى سنة 1984 جمع ايفانس توقيعات مليون مسيحى لالتماس دولى بالإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ، وفى مجلدين ممتلئين حمل ايفانس التوقيعات إلى إسرائيل وقدمها إلى شامير رئيس الوزراء . وكتب ايفانس وقتها يقول : إن عينى شامير اغرورقتا بالدموع ، وقال : إن أولئك المسيحيين يحبوننا حباً عظيماً ! " (4 )
أمريكيا قوية لإنها تقف مع إسرائيل !
يعلن كثير من رجال الدين البروتستانت فى أمريكيا ، أمثال جيم بيكر وكينت كوبلان وجيمى سواجارت وغيرهم، من خلال الإذاعات ومحطات التلفزيون ، عن تأييدهم لإسرائيل ، إستناداً لما ورد فى الكتاب المقدس . فهذا جيمى سواجارت(5)، الذى يعتبر من أشهر رجال الدين المسيحى فى أمريكيا ، يتحدث أكثر ويعمل أكثر لصالح إسرائيل، على أسس توراتية .... حيث يعتبر قيام إسرائيل ضرورة لاهوتية للعودة الثانية للمسيح . ويكشف سواجارت فى برامجه ومنشوراته الكنسية عن صهيونيته التوراتية ، حيث يقول : إن أمريكيا مرتبطة بحبل ميلاد سرى مع إسرائيل ، وإن الله يبارك الذين يباركون إسرائيل ويلعن لاعنيها .... إن أمريكيا قوية لأنها تقف مع إسرائيل . " (6)
القول مقرون بالعمل :
لا يجب أن نعتقد أن هذا التيار الدينى المسيحى فى الولايات المتحدة الأمريكية ، يكتفى فقط بإلقاء الخطب الرنانة وتوقيع بيانات التأييد لإسرائيل ، بل أنه يمارس ضغوطاً هائلة على صناع القرار فى أمريكيا من أجل دعم أكبر لإسرائيل ، ويكون حاضراً فى إى نقاش أو إى قضية تكون إسرائيل طرفاً فيها ، سواء فى الصحافة أو الإذاعة والتلفزيون وحتى فى قاعات الكونغرس والإجتماعات الشعبية ، فكانت النتيجة أن أصبح الكلام بحرية عن الشرق الأوسط وسياسة أمريكيا فى المنطقة ، مقيداً حتى قبل أن يبدأ. " (7)
وقد نجح هذا التيار المسيحى الإصولى فى الحصول على ما يريد فى أغلب الأحيان ، بسبب تنظيمه وتوحيد جهوده من خلال منظمات وجمعيات منتشرة فى طول وعرض الولايات المتحدة الأمريكية ، يزيد عددها على أكثر من 250 منظمة وجمعية ، من أبرزها ، منظمة الأغلبية الأخلاقية ومؤسسات روبرتسون الأعلامية التى تمتلك محطة تلفزيون وإذاعة الشرق الاوسط فى جنوب لبنان ، ومؤسسة السفارة المسيحية الدولية ، ومؤسسة المعبد ، وجماعة حق الدين وغيرها الكثير .
وتقوم هذه الجمعيات والمنظمات بإحياء وتنظيم مناسبات عديدة تضامناً مع إسرائيل ، مثل يوم الإعتراف بإسرائيل ، وسبت التضامن مع إسرائيل، وحفلات الفطور تكريماً لإسرائيل والتى أصبحت حدثاً سنوياً تقوم بتنظيمها جماعة المائدة المستديرة .
وفى إحدى الإحتفالات أصدرت لجنة صلاة الفطور ، بيانها الخاص لمباركة إسرائيل ، بإسم ما يزيد عن خمسين مليون مسيحى يؤمنون بالتوراة فى أمريكيا . وتضمن البيان خليطاً عجيباً من النقاط الدينية والسياسية والعسكرية ، تشمل ما يلى :
دعوة للتعاون الإستراتيجى مع إسرائيل يعقبها نداء إلى أله إسرائيل الذى أعطى العالم عبر الشعب اليهودى الكتب السماوية ...... مختارات من الكتاب المقدس تؤكد حق اليهود الألهى فى الأرض ..... ثم دعوة لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس ، مشفوعة بوصية تقول : إن حدود الأرض المقدسة التى رسمها الكتاب المقدس ، لا يمكن أن تغيرها رمال المقتضيات السياسية والإقتصادية المتحركة " (8)
السفارة المسيحية الدولية :
تعتبر منظمة السفارة المسيحية الدولية ، من أكثر المنظمات والقوى الصهيونية المعاصرة إنتشاراً ونفوذاً على الساحة الدولية . وقد ولدت هذه المنظمة فى نهاية سبتمبر 1980 حينما إجتمع أكثر من ألف رجل دين مسيحى جاءوا من أكثر من 23 دولة ، فى مؤتمر بمدينة القدس ، تعبيراً عن الدور المركزى لهذه المدينة فى فكر وحركة الصهيونية المسيحية المعاصرة . وقد جاء تأسيسها أثر رفض المجتمع الدولى لقرار الحكومة الإسرائيلية إعتبار القدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل ، وكرد فعل على قيام عدد من دول العالم بنقل سفاراتها من القدس إلى تل أبيب .
وقد إفتتحت السفارة مكاتب لها فى القسم الغربى من مدينة القدس، وأعلنت عن إفتتاح أكثر من 37 قنصلية لها فى دول العالم ، وأخذ يدير هذه المكاتب رجال دين مسيحيون متعصبون للصهيونية . وقد اتخذت السفارة ولاية كارولينا الشمالية ، مقراً لها وإفتتحت فروعاً لها فى عدد كبير من المدن الأمريكية الرئيسية .
وتقوم هذه المراكز بجمع التبرعات لإسرائيل وعقد المؤتمرات وتسيير المظاهرات وحشدها ، وبيع المنتجات الإسرائيلية ، وتنظيم الرحلات السياسية إليها ، وممارسة الضغوط السياسية على صانعى القرار فى دول العالم لصالح إسرائيل . ويؤمن أعضاء وأنصار هذه السفارة ، بأنه على إسرائيل أن تمتد من النيل إلى الفرات . وقد إختصر زعيم هذه السفارة أهداف منظمته بقوله : إننا صهاينة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم "(9)
وتصل موازنة السفارة إلى أكثر من 100 مليون دولار، وملايين الأتباع، وعشرات الألوف من الأعضاء فى جميع أنحاء العالم . وقد نظمت السفارة على مدى الأعوام الماضية، مهرجانات ومسيرات حاشدة فى شوارع القدس، إحتفالاً بتأسيس إسرائيل وبالأعياد الدينية اليهودية، مثل عيد العرش، شارك فيه آلاف المسيحيين الإصوليين .
وتستخدم السفارة ، شبكة واسعة من أجهزة الأعلام لنشر أهدافها وتثقيف أتباعها فى كيفية خدمة القضايا الإسرائيلية . فهى تصدر مجلة أخبارية ربع سنوية، إسمها المراجعة ، بالإضافة إلى عشرات الأوراق والنشرات والبيانات الدورية . وأنتجت فليماً صهيونياً، وشكلت لجان للعمل السياسى ونظمت حملات مستمرة من الرسائل البريدية إلى صانعى القرار فى عدد من دول العالم ، وصارت تدعى لجلسات الإستماع فى الكونغرس الأمريكى، وفى نفس الوقت رتبت حملات لجمع الدم ، دعماً لجنود إسرائيل أثناء غزو لبنان عام 1982، وأنشأت فرقة للغناء سمتها، فرقة أغانى صهيون، وجمعت المساعدات المالية وشجعت بيع السندات الإسرائيلية داخل الكنائس الأمريكية .
وفى أواخر أغسطس 1985 نظمت السفارة الدولية ، أول مؤتمر صهيونى دولى فى مدينة بازل بسويسرا، وفى نفس القاعة التى إنعقد فيها المؤتمر الصهيونى الأول بزعامة هرتزل . وقد شارك فى المؤتمر أكثر من 600 رجل دين ومفكر مسيحى، قدموا من 37 دولة ، وهتفوا جميعاً بحياة إسرائيل الكبرى ، وصلوا من أجل عاصمتها الموحدة والأبدية، القدس، وقرروا الإنتشار فى الأرض تنظيماً وحركة لخدمة وحماية وتكملة المشروع الصهيونى ..... ومن أجل إرضاء الرب أيضاً .
وقد إتخذ المؤتمر العديد من القرارات كان أبرزها :- (10)
1- الضغط بإتجاه مزيد من الإعتراف الدولى بإسرائيل كدولة لليهود ودعم عمليات تجميعهم من شتى أنحاء العالم، وخصوصاً من الأتحاد السوفيتى، لإستيطان الضفة الغربية وغزة ، وتكملة المشروع الصهيونى الممتد من الفرات إلى النيل تحقيقاً للنبوءات التوراتية .
2- مطالبة جميع الدول والمؤسسات الدولية والحكومية والخاصة ، فتح أبوابها كاملة لمشاركة الإسرائيليين، وعلى الدول الصديقة الإنسحاب من هذه التجمعات إذا ما طردت منها إسرائيل .
3- مطالبة جميع الأمم بالإعتراف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل ، وبالتالى نقل سفاراتها إليها.
4- إدانة كل أشكال اللاسامية ضد اليهود .
5- مطالبة الدول الصديقة بالإمتناع عن تسليح العرب، بما فيهم مصر .
6- تشجيع إطروحة توطين الفلسطينين - يسميهم المؤتمر اللاجئون من إسرائيل - فى الوطن العربى ، وتوفير العدالة للاجئين اليهود العرب فى إسرائيل .
7- دعم ومساندة الإقتصاد الإسرائيلى وإنشاء صندوق إستثمار مسيحى دولى لهذه الغاية ، مقره فى أمستردام وبرأسمال مبدئى قدره مائة مليون دولار ، ويخصص للصناعات التقنية والسياحية فى إسرائيل .
8- مطالبة العالم بعدم الإنصياع لأنظمة المقاطعة العربية لإسرائيل .
9- تعبئة الكنائس لنصرة إسرائيل وإنشاء تنظيمات بجدور شعبية لهذه الغاية ، ومطالبة مجلس الكنائس العالمى بالإعتراف بالرابط التوراتى بين الشعب اليهودى وأرضه الموعودة ودولته إسرائيل .
10- الصلاة إنتظاراً للمجئ الثانى للمسيح ومملكته القادمة فى القدس .
قرارات تتخذ لتنفذ :
لو تأملنا القرارات السابقة التى إتخذتها السفارة المسيحية الدولية فى عام 1985 ، والبيانات والمطالب التى طرحتها الحركة الإصولية الأمريكية خلال هذا العقد، وقارناها بالواقع الذى نعيشه الآن، فإننا سنجد أن كثير منها تحقق على أرض الواقع بطرق مختلفة خلال السنوات القليلة الماضية ، وبالذات فى عهد الرئيس الأمريكى جورج بوش، والتى يمكن إجمالها بالآتى :
1- فتح أبواب الهجرة اليهودية على مصراعيها من الأتحاد السوفيتى ودول أوروبا الشرقية وأثيوبيا ، إلى إسرائيل ، والمساعى الأمريكية مع سوريا واليمن لا تزال مستمرة لهذا الغرض .
2- إزدياد الإعتراف الدولى بإسرائيل ، حيث أنضمت دول مثل الأتحاد السوفيتى والصين ودول أوروبا الشرقية ، وكثير من الدول الأفريقية ، إلى قائمة الدول الدول المعترفة بإسرائيل والتى لها علاقات دبلماسية معها .
3- دعم الإقتصاد الإسرائيلى بطرق كثيرة، كان آخرها موافقة الرئيس موافقة الرئيس بوش على منح إسرائيل ضمانات قروض بقيمة 10 مليار دولار أمريكى .
4- إمتناع أمريكيا عن تسليح الدول العربية بأى أسلحة يمكن أن تشكل خطراً على إسرائيل ، وممارسة الضغوط من أجل منع الدول العربية من الحصول أى أسلحة من مصادر آخرى ، وحتى فى اللحظة التى تمكنت دولة عربية ، وهى العراق، من تكوين قوة عسكرية كبيرة تهدد إسرائيل، قامت أمريكيا بالتعاون مع أعوانها العرب بإفتعال أزمة مع العراق وجرته إلى حرب قضت على قوته العسكرية .
5- وعلى صعيد تشجيع التعاون الدولى مع إسرائيل ، قامت كثير من الدول وبضغط مباشر من أمريكيا ، بإلغاء العمل بقوانين المقاطعة العربية، كما تم إلغاء قرار الجمعية العامة الذى يساوى بين الصهيونية والعنصرية ، وكل ذلك من أجل فتح آفاق جديدة أمام التعاون الدولى مع إسرائيل .
6- وفى مجال تشجيع إطروحة توطين الفلسطينين فى الدول العربية ، فقد إنبثقت عن مؤتمر مدريد للسلام ،لجنة خاصة لبحث قضية اللاجئين فى إطار المباحثات المتعددة الأطراف وليس فى إطار المباحثات الثنائية ، وهذا يؤكد أن هدف هذه اللجنة هو حل مشكلة اللاجئين عن طريق توطينهم فى الدول العربية المضيفة لهم ، وليس فى الأراضى العربية المحتلة ، ولهذا رفضت إسرائيل طرح حق العودة فى هذه المفاوضات، كما أنها رفضت مشاركة فلسطينى الشتات فى المفاوضات التنائية .
7- وبالنسبة لقضية القدس فإنه لم يكن مصادفة أن يعلن وليم دوكاكيس المرشح السابق للرئاسة الأمريكية ، وبل كلينتون الرئيس الحالى ، خلال حملاتهم الإنتخابية ، عن عزمهما نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والإعتراف بها كعاصمة أبدية لإسرائيل . إن هذا الأمر إن دل على شئ ، فإنما يدل على الرغبة الأمريكية الأكيدة فى الإعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل ، ولكن الظروف الدولية والعربية لم تسمح لأمريكيا بإتخاذ هذه الخطوة فى السابق ، ولهذا لجأت أمريكيا وإسرائيل إلى تحقيق هذا الهدف على مراحل ، كان آخرها ما حدث فى مؤتمر مدريد للسلام ، عندما تم إستبعاد سكان القدس من المشاركة فى مفاوضات السلام ، وتم أيضاً إستبعاد طرح قضية القدس فى إطار المفاوضات بحجة أنه سيتم بحث هذه القضية بعد المرحلة الإنتقالية وفى إطار الحل النهائى .
إن هذا التطابق بين التوصيات والقرارات التى إتخذها التيار المسيحى الإصولى فى أمريكيا لدعم إسرائيل ، وبين ما تم ويتم إنجازه على أرض الواقع ، إن دل على شئ فإنما يدل على قوة هذا التيار من ناحية ، وعلى تبنى صانعى القرار فى أمريكيا لمطالب هذا التيار - بإعتبارهم جزء منه - من ناحية أخرى .
وإذا كان معظم صانعى القرار فى أمريكيا يحرصون على عدم إظهار خلفياتهم الدينية التى تدفعهم لدعم إسرائيل بصورة علنية ، فإن مرد ذلك إلى رغبتهم فى عدم إثارة المشاعر العربية والإسلامية ، ولهذا يلجأون إلى إختلاق تبريرات آخرى لتمرير سياستهم المنحازة لإسرائيل، مرة بالحديث عن اللوبى الصهيونى والصوت الإنتخابى اليهودى ، ومرة بالحديث عن ظروف الحرب الباردة والمصالح الأمريكية وغيرها من الأمور التى أتبثت الأيام عدم صدقها، وكل ذلك من أجل إبقاء آمال الدول العربية معلقة بإمكانية حدوث تغير فى الموقف الأمريكى تبعاً للتغيرات على الساحة الدولية .
الهوامش
1.من أوراق واشنطن - يوسف الحسن - ص 121 .
2.من يجرؤ على الكلام - بول فندلى - ص 393 .
3.المصدر السابق - ص 394 وما بعدها .
4.المصدر السابق - 395 .
5.قام جيمى سواجارت هذا، بعمل مناظرة دينية مع احمد ديدات، وقد قمنا بوضع كتاب بعنوان "احمد ديدات بين القاديانية والاسلام" عن هذه المناظرة وغيرها من المناظرات الأخرى التى اجراها احمد ديدات، حيث حاولنا توضيح الاهداف التى تسعى الى تحقيقها مثل هذه المناظرات .
6.جريدة الخليج الإماراتية - عدد : 2957 .
7.من يجرؤ على الكلام - بول فندلى - ص 393 .
8.المصدر السابق - ص 400 .
9.من أوراق واشنطن - يوسف الحسن - ص 128 .
المصدر السابق - ص 130 : 131

الفصل السادس
النظام الدولى الجديد
ووعود حرب الخليج
كلنا عايش أحداث حرب الخليج والتصريحات والوعود التى أطلقتها الإدارة الأمريكية وأعوانها من الزعماء والساسة العرب، عن ولادة نظام عالمى جديد سيتمكن من خلاله العرب والفلسطينين بالذات، من الحصول على حقوقهم كاملة . وقد جاءت هذه التصريحات والوعود، رداً على مبادرة الرئيس العراقى صدام حسين، الذى طالب بحل القضية الفلسطينية مقابل انسحابه من الكويت.
وقد استهجنت امريكيا وبعض الدول العربية، هذا الطرح من الرئيس العراقى، على اعتبار انه لا توجد صلة بين المشكلتين، هذا بالرغم من ادراك الذين عارضوا هذه المبادرة، ان الهدف منها كان تعرية الموقف الامريكى الذى يكيل بمكيالين، والذى عمل على تطبيق قرارات ما يسمى بالشرعية الدولية بحذافيرها على العراق، فى حين ان هناك اكوام من القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، مكدسة فى اقبية الامم المتحدة، والتى عملت امريكيا بالذات على عدم تنفيذها .
وازاء هذا الموقف المحرج الذى تعرضت له السياسة الامريكية، والذى أظهر بوضوح ازدواجيتها وكيلها بمكيالين، وجد - حتى الذين رفضوا المبادرة العراقية وايدوا الموقف الامريكى - انفسهم فى موقف لا يحسدون عليه . فكان لابد من تبرير هذه السياسة الفجة التى اتبعتها امريكيا فى حرب الخليخ، والتى لم تترك اى مجال للتفاوض وحل المشكلة بالطرق السلمية .
وهنا نشطت الدعاية الامريكية واذنابها فى المنطقة العربية، من كتاب وصحفيين وساسة، واخذوا ينظرون ويبررون ويفلسفون الموقف الامريكى، الذى جاء حسب تحليلاتهم الخائبة نتيجة لانهيار نظام القطبين، وبزوغ فجر النظام العالمى الجديد .
ولم ينسى هؤلاء من تقديم تحليلاتهم الخائبة عن هذا النظام الدولى الجديد. فقالوا ان اسرائيل ستفقد فى ظله قيمتها الإستراتيجية التى كانت لها قبل إنتهاء الحرب الباردة، وبالتالى فإن أمريكيا - حسب زعمهم - ستعمل جاهدة على حل الصراع العربى الاسرائيلى وفق قرارات الشرعية الدولية، وستمارس ضغوطها من أجل حصول الفلسطينين على حقوقهم كاملة . وقد كان بعض هؤلاء المحللين، متفائلاً أكثر من اللازم، حين طرح إمكانية إستخدام امريكيا للقوة لتطبيق قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالصراع العربى الإسرائيلى، مثلما فعلت مع العراق الشقيق !!
وقد انطلت هذه الكذبة على كثير من الدول والشعوب العربية، وبالذات التى وقفت موقفاً مؤيداً لامريكيا، حيث تمكنت امريكيا من تنفيذ مخططها بضرب القوة العسكرية العراقية، ليس من اجل الكويت، او من اجل تطبيق قرارات الشرعية الدولية، بل من اجل حماية مشروعها الصليبى فى المنطقة العربية والمثمتل فى اسرائيل، والذى شعرت انه بات مهدداً من القوة العراقية الضخمة والمتطورة .
الدعوة لإنعقاد مؤتمر السلام
بعد انتهاء حرب الخليج، سارعت امريكيا الى الدعوة الى انعقاد مؤتمر السلام بمدريد، ليس من اجل الوفاء بوعدها الذى قطعته على نفسها اثناء حرب الخليج، أو لحفاظ ماء الوجه لمن هللوا ونظروا وايدوا موقفها تجاه العراق، بل لاستغلال حالة الضعف والتشتت العربية، لفرض حل للصراع العربى الاسرائيلى وفق تصورها . وفعلاً فقد انعقد المؤتمر بحضور رمزى للاتحاد السوفيتى والمجموعة الاوربية، وبدأت المفاوضات العربية الاسرائيلية، فى حينها، واستمرت اكثر من عام من غير إحراز أى تقدم يذكر، ولم تقم أمريكيا بإستخدام القوة، أو حتى ممارسة أى ضغط على إسرائيل، لارغامها على تطبيق قرارات ما يسمى بالشرعية الدولية، بل العكس هو الذى حدث، حيث قدمت الدول العربية كثير من التنازلات، فى الوقت الذى لم تقدم فيه إسرائيل أى تنازل يذكر، بل إستمرت فى موقفها المتعنت وبدعم كامل من أمريكيا، التى عملت بطريقتها الخاصة على تفتيث موقف المفاوض العربى .
النظام الدولى الجديد سيعزز الإنحياز الأمريكى لإسرائيل :
إننا نعتقد أن ولادة النظام العالمى الجديد، بعد إنهيار المعسكر الشرقى، سيعزز ويزيد من حجم الإنحياز الأمريكى لإسرائيل، وليس العكس كما روج لذلك، غالبية محللينا السياسين .
فلو تأملنا السياسة الأمريكية تجاه المنطقة العربية، فى ظل نظام القطبين، فإننا سنجد أنها كانت تهدف إلى تحقيق هدفين رئيسيين :
الأول : حماية المصالح الأمريكية الكبيرة فى المنطقة العربية، وبالذات المصالح النفطية .
الثانى : تقديم كافة أنواع الدعم الممكن لإسرائيل .
ولكن وجود المعسكر الشرقى وعلى رأسه الأتحاد السوفيتى، وظهور الأنظمة العربية الثورية على الساحة، كان يجعل من تحقيق هاذين الهدفين معاً، أمراً صعباً .
فالمصالح الأمريكية فى المنطقة العربية كان يمكن الحفاظ عليها بسهولة، فى ظل غياب الإنحياز الأمريكى لإسرائيل، والعكس صحيح . وقد كانت الإدارات الأمريكية المختلفة تدرك ذلك، وكانت تدرك أيضاً أن إنحيازها لإسرائيل سيهدد مصالحها الحيوية فى المنطقة العربية (1) وسيثير المشاعر العربية المعادية لها، وسيدفع كثير من الدول العربية إلى تعزيز علاقاتها بالمعسكر الشرقى، وهذا ما لا تريده أمريكيا.
إذاً كيف إستطاعت أمريكيا التعامل مع هذه المعضلة الصعبة، أى الحفاظ على مصالحها الحيوية فى المنطقة العربية، وتقديم كافة أنواع الدعم الممكن لإسرائيل، من غير أن يؤدى ذلك إلى تعاظم الدور السوفيتى والمد الثورى القومى فى المنطقة العربية ؟
إتبعت السياسة الأمريكية أسلوبين يكمل كلاً منهما الآخر لحل هذه المعضلة :
فمن ناحية، عمدت السياسة الأمريكية إلى تخويف الدول العربية التقليدية من الخطر الشوعى الزاحف عليها من الخارج، ومن الخطر الثورى القومى الزاحف عليها من الداخل، وذلك من أجل دفع هذه الدول إلى الإرتماء فى الأحضان الأمريكية، بإعتبارها القوة الوحيدة القادرة على حمايتها من هاذين الخطريين .
ومن الناحية الآخرى، لجأت أمريكيا إلى تبرير سياستها المنحازة لإسرائيل ، بعوامل متغيرة، بعيدة كل البعد عن العامل الحقيقى - الثابت الدينى - كالقول بإن سبب هذا التحيز يعود إلى ظروف الحرب الباردة، واللوبى الصهيونى وغيرها من العوامل المتغيرة الآخرى، وكل ذلك من أجل إبقاء آمال الدول العربية معلقة بإمكانية حدوث تغيير فى الموقف الأمريكى، تبعاً للتغيرات الدولية .
وقد نجحت أمريكيا فى تمرير سياستها تلك على الدول العربية . فالدول التقليدية التى تخشى على سلطانها من التطلعات السوفيتية للوصول إلى المياه الدافئة، ومن التطلعات العربية القومية الرامية إلى تحقيق الوحدة العربية، لم تجد أمامها إلا الإرتماء فى الأحضان الأمريكية، لحمايتها من هذه التطلعات . لهذا قامت هذه الدول بتعزيز علاقاتها مع أمريكيا، على حساب موقفها المعلن من القضية الفلسطينية. وأنطلاقاً من موقفها الضعيف هذا، لم يكن بمقدورها تهديد المصالح النفطية الأمريكية، كرد فعل على الإنحياز الأمريكى لإسرائيل (2)، وكل ما كان بوسعها عمله هو إنتظار اللحظة التى سيتغير فيها الموقف الأمريكى تبعاً للتغيرات الدولية .
أما الدول العربية الثورية، التى تبنت الدور القيادى لمواجهة إسرائيل ، فإنها أنطلاقاً من فهمها الخاطئ لطبيعة العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، سعت إلى تعزيز علاقاتها بدول العمسكر الشرقى، أملاً فى إحداث التوازن الكافى للضغط على الموقف الأمريكى المنحاز لإسرائيل . ولكن تجارب الهزائم العربية المتكررة أمام إسرائيل من ناحية، وإنخفاض التأثير السوفيتى على الساحة الدولية، من ناحية أخرى، أدى إلى إنقسام هذه الدول إلى تيارين مختلفين :
الأول : بحث عن خلاصه الفردى، فأحدث شرخاً كبيراً فى صفوف الدول العربية الثورية، وذلك عندما قام بتعزيز علاقاته مع أمريكيا، أملاً فى إسترجاع أراضيه المحتلة، كما فعل السادات فى إتفاقيات كامب ديفيد، والذى كان يقول دائماً إن 99% من أوراق اللعبة فى يد أمريكيا .
أما التيار الثانى : فإنه ظل متمسكاً بموقفه الثابت تجاه الصراع العربى الإسرائيلى، وسعى إلى تعزيز هذا الموقف بعد زيارة السادات للقدس من خلال مجموعة دول الصمود والتصدى، ولكن هذا التيار لم يصمد طويلاً لأسباب كثيرة، يعود بعضها إلى خلافات بين الدول المكونة لهذه المجموعة، ويعود بعضها الآخر إلى أسباب أهمها التحديات الكبيرة التى خلقتها أمريكيا وأعوانها أمام دول هذا التيار من أجل تعجيزه وإفشاله، والتى كان آخرها، حرب الخليج، التى وجهت الضربة القاضية لهذا التيار وللنظام العربى كله .
وبإنهيار المعسكر الشرقى والنظام العربى بعد حرب الخليج، تحررت أمريكيا من كافة القيود التى كانت تحد من تحركها فى ظل نظام القطبين، وأصبحت يدها الآن مطلقة، للتصرف كيفما تشاء تجاه الصراع العربى الإسرائيلى .
فالمؤتمر الدولى للسلام الذى كانت أمريكيا ترفض إنعقاده فى ظل نظام القطبين، خوفاً من يأتى مخالفاً لشروطها، سارعت الآن إلى عقده تحت مسمى جديد، هو مؤتمر مدريد للسلام، لتفرض من خلاله على الدول العربية سلامها الأمريكى بعيداً عن أى تأثيرات خارجية من الأتحاد السوفيتى أو المجموعة الأوربية، وحتى الأمم المتحدة .
والدول العربية التى لم تستطع أمريكيا، فى ظل نظام القطبين، جرها إلى مفاوضات سلام مع إسرائيل، ها هى الآن تجلس جميعها مع إسرائيل على مائدة المفاوضات المتعددة الأطراف والتنائية، ملبية لكافة الشروط والمطالب الأمريكية - الإسرائيلية .
أما الدول العربية التى لم توافق على عملية السلام، فى ظل الرعاية الأمريكية المنفردة لها، فإنها وجدت نفسها معزولة ومحاصرة، إما بقرارات مجلس الأمن الأمريكى، وبإجماع دولى، بتهمة إحتضان الأرهاب الدولى وإنتهاك حقوق الإنسان، وإما بحملات إعلامية عدائية، ومشاكل حدودية مفتعلة مع جيرانها، لتكون فى أية لحظة ذريعة لتدخل عسكرى أو حصار إقتصادى سيباركه مجلس الأمن الأمريكى، ولو بدعوى التسبب فى ثلوت البيئة وثقب الآزون !
بل كلينتون :
إن تحرر السياسية الأمريكية من ضغوط نظام القطبين، والتى كانت تدفعها إلى اللجوء إلى أساليب مختلفة، لتبرير سياستها المنحازة لإسرائيل، كما أسلفنا، هذا التحرر ربما يفسر لنا عدم حاجة الرئيس الأمريكى الحالى بل كلينتون، إلى إخفاء مشاعره الدينية تجاه إسرائيل، حيث أعلن خلال حملته الإنتخابية عن عزمه، نقل السفارة الأمريكية إلى القدس (3) وبالطبع لايمكن فهم هذا الإعلان من قبل كلينتون على أنه جاء لخدمة المصالح الأمريكية فى المنطقة، أو بسبب ضغوط اللوبى الصهيونى وغيرها من الأمور .
فأمريكيا ليس لديها أى مصلحة سياسية أوعسكرية أو إقتصادية، من وراء إعترافها بالقدس كعاصمة لإسرائيل، بل العكس هو الصحيح . فهذا الإجراء لو حدث، فإنه سيؤدى إلى ردود فعل عنيفة وإستياء عام فى الدول العربية والإسلامية، وحتى الدول المسيحية ، غير البروتستانتية وعلى رأسها الفاتيكان . فهذه الدول جميعاً لها وجهات نظر مختلفة تجاه الوضع النهائى لمدينة القدس، تختلف كثيراً عن وجهة النظر الإسرائيلية والأمريكية المؤيدة لها .
إذاً لا يمكن فهم هذا الإعلان من قبل كلينتون، إلا بالنظر إلى الخلفية الدينية السائدة فى أمريكيا والتى يعتبر كلينتون جزءاً منها . وقد وضح كلينتون نفسه هذه الخلفية التى تدفعه للتعاطف مع إسرائيل، فقد زار كلينتون إسرائيل فى عام 1981، حيث وصف هذه الزيارة التى تأثر بها كثيراً، بإنها كانت، زيارة دينية أكثر منها سياسية . كما أنه تأثر كثيراً بقصة موت أحد رجال الدين المسيحيين، كان قد مات مؤخراً، وتحدث إليه طويلاً قبل ذلك، حيث قال له هذا القس : "إنه يأمل فى أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة، ولكنه قال له أيضاً : أنه يجب عليه أن يحافظ على إسرائيل ..... لإنه إذا تخلى عن إسرائيل، فلن يغفر له الله. وعلق كلينتون على ذلك بقوله : أعتقد أنه ينظر إلى الآن - يقصد القس - وإذا ما أنتخبت فلن أتخلى عن إسرائيل . (4)
هكذا يؤكد بل كلينتون كسابقيه من الرؤساء الامريكين على الابعاد الدينية والتوراتية لعلاقته باسرائيل، حيث أنه لم يبخل منذ توليه الرئاسة فى تقديم كافة انواع الدعم للدولة اليهودية . فقد قام بزيارتين لاسرائيل، ليؤكد للجميع دعمه وتأييده لها، ومن تابع هاتين الزيارتين، لابد وأنه لاحظ مدى مشاعر الحب والود التى يكنها الرئيس بل كلينتون لاسرائيل وارض اسرائيل . ففى خطابه امام الكنيست الاسرائيلي خلال زيارته الاولى، كان بل كلينتون يتغنى باليهود واسرائيل، وبالقيم اليهودية التى منحها الشعب اليهودى للعالم الحر .. وفى الزيارة الثانية لاحظنا مدى ثأترة بإغتيال رابين، حيث جاء وطاف حول قبر رابين وكأنه يطوف امام قبر نبى أو مكان مقدس، ولأظهار هذه القدسية ارتدى القبعة اليهودية، وودع رابين بكلمات عبرية قائلاً " شالوم حافير" (وداعاً يا صديقى) .
كما ان حرص الرئيس كلينتون وادارته على اسرائيل ومصالحها، بلغ اكثر من حرص الاسرائيليين على انفسهم، فقد حدث ان اصدر مجلس الأمن الدولى قراراً بادانة اسرائيل لقيامها بمصادرة مساحات واسعة من الاراضى فى مدينة القدس، فقامت امريكيا باستخدام حق الفيتو ضد القرار، ولكن فى اليوم التالى اجبرت الحكومة الاسرائيلية - بعد ضغوط من اعضاء الكنيست العرب - على الغاء هذا القرار، بعد ان هددوا بالتصويت ضد الحكومة فى جلسات الكنيست .
الكونغرس ونقل السفارة الامريكية الى القدس !
بادر السنتاتور الجمهورى روبرت دول، خلال شهر ايار الماضى بتقديم مذكرة الى مجلس الشيوخ الامريكى للمطالبة بنقل السفارة الامريكية من تل ابيب الى القدس، حيث حظيت هذه المذكرة بتأييد اغلبية كبيرة من الكونغرس بمجلسية الشيوخ والنواب على اساس ان يتم تنفيذ نقل السفارة الامريكية الى القدس عام 1999.
وبهذا اتخذ مجلس الشيوخ الامريكى قرارا ينص على اعتراف رسمى بالقدس عاصمة لاسرائيل وهو قرار يلزم الحكومة الامريكية بنقل سفارتها الى القدس فى مدة اقصاها ايار 1999 . وقد كانت نتائج التصويت على القرار باغلبية ساحقة، اذ وصلت نسبة المؤيدين فى مجلس الشيوخ الى 93 فى المئة، اما فى مجلس النواب فكانت لا تقل عنها الا قليلا، نحو 90 فى المئة.
وبعد صدور هذا القرار، الذى ان دل على شئ فإنما يدل على مدى تغلغل الافكار الصهيونية فى عقول الصفوة الحاكمة الامريكية، راهن البعض على امكانية استخدام الرئيس كلينتون لحق الفيتو، ولكن الرد جاء سريعاً حيث اعلن البيت الابيض ان الرئيس لن يستخدم هذا الحق . اما مسألة السماح للرئيس بارجاء تنفيذ القرار لفترات محدودة، ان هو وجد ضرورة لحماية المصالح الامنية القومية لبلده، والتى لازال يراهن عليها البعض، فما هى الا تخذير وتلهية لكل الغاضبين من هذا القرار ليس اكثر، وهى لا تمنع من التنفيذ اطلاقا، ولن يلجأ اليها الرئيس كلينتون لأنه اثناء حملته الانتخابية وعد اصلاً بنقل السفارة الامريكية للقدس .
وللأسف فقد خرج علينا غالبية المحللين السياسيين العرب، بتفسيراتهم التقليدية لاسباب صدور هذا القرار، فمنهم من قال انه يدخل فى اطار الحملة الانتخابية التى يقوم بها السنتاتور روبرت دول لخوض انتخابات الرئاسة، ومنهم من قال انه جاء بسبب ضغوط اللوبى الصهيونى، وغير ذلك من الاسباب، هذا بالرغم من ان القسم الثانى من القرار يحتوى 17 بنداً توضح سبب صدور القرار، اغلبها بنود مبنية على معلومات توراتية صهيونية صرفة جوهرها ان مدينة القدس مدينة داوودية يهودية صهيونية، وتؤكدة أن القدس هى المركز الروحى للشعب اليهودى .
وبالرغم من كل ذلك لم يولى احد من محللينا السياسيين هذه البنود اى اهتمام . ولم يسألوا انفسهم عن السبب الذى جعل القرار يصدر بهذه الاغلبية الساحقة، وعن السبب فى اجماع الديمقراطيين والجمهوريين بهذه الطريقة على هذا القرار، اذا كانت المسألة دعاية انتخابية للجمهورى روبرت دول ؟! واذا كان اللوبى الصهيونى قوى لهذه الدرجة فى الكونغرس الامريكى، فما معنى الاستمرار فى المراهنة على امريكيا، والحديث الدائم لكثير من الزعماء العرب، عن صداقتها للعرب، والتى لم تستطع منع صدور قرار يمس مشاعر العرب والمسلمين فى كل مكان ؟؟!!
فأى شريك لعملية السلام هذا الذى يمسح لنفسه بنسف عملية السلام، من خلال قفزه على التزامات وتعهدات قطعها على نفسه ؟! . وهل بقى لامريكيا اى مصداقية بعد صدور هذا القرار ؟! وهل بقى لبل كلينتون اى حجة بعد رفضة استخدام حق الفيتو بحق القرار ..
بالطبع لا، الا اذا كان البعض مصر على اغماض عينيه عن الحقيقة الساطعة وهى، ان الادارة الامريكية بكامل هيئاتها، والشعب الامريكى بوجه عام ينظرون إلى علاقتهم بإسرائيل ، من منظار دينى بحث، سيكون له أكبر الأثر على الصراع العربى الإسرائيلى وبالذات فى ظل النظام العالمى الجديد بكل سلبياته على المنطقة العربية .
إن النظام العالمى الجديد الذى إستبشر به كثير من العرب وظنوا أنه سيعيد لهم حقوقهم المسلوبة، وسينشر الأمن والسلام والأمن فى المنطقة لم يمهلهم طويلاً ، حيث بدأت ملامحه تطفو على السطح، وتصيبهم بنفس المرارة وخيبة الأمل التى أصابتهم مراراً فى العصر الحديت من خلال تجاربهم الطويلة والفاشلة مع كلاً من الحكومتين البريطانية والأمريكية . وسيعلم العرب ان النظام العالمى الجديد لن يهدأ له بال الا بعد ان يتوج جهوده الكبيرة فى خدمة اسرائيل بجعل الاعتراف بالقدس عاصمة ابدية لاسرائيل، أمراً واقعاً ومقبولاً دولياً وعربياً واسلامياًُ، لتكون عاصمة للنظام العالمى الجديد، حيث سيحكم المسيح ويبدأ عصر الالف عام السعيد، كما يقولون ؟!
الهوامش
1.العلاقات العربية الأمريكية والضغط الصهيونى - اندرو كارفلى - ترجمة أسعد حليم - ص 4 .
2.الولايات المتحدة والفلسطينيون بين الإستيعاب والتصفية - د. محمد شديد - ترجمة كوكب الريس - ص 243 : 244 .
3.جريدة القدس - العدد : 8342 - الخميس 24-12-1992 .
جريدة القدس - العدد : 8329 - السبت 7-11- 1992 .

الخاتمة
أسباب فشل السياسة العربية

أن الفشل الأساسى لكل المخططات العربية التى وضعت لمواجهة إسرائيل منذ وعد بلفور وحتى الآن ، يعود فى الأساس ، إلى عدم قدرة هذه المخططات على التعرف على معنى وطبيعة العلاقة بين إسرائيل وكلً من بريطانيا وأمريكيا، وبالتالى لم تستطع أى من هذه المخططات فهم الأبعاد العميقة لهذه العلاقة ، وجعلت التعامل معها منطلقاً من فهم سطحى مبتور ، بعيد عن حقائقه الأساسية، مرة بإرجاعه إلى ظروف الحرب الباردة ونفوذ اللوبى الصهيونى ، وأخرى إلى المطامع الإستعمارية والصوت الإنتخابى اليهودى .
إن الخطأ فى فهم طبيعة العلاقة بين إسرائيل والقوى العظمى المؤيدة لها، ترتب عليه أخطاء كبيرة فى التعامل معها ..... وإتخاذ العلاج الخاطئ للأمور المصيرية ، لا ينتج عنه إلا أخطاء فادحة على كافة المستويات . ويكفينا تأمل الثمن الباهض - المادى والمعنوى - الذى دفعته ولا زالت تدفعه أمتنا العربية، نتيجة لهذا الفهم الخاطئ .
فالموقف الأمريكى المنحاز لإسرائيل ، لا يمكن فهمه فى حقيقته ، كضغط إسرائيلى على أمريكيا ، بل على أن أمريكيا هى بيئة الحضانة الإسرائيلية ومؤخرتها ، والأرضية التى تمدها بكل أسباب الوجود والإستمرار. وستظل كذلك رغماً عن أنف كل واضعى السياسة الخارجية العربية ومستشاريهم من ذوى الأدمغة الفارغة ، إلا من قصاصات النيوزويك ، ودير شبيغل ، والتايم ، هذا إن كانوا يقرأون . (1)
الحملة الصليبية الثامنة !
فى 2 ديسمبر 1917 ، أى بعد صدور وعد بلفور بشهر واحد، ألقى الزعيم الصهيونى إسرائيل زانغويل ، خطاباً ، وصف فيه المحاولات البريطانية والأمريكية ، الرامية إلى إعادة اليهود إلى أرض فلسطين بقوله :
" سبع حملات صليبية إلى الأرض المقدسة ، عادت على اليهود بالمذابح ، فهل ستؤدى الصليبية الثامنة إلى إسترجاع اليهود لفلسطين ؟ وإذا كانت صليبية حقة ، فإن تلك الحقيقة بالذات تأتى بمثابة البرهان على النظام الجديد لعالم تسوده المحبة والعدالة " (2)
ولم ينسى زانغويل فى هذا الخطاب ، أن يكمل صورة النظام الجديد الذى توقع ميلاده فى ظل الحملة الصليبية الثامنة ، حيث أشار إلى ضرورة طرد العرب من أرض فلسطين ليتسنى إحلال اليهود مكانهم ، لإقامة الوطن القومى اليهودى . كما تمنى فى هذا الخطاب أن يكتمل هذا العمل عن طريق جعل مدينة القدس مقراً لعصبة الأمم ، بدلاً من لاهاى المفلسة ، ليتسنى جمع الحلمين العبرانيين، الأكبر والأصغر، ودمجهما فى حلم واحد، ولتصبح العاصمة العبرانية - ملتقى الديانات العالمية الثلاث - مركزاً ورمزاً للعصر الجديد فى الحال " (3)
هكذا وضح الزعيم الصهيونى إسرائيل زانغويل ، منذ 75 عاماً تقريباً ، طبيعة المعركة التى تخوضها كلاً من بريطانيا وأمريكيا ضد أمتنا العربية والإسلامية ، ولا أعرف أين كان واضعى السياسة الخارجية العربية ومستشاريهم من هذه الحقيقة ومن الحقائق الكثيرة التى عرضناها فى سياق هذا البحث ؟ بل أين كانوا عندما كتب حاييم وايزمان فى مذكراته ، مخاطباً بنى قومه ، قائلاً : " تحسبون أن لورد بلفور كان يحابينا عندما منحنا الوعد بإنشاء وطن قومى لنا فى فلسطين ؟ ...... كلا ، إن الرجل كان يستجيب لعاطفة دينية يتجاوب بها مع تعاليم العهد القديم "
وندع وايزمان وبلفور ونتدبر تصريحات مستر كارتر، ومن بعده ومن كان قبله ! إنهم جميعاً يتحدثون عن أرض الميعاد وعن نبوءات التوراة والحدود التى رسمتها .
فالمشاعر الدينية الفاترة فى العقل الباطن والظاهر، هى التى جعلت جنرال، جيرو، يقول فى دمشق أمام قبر صلاح الدين : ها نحن عدنا يا صلاح الدين ! وهى نفسها التى جعلت مارشال، اللنبى، يدخل القدس فى الحرب العالمية الأولى ويقول : الآن إنتهت الحروب الصليبية! (4)
وقد علق الداعية الإسلامى محمد الغزالى على هذه الحقائق بقوله: " يظهر أن العالم كله شديد الإحساس بعقائده وآماله الدينية ، إلا قومنا وحدهم ، فإنهم يتذاكرون بينهم أن الدين رجعية !! .... إن قضية بيت المقدس وفلسطين منذ فجر التاريخ إلى قيام الساعة ، قضية دينية عند أصحاب الرسالات السماوية جميعاً ، فكيف يتجرأ البعض إلى جعلها قضية قومية آو إقتصادية ؟
فالمسلمون يرون المسجد الأقصى ، يذكر فى سياق واحد مع المسجد الحرام والمسجد النبوى ، ويرون الدفاع عنه جزءاً من الإيمان ، ويعرفون جهود اليهود لهدمه وإقامة الهيكل فوقه ! ويعدون هذه الجهود جريمة ضد الإسلام والألف مليون مسلم الذين يعتنقونه ! فكيف يتجاهل هذا؟ والنصارى يرون بيت المقدس قبلتهم وبه قبر المسيح .... واليهود يرون أن هذه الأرض منحها الله لإبراهيم الخليل وذريته من بعده ، وزعموا أنهم الذرية المعنية ......
فإذا كان الدين وراء كل دعوى ، فكيف جاء من أسموا أنفسهم ، العروبيين ، وجردوا العرب من ردائهم الإسلامى ، وأغروهم بجعل القضية صراعاً جنسياً أو نزاعاً إمبريالياً وغير ذلك من الأوصاف المكذوبة "(5)
إن التاريخ لم يسجل خطأ أبشع من إنخداع المسلمين بخطة أعدائهم ، بزحزحة قضية فلسطين عن إطارها الإسلامى إلى دوائر ومتاهات الوطنية والقومية والمذهبية وغيرها من دعاوى الجاهلية ، التى فصلت القضية عن قوتها المؤثرة الحاسمة ، وتاهت فى ضباب كثيف ، ساقها إلى النكسات ، ثم المساومات ، ثم إستجداء الصلح الذليل .
لقد كان أعداءنا على وعى كامل بحقيقة الخطر الإسلامى منذ البداية، وقد علموا ذلك حين لم يستطيعوا التقدم خطوة واحدة تجاه فلسطين فى ظل الخلافة الإسلامية رغم ضعفها، لأن القضية كانت فى وضعها الصحيح ، دينية إسلامية .
إن الزحف الصليبى الجديد لا يوقفه إلا الإسلام، بإن نرد القضية إلى خطها الإصيل ، وأن نعود بالمعركة إلى إمتدادها الإسلامى ، وأن نرغم الجاهلية على الإنسحاب من قيادة المسلمين ، ليقودنا القرآن العظيم فى معركة المصير وصراع الوجود .
فالرؤية الدينية للصراع فى فلسطين تتأتى على ان تكون غاية حركتها مطلبا" فى وطن وحسب، ولكنها تنفذ من دائرة الحق الشرعى للمسلمين فى الوطن الفلسطينى الى دائرة المواجهة الوجودية بين لحظة مغلقة وحركة انتماء للمطلق الحر . فالصراع فى فلسطين برؤية دينية انما هو مواجهة حاسمة بين انتمائين للانسان، لا شك ان النصر فيها حليف لمقولة الحرية والكرامة، والهزيمة محتومة لقوى الشر والفساد والعدوان، بصورتها المكثفة فى الدولة الاسرائيلية .
فقد انتهت تطورات التاريخ الى تأهيل الوطن الفلسطينى مره اخرى ليكون ساحة الصراع بين الضلال الانسانى مكثفا" فى الدولة الاسرائيلية وبين حركة جهاد اسلامى تستأنف المسار الانسانى تحت راية الهداية الالهية ." (6)



الهوامش

1.العالمية الإسلامية الثانية - محمد أبو القاسم حاج حمد - ص 268 .
2.إسرائيل الكبرى - د. أسعد رزوق - ص 407 .
3.المصدر السابق - ص 406 .
4.مائة سؤال عن الإسلام - الجزء الثانى - الشيخ محمد الغزالى - ص 227 .
5.المصدر السابق - ص 229 .


ملحق خاص
عقيدة الهرمجدون
أو معركة مجدو *

لاهمية هذه المعركة فى الفكر المسيحى البروتستانتى، وجدنا أنه من الفائدة اطلاع القارئ عليها، كما وردت فى كتاب (قبل أن يهدم الأقصى)، لمؤلفه الاستاذ / عبد العزيز مصطفى .
وأهمية ذلك تنبع من كون غالبية اتباع التيار المسيحى الاصولى فى امريكيا يؤمنون بقرب حدوث هذه المعركة، ويترقبون ساعة وقوعها، بإعتبارها الحدث الذى سيظهر من خلاله المسيح، ليقضى على قوى الشر - كما يزعمون - التى تحارب اليهود، حيث بعدها يدخل اليهود الذين تبقوا على قيد الحياة فى الديانة المسيحية، ويبدأ العصر الألفى السعيد، حيث يحكم المسيح العالم من مقره فى القدس؟!
والمسيحيون البروتستانت لا يؤمنون فقط بقرب وقوع هذه المعركة، بل انهم على استعداد للمبادرة بإخراج احداثها وصنعها، لتأكيد مزاعمهم . وأخطر ما فى الامر هو ان هذا الايمان لا يقتصر على طبقة الناس البسطاء، بل وصل الى اعلى مستويات صناع القرار فى امريكيا، كما حدث مع الرئيس رولاند ريجان الذى كان يعتقد عندما رشح نفسه للانتخابات الامريكية بأن المسيح يأخذ بيده ليقود معركة "هرمجدون"، وهذا يعنى أنه كان على استعداد فى اى لحظه لخوض غمار حرب عالمية نووية، معتقداً أنه بذلك ينفذ تخطيطاً الهياً مقدر سلفاً .
يقول عبد العزيز مصطفى فى كتابه "قبل أن يهدم الأقصى" :-
من العقائد المشتركة بين اليهود والنصارى ، الإعتقاد بمجئ يوم يحدث فيه صدام بين قوى الخير وقوى الشر ، وتبين فيما سبق أن 85 مليون أمريكى يعتقدون بأن حديث الإنجيل عن تدمير الأرض بالنار يعنى أن الأرض ستدمر فى حرب نووية فاصلة لا مفر منها .
ومن العجيب أن رجال الدين النصارى من المبشرين وغيرهم يذكون فى المسيحيين هذا الإعتقاد ويحيونه ، متبعين فى ذلك اليهود أحياناً ، ومستقلين بالإعتقاد أحياناً آخرى .
ولقد جنى هؤلاء المبشرون الكثير من الفوائد والمغانم من وراء زرع الشعور بدنو يوم القيامة فى الناس ، ولا شك أن الحديث عن غيبيات ستحدث وربطها بغيبيات حدثت يجذب الإنتباه بقوة ، ويجلب بإلحاح وشدة نظر من يوجه إليه الحديث ، فالخوف من المجهول وترقب المنتظر أمر طبيعى فى مكنون النفس البشرية .
ولم يقتصر رجالهم فى إستغلال تلك المشاعر ، وراحوا يؤججون نيران الحماسة فى الناس للمساهمة فى صنع الأحداث الجسام التى ستسبق مجئ اليوم الآخر . ومن تلك الأحداث طبعاً عودة اليهود إلى فلسطين واستيلاؤهم على القدس ، وهدمهم للأقصى وابتناؤهم للهيكل ومن ثم انتظارهم لمجئ المسيح وحدوث المعركة الفاصلة بين قوى الخير وقوى الشر ، أو ما يعرف بمعركة (مجدو) أو (الهرمجدون) .
و(مجدو) التى تنسب إليها تلك المعركة هى أرض فى فلسطين يسميها اليهود والنصارى بهذا الأسم ، وهى تبعد 55 ميلاً عن تل أبيب ، وهى فى موقع يبعد 20 ميلاً جنوب شرق حيفا ، على بعد 15 ميلاً من شاطئ المتوسط.
وترتبط فى الإعتقاد القديم بأنها الأرض التى كان الفاتحون القدامى يعتقدون أن أى قائد يسيطر عليها يمكنه أن يصمد أمام الغزاة ، ويعتقد اليهود ومن تبعهم فى ذلك من النصارى .. أن جيشاً من مائتى مليون جندى يأتون إلى (مجدو) لخوض حرب نهائية ..
أما عن علاقة هذا اليوم بقضية الأرض المقدسة وبناء الهيكل ومجئ المسيح فإن النصارى الإنجيليين يعتقدون بأنه لن يكون هناك سلام حقيقى فى الشرق الأوسط ولا فى العالم إلى أن يأتى المنتظر الموعود ، ويجلس المسيح على عرش داود فى القدس ويحارب أعداء إسرائيل .
والمبشرون والقسس من أمثال (جيرى فالويل) و(هال لندزى) و(بات روبنرتسون) والمسيحيون اليمينيون الآخرون ، يعتقدون بأن الإنجيل فيه نبوءة تدل على العودة الوشيكة للمسيح بعد فترة حرب نووية وكوارث طبيعية ، وإنهيار إقتصادى وفوضى إجتماعية ، وإنهم يعتقدون بأن هذه الأشياء لا بد أن تحدث قبل المجئ الثانى للمسيح ويعتقدون بأن هذه الأشياء بينة بوضوح فى الإنجيل .
وفى الحقيقة أن هذا الإعتقاد أصله فى التوراة التى عند اليهود . والنصارى تبعوهم فيه وجاءت الإشارة إليه فى التوراة فى سفر حزقيال . فعن قدوم قوى الخير تقول التوراة :
" بعد أيام كثيرة تفتقد فى السنين الأخيرة تأتى إلى الأرض المسترة من السيف المجموعة من شعوب كثيرة على جبال إسرائيل التى كانت خربة للذين أخرجوا من الشعوب آمنين كلهم، وتصعد وتأتى كزوبعة، وتكون كسحابة تغشى الأرض، أنت وكل جيوشك وشعوب كثيرون معك ".
وتتحدث التوراة عن أوصاف ذلك اليوم :
"ويكون فى ذلك اليوم يوم مجئ جوج على أرض إسرائيل يقول الرب إن غضبى يصعد وغيرتى فى نار سخطى ، تكلمت أنه فى ذلك اليوم يكون رعش عظيم فى إسرائيل، فترعش أمامى سمك البحر وطيور السماء ووحوش الحقل ، والدبابات التى تدب على الأرض، وكل الناس الذين على وجه الأرض، وتندك الجبال ، وتسقط المعاقل ، وتسقط كل الأسوار إلى الأرض، وأستدعى السيف عليه فى كل جبالى . يقول السيد الرب : فيكون سيف كل واحد على أخيه ، وأعقابه بالوباء وبالدم وأمطر عليه وعلى جيشه وعلى الشعوب الكثيرة الذين معه مطراً جارفاً وحجارة برد عظيم وناراً وكبريتاً .."(1)
وفى سفر حزقيال أيضاً الأمر لحزقيال بأن يوجه الكلام إلى قوم يأجوج ومأجوج : " وأنت يابن آدم تنبأ على يأجوج وقل : هكذا قال السيد الرب : هأنذا عليك يأجوج رئيس روش ماشاك وتوبال، وأردك وأقودك وأصعدك من أقاصى الشمال، وآتى بك على جبال إسرائيل، وأضرب قوسك من يدك اليسرى وأسقط سهامك من يدك اليمنى، فتسقط على جبال إسرائيل أنت وكل جيشك والشعوب الذين معك، أبذلك مأكلاً للطيور الكاسرة من كل نوع ولوحوش الحقل، على وجه الحقل تسقط لأنى تكلمت . يقول السيد الرب : وأرسل ناراً على مأجوج وعلى الساكنين فى الجزائر آمنين ، فيعلمون أنى أنا الرب "(2)
وتحدث التلمود أيضاً عن معركة الهر مجدون وجاء فيه :
" قبل أن يحكم اليهود نهائياً لابد من قيام حرب بين الأمم، يهلك خلالها ثلثا العالم، ويبقى اليهود سبع سنوات يحرقون الأسلحة التى اكتسبوها بعد النصر، وحينئذ تنبت أسنان أعداء بنى إسرائيل بمقدار اثنين وعشرون ذراعاً خارج أفواههم .. !! "
وحتى بروتوكلات حكماء صهيون تحدثت عن هذه المعركة :
" إننا نقرأ فى شريعة الأنبياء أننا مختارون من الله لنحكم الأرض، وقد منحنا الله العبقرية كى نكون قادرين على القيام بهذا العمل، إن كان فى معسكر أعدائنا عبقرى فقد يحاربنا ولكن القادم الجديد لن يكون كفؤاً إلا لأيد عريقة كأيدينا .. إن القتال المتأخر بيننا سيكون ذا طبيعة مقهورة لم ير العالم مثيلاً لها من قبل والوقت متأخر بالنسبة إلى عباقرتهم " (3)
ولكن أصحاب هذا الإعتقاد يفسرون هذه النبوءات بتطبيقها على وقائع ومسميات ، فيعتقدون أن المعسكر الشرقى قوة شريرة وأن هذه القوة الشريرة ستقدم يوماً على حرب ضد قوى الخير ممثلة فى إسرائيل وأشياعها من دول العالم النصرانى ، وهم يضمون المسلمين إلى جانب قوى الشر .
ومن الطريف أنهم يسمون دولاً بعينها ويجعلونها فى مصاف القوى الشريرة التى ستشهد معركة مجدو- منها ليبيا وأثيوبيا !! (4)
ومن العجب أيضاً أن الحديث عن ( الهر مجدون) يتداول على نطاق واسع، وعلى أعلى المستويات وفى أدق القضايا العالمية وأخطرها . قال المبشر (جيمى سواجارت) فى برنامج تلفزيونى أذيع فى 22 سبتمبر 1985 " يجب أن لا نتوصل إلى اتفاقات مع الإتحاد السوفيتى .. إن معركة (هرمجدون) مقبلة، ستقع هذه المعركة فى سهل مجدو .. إنها مقبلة، فى وسعهم أن يوقعوا كل معاهدات السلام التى يريدون .. كلها لن تحل .. ومشكلات أوروبا لن تحل ، بل ستصبح أسوأ .. حتى يأتى المسيح المخلص "
وينظم هذا المبشر رحلات دورية إلى الأرض المقدسة ، يطوف فيها بالمسيحيين الإنجيليين فى أنحاء القدس شارحاً لهم كيف ومتى ستحدث الأحداث العظام فى هذه المناطق .
وقد قام (جيرى فالويل) برحلة إلى فلسطين عام 1983 اصطحب فيها 630 مسيحياً استقلوا الطائرة من نيويورك إلى تل أبيب وذهبوا إلى (مجدو) مكان المعركة المنتظرة .
وقال (جيرى فالويل) فى خطبة ألقاها يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) 1984 معلقاً على اقتباس من سفر الرؤيا، ومشيراً إلى معركة مجدو : " إن هذه الكلمة (مجدو) تنزل الخوف فى صدور الناس، سيحدث اشتباك أخير، وسيدمر الخالق هذا الكون “ وقال : “ وبالرغم من التوقعات الوردية وغير الواقعية من جانب حكومتنا بشأن اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، فإن هذه المعاهدة لن تدوم طويلاً " . ثم قال : " من المؤكد أننا نصلى من أجل سلام القدس، ومن المؤكد أننا نكن الأحترام لمن وقعا اتفاقية السلام إننى أعلم وأنتم تعلمون أنه لن يكون هناك سلام حقيقى فى الشرق الأوسط إلى أن يجلس المسيح يوماً على عرش داود فى القدس " (5)
وهناك قس آخر وهو (بيلى جريهام) يركز فى دعوته على أن يوم مجدو على المشارف، وقد حذر عام 1970 من أن العالم يتحرك بسرعة نحو معركة مجدو، وأن الجيل الحالى قد يكون آخر جيل فى التاريخ، وقال أن أكبر معركة فى التاريخ ستقع فى هذا الجزء من العالم (الشرق الأوسط) .
ويقول المبشر (أوين) : " إن إرهابيين يهوداً سينسفون المكان الإسلامى مما يرغم المسيح المنتظر على التدخل ، إن اليهود يعنقدون أن قدومه سيكون الأول ، ونحن المسيحيين نعلم بأن هذه ستكون الثانية ؟، نعم لابد بالتأكيد من أن يكون هيكل يهودى ثالث "
وعندما سئل (القس ديلتش) : " إذا نجح اليهود الذين تؤيدهم ودمروا قبة الصخرة والمسجد الأقصى فأدى ذلك إلى اشتعال نيران الحرب العالمية الثالثة ، فهل تعتبر نفسك من المسئولين عن ذلك ؟ أجاب قائلاً : كلا .. لأن ما سيفعله أولئك اليهود هو إرادة الله "
وكما أسلفت، فإن الإعتقاد فى معركة مجدو وأنها وشيكة الوقوع قد سيطر على قطاع عريض من النصارى ومنهم أشخاص اعتلوا أعلى كراسى المسئولية فى العالم، ومن هؤلاء الرئيس الأمريكى (رونالد ريجان)، يقول الأمريكى (اندرولانج) مدير الأبحاث فى معهد الدراسات المسيحية ومقيم بواشنطن " لقد أجريت دراسة عميقة عن ريجان والإعتقاد بمجدو ، ووجدت أن ريجان قد نشأ على ذات نظام المعتقدات التى نشأ عليها كل من (كلايد، وجيرى فالويل، وجيمى سواجارت) ومبشرين آخرين، وإن لدى ريجان اعتقاد بهذا اليوم على الأقل إلى وقت قريب من توليه الرئاسة "
وقد عقد لانج مؤتمراً صحفياً نظمه معهد الدراسات المسيحية، وقال فى المؤتمر : " إننى وآخرين من المعهد أردنا التحقق فى أمر ريجان وأيدلوجية مجدو بالنظر إلى إمكانية أن يعتقد رئيس ما - شخصياً - بأن الله قد قدر سلفاً حرباً نووية، هى إمكانية تثير عندداً من الأسئلة المخيفة، فهل سيؤمن رئيس معتقد بهذه الإمكانية التفاوض على نزع السلاح حقاً ؟ وهل سيكون إذا وقعت أزمة نووية واعياً ومتعقلاً ؟ أم أنه سيكون تواقاً للضغط على زر ما شاعراً بذلك أنه يحقق تخطيط الله المقدر سلفاً لنهاية الزمن ؟ !! "
وفى الحقيقة فإن رونالد ريجان نفسه يشير إلى عواطفه الدينية المبكرة، إذ قال فى مقابلة تلفزيونية مع المبشر جيم بيكر عام 1980 : "كنت محظوظاً لأن أمى غرست فى إيماناً عظيماً أكثر بكثير مما أدرك فى ذلك الحين "
وقال فى تصريح علنى آخر : "إن الكتاب المقدس يضم كل الإجابات على قضايا العصر، وعلى كل الأسئلة الحائرة إذا ما قرأنا وآمنا، إن الأموال التى ننفقها فى محاربة المخدرات والمسكرات والأمراض الإجتماعية يمكن توفيرها لو حاولنا جميعاً أن نعيش وفق الوصايا العشر .. لقد أخبرونى أنه منذ بداية الحضارة سنت ملايين القوانين، ولكنها جميعاً لم تصل إلى مستوى قانون الله فى الوصايا العشر ... ".
ويعارض ريجان بباعث من معتقده الدينى مسألة الفصل بين الدين والسياسة التى يتبجح كثير من حكام المسلمين بالتغنى بها .. يقول " لا يوجد شئ اسمه الفصل بين الدين والسياسة، وإن القائلين بهذا الفصل لا يفهمون القيم التى قام عليها المجتمع الأمريكى " (6)
والمقربون من ريجان يؤكدون بأن اعتقاده بقرب مجدو أكيد وقوى . تقول الكاتبة (جريس هالسيل) :
يروى (جيمس ملز) الذى كان رئيساً لمجلس شيوخ ولاية كاليفورنيا- ضمن مقالة نشرتها له مجلة (سان رييجو ماجازين) فى أغسطس 1985م أن ريجان سأله أثناء مأدبة حضرها، عما إذا كان قد قرأ الفصلين (38 ، 39) من (حزقيال)، فأكد ملز لريجان أنه قد قرأ بالفعل وناقش فقرات حزقيال التى تتحدث عن يأجوج ومأجوج، وعندئذ تحدث ريجان بحرارة عن تحول ليبيا إلى الشيوعية، وأصر على أن هذا علامة تدل على أن يوم معركة مجدو ليس ببعيد (لأن تحول هذه الدولة إلى الشيوعية يجعلها من القوى الشريرة التى ستنضم مع الجيش الشرقى الكبير ضد إسرائيل) .
ثم قام (ملز) بتذكير ريجان بأن حزقيال قال أيضاً إن الحبشة ستكون بين القوى الشريرة، فقال ريجان : "إننى أوافق أن كل شئ لم يأخذ مكانه بعد، ولكن لم يبقى إلا حدوث هذا الشئ فقط، إذ يجب أن يسيطر الحمر على أثيوبيا! "
وعندما قال ملز إنه لا يعتقد أن هذا أمر مرجح ، قال ريجان : " اعتقد بأن هذا أمر لا مفر منه ، إنه ضرورى لتحقيق النبوءة القائلة بأن أثيوبيا ستكون من الأمم الكافرة التى ستقف ضد إسرائيل "
ويبدو أن ريجان قد ذهب بعيداً فى إيقانه من أن المسألة أصبحت مسألة وقت بالنسبة لمجئ اليوم فهو يعتقد أن لا عقبات هناك تحول بين ذلك اليوم وبين حدوثه ، قال ريجان لملز " إن كل النبوءات الأخرى التى تعين تحقيقها قبل معركة مجدو قد حدثت والفصل 38 من حزقيال يقول: إن الله سيأخذ بنى إسرائيل من وسط الكفار حيث سيكونون مشتتين ، ثم سيلم شملهم مرة آخرى فى أرض الميعاد . وقد حدث هذا بعد قرابة ألفى سنة، ولأول مرة فى التاريخ فإن كل شئ مهيأ لمعركة مجدو، والمجئ الثانى للمسيح "
وهناك قرائن تدل على أن ريجان ظل متحفظاً باعتقاده فى معركة مجدو حتى ركب سدة الحكم فى أكبر دولة فى العالم وأقواها .
فعندما رشح نفسه للرئاسة عام 1980م أدلى رونالد ريجان بتعليق عن نهاية العالم أثار انتباه المعلقين السياسيين حتى قال أحد المعلقين فى صحيفة (نيويوك تايمز) (وليام سافير) إن ريجان كان يخاطب حينئذ مجموعة من زعماء اليهود وقال لهم :" إن إسرائيل هى الدولة الوحيدة التى نستطيع الأعتماد عليها كبقعة ستحدث فيها معركة مجدو "
وقال ريجان فى مناسبة أخرى للمبشر جيرى فالويل "جيرى .. إننى أعتقد أحياناً بأننا نتجه الآن بسرعة عالية جداً نحو معركة مجدو .."
وفى أكتوبر (تشرين) 1983م كشف ريجان النقاب عن أن معركة مجدو ليست فقط عقيدة لا تزال تسكن قلبه، بل إنها لا تزال تشغل باله. فقد اتصل هاتفياً مع (توم داين) من اللجنة المركزية الأمريكية الإسرائيلية للشئون العامة، التى هى أقوى مجموعة ضغط قوية لإسرائيل ، وقال داين إن ريجان قال له "أتدرى .. ؟ إننى أعود إلى أنبيائكم القدامى فى العهد القديم ، وإلى الدلائل التى تنبئ بمجدو وأجدنى أتساءل عما إذا كان الجيل الذى سيشهد ذلك .. لا أدرى إن كنت لاحظت أياً من هذه التنبؤات فى الأزمنة الأخيرة .. ولكن صدقنى إنها تصف بالتأكيد الزمن الذى نعيشه "
والرئيس الأمريكى لم يكن يخفى توجهاته الدينية الدفينة قبل وبعد تولى الرئاسة، وهو بعد أن نجح فى انتخابات الرئاسة التى جاءت به لمقعد الحكم لبس القبعة اليهودية المعروفة، وألقى خطاباً فى مؤتمر يهودى، كدليل التزامه بالصهيونية وولائه المطلق لليهود .
كتب (جيمس ملز) فى مقالته التى نشرتها مجلة (سان ييجو ماجازين) فى أغسطس (آب) 1985 .. "إن ريجان كرئيس ، أظهر التزاماً بالاضطلاع بواجباته وفقاً لإرادة الله، كما يجب أن يفعل كل مؤمن فى منصب رفيع، وأن ريجان شعر بذلك الالتزام خصوصاً فى سعيه إلى بناء الجبروت العسكرى للولايات المتحدة وحلفائها "
ولا يخفى على أحد أن ريجان جاء إلى الحكم بعد أن كانت دعايته تتركز على إعادة الهيبة إلى الدولة الأمريكية، التى تمرغت سمعتها فى الوحل بعد عملية حجز الرهائن الأمريكيين فى عهد كارتر .
وعموماً فإن الحديث عن مجدو فى الأوساط المسيحية واليهودية لا يفوت هؤلاء وأولئك عندما يحدث أى حدث غير عادى على أرض الواقع حيث يربطون ما حدث بما سيحدث ويرجعون هذا وذاك إلى ما حدث بالأمس ......
وفى عام 1983 نظم المبشر (جيرى فالويل) رحلة إلى فلسطين لإطلاع المسيحيين على الأماكن المقدسة هناك وخصوصاً الأماكن اليهودية التى تتعلق بالعقائد التوراتية، وهناك نظم لقاءات مع قادة سياسيين ودينيين فى إسرائيل، ونظم لهم لقاء مع موشى أرينز وزير الدفاع الإسرائيلى آنذاك، (وهو كان فى السابق سفيراً لإسرائيل فى أمريكيا، وولد فى أمريكيا)، وحدثهم أرينز فى ذلك اللقاء فقال : " إن غزو لبنان 1982 كانت بإرادة إلهية ، فهى حرب مقدسة، مستمدة من العهد القديم، وهذا يؤكد النبوءة إذ أن هذا الغزو يمكن أن يعنى أن معركة مجدو قد اقتربت ".
B
الهوامش *
1- سفر حزقيال - الاصحاح الثامن والثلاثون
2- سفر حزقيال - الاصحاح التاسع والثلاثون
3- بروتوكلات حماء صهيون - ترجمة محمد خليفة التونسى - البروتوكول الخامس - ص123
4- المبشرون البروتستانت والنية القاتلة
5- المصدر السابق
6- الخلفية التوراتية للموقف الأمريكى - اسماعيل الكيلانى - ص 11 (مكتبة الاقصى - قطر)
* المصادر كما وردت فى كتاب قبل ان يهدم الاقصى للاستاذ / عبد العزيز مصطفى
المراجع
1. الولايات المتحدة وإسرائيل - برنارد ريتش - ترجمة مصطفى كمال
2. العدوان الإسرائيلى القديم ، والعدوان الإسرائيلى الحديث على فلسطين - محمد عزة دروزة
3. مقارنة الأديان والإستشراق - د. أحمد شلبى - مطبوعات معهد الدراسات الإسلامية
4. قصة الديانات - سليمان مظهر
5. المسيحية - د. أحمد شلبى
6. جذور البلاء - عبد الله التل
7. الماسونية فى العراء - محمد على الزعبى
8. القضية الفلسطينية والخطر الصهيونى - مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، عام 1973
9. فلسطين ، القضية - الشعب - الحضارة - بيان نويهض الحوت
10.الصهيونية غير اليهودية - د. ريجينا الشريف - سلسلة عالم المعرفه
11.الصهيونية والصراع الطبقى - د. صادق جلال العظم
12.أزمة الفكر الصهيونى - د. محمد ربيع
13.الشخصية اليهودية فى الأدب الإنجليزى - د. هانى الراهب .
14.إفلاس النظرية الصهيونية - نصر شمالى .
15.الاستعمار وفلسطين - رفيق النتشة .
16.تيودور هرتزل عراب الحركة الصهيونية - مؤسسة الدراسات الفلسطينية .
17.إسرائيل الكبرى ، دراسة فى الفكر التوسعى الصهيونى - د. أسعد رزوق .
18.قبل أن يهدم الأقصى - عبد العزيز مصطفى .
19.التجربة والخطأ - مذكرات حاييم وايزمان - ترجمة محمد الشهابى .
20.فلسطين فى ضوء الحق والعدل - هنرى شن - ترجمة وديع فلسطين .
21.الأيديولوجية الصهيونية - عبد الوهاب المسيرى.
22.الثورة العربية الكبرى فى فلسطين - 1936-1939 (الرواية الاسرائيلية الرسمية) مؤسسة الدراسات الفلسطينية .
23.يوميات موشى ديان - ترجمة جوزيف صفير .
24.الأمبراطورية الأمريكية - كلود جوليان - ترجمة ناجى أبو خليل .
25.من أوراق واشنطن - د. يوسف الحسن .
26.اليهودى العالمى - هنرى فورد - تعريب / خيرى حماد .
27.الإتصالات السرية - محمود عباس .
28.الولايات المتحدة والفلسطينيون بين الإستيعاب والتصفية - د. محمد شديد - ترجمة كوكب الريس.
29.المؤامرة الكبرى ، إغتيال فلسطين - أميل الغورى .
30.الإستعمار وفلسطين - رفيق النتشة .
31.الصهيونية العالمية - جمال الدين الرماوى .
32.إنى أتهم - روجيه ديلورم - ترجمة نخله كلاس .
33.الناصرية - عبد الله إمام .
34.إندماج - يوسف الحسن .
35.عقد من القرارات - وليم . ب كوانت - ترجمة عبد الكريم ناصيف .
36. صحيفة الأنوار اللبنانية العدد - 2677- .
37.الولايات المتحدة والدول العربية - ا. ا. اوسيبوف - ترجمة محمود شفيق الشعبان.
38.التحدى الصهيونى - جاك دومال - ترجمة نزيه الحكيم .
39.خيارات صعبة - مذكرات سايروس فانس .
40.مجلة المستقبل - عدد 733 - السنة الرابعة - تاريخ 16-3-1983.
41.لماذا ننشد الأفضل - جيمى كارتر .
42.المسخ الدخال - سعيد ايوب .
43.ريغان الرجل والرئيس - تأليف مجموعة من الصحفيين الأمريكيين .
44.من يجرؤ على الكلام - بول فندلى .
45.العالمية الإسلامية الثانية - محمد أبو القاسم حاج حمد .
46.مائة سؤال عن الإسلام - الجزء الثانى - الشيخ محمد الغزالى .
47.الماسونية فى المنطقة 245 - ابو إسلام أحمد عبد الله .

N
الاهداء
مقدمه
تمهيد
- حساب المصالح
- نفوذ اللوبى الصهيونى
- الصوت الانتخابى اليهودى
- تضخيم فى غير محله
الفصل الأول
اليهود فى الثرات الدينى المسيحى
- موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود
- موقف البروتستانت من اليهود
الفصل الثانى
بريطانيا والمشروع الصهيونى
- المطالبة باعادة اليهود الى فلسطين
- الافكار الصهيونية تغزو عقول الطبقة المثقفة
- تغيير فى الافكار
- اللورد شافتسبرى
- اليهود فى الادب الانجليزى
- السياسيون والبعث اليهودى
- اللورد بالمستون
- القس وليام هشلر
الفصل الثالث
ظهور الحركة الصهيونية
1- يهودا الكعى (1798-1878)
2- تسفى هيرش كاليشر (1795-1874)
3- ليون بنسكر
- هرتسل ومؤتمر بازل
- وعد بلفور
- هربرت صموئيل ومستقبل فلسطين
- الدافع الدينى ووعد بلفور
- لويد جورج
- الانتداب البريطانى وتسليم فلسطين
- هربرت صموئيل
- الضباط البريطانيون يساعدون فى بناء الجيش الاسرائيلى
- وينغيت والتفسير العسكرى للتواره
- الدافع الدينى للتحيز
الفصل الرابع
أمريكا والمشروع الصهيونى
- هجرة البروتستانت الى امريكيا
- الفكر الامريكى والبعث اليهودى
- العمل من اجل تحقيق النبوءات التوراتية
- جماعة اخوة المسيح
- جمعية بنات برت
- جمعية شهود يهوة
- وليم بلاكستون والبعثة العبرية نيابة عن اسرائيل
- الحكومة الامريكية والمطالب الصهيونية
- الرئيس ويلسون
- خلفاء ويلسون
- مركز ثقل الصهيونية ينتقل الى امريكيا
- العمل من اجل الغاء الكتاب الابيض
- روزفلت والافكار الصهيونية
- ترومان - قورش - العصر الحديث
- ترومان ومشروع التقسيم
- حرب 1948
- اتفاقية الهدنة
- صهيونية ترومان
- المساعدات الامريكية لاسرائيل
- ايزنهاور
- جون كنيدى الرئيس الكاثوليكى الوحيد
- ليندون جونسون
- مستقبل اسرائيل والعالم
- ريتشارد نيكسون والانتحار السياسى
- جيمى كارتر ينفذ ؟أمراً الهياً
- ريجان ومعركة ارماجيدون
الفصل الخامس
تنامى التيار الدينى المسيحى الاصولى فى امريكيا
- اسباب البركة فى امريكيا
- جيرى فالويل ومنظمة الاغلبية الاخلاقية
- تأييد اسرائيل عمل لاهوتى
- اسرائيل مفتاح امريكيا للبقاء
- امريكيا قوية لانها تقف مع اسرائيل
القول مقرون بالعمل
- السفارة المسيحية الدولية
- قرارات تتخذ لتنفذ
الفصل السادس
النظام الدولى الجديد ووعود حرب الخليج
- النظام الدولى الجديد سيعزز الانحياز الامريكى لاسرائيل
- بل كلينتون
- الكونغرس ونقل السفارة الامريكية للقدس
الفصل السابع
- اسباب فشل السياسة العربية
- الحملة الثامنة
ملحق خاص
عقيدة الهرمجدون
المحتويات

المؤلف فى سطور

· الاسم : يوسف العاصى الطويل
· تاريخ الميلاد : 16/4/1959 مدينة رفح
· حصل على ليسانس فلسفه عام1983 من جامعة عين شمس+ دبلوم دراسات عليا 1986+ دوره لمدة عام فى الصحافة والاعلام والعلاقات العامة + دورات اخرى .
· عضو بالاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين / فرع الامارات منذ عام 1987.
· له العديد من الكتابات والدراسات التى نشرت فى الصحافة العربية والمحلية، وصدر له كتاب بعنوان " احمد ديدات بين القاديانية والاسلام" ونشر فى دولة الامارات العربية، وانشاء الله سيصدر له قريباً الكتاب الثالث بعنوان " الاصولية المسيحية والصحوة الاسلامية" .
يعمل الآن فى مديرية الدفاع المدنى كمسئول قسم الاعلام والتوجيه والارشاد، ومدير تحرير مجلة السلامة الفلسطينية .

ليست هناك تعليقات: