الثلاثاء، 11 نوفمبر 2008

التبشير في منطقة الخليج العربي – الحلقة الاخيرة

التبشير في منطقة الخليج العربي – الحلقة الاخيرة
الحملات التبشيرية التي تعرضت لها منطقة الخليج من أخطر التحديات الاستعمارية
المبشرون المعاصرون لا زالوا يخططون للنيل من الإسلام
بقلم / يوسف الطويل
من المعروف تاريخيا أن المسيحية دخلت إلى الجزيرة العربية قبل الإسلام من مصدرين الأول هو الحركة النسطورية التي دخلت على الجزيرة العربية عن طريق بلاد فارس وقد اعتنق عرب الحيرة هذا المذهب .
أما المصدر الثاني فهو عن طريق الأحباش الذين احتلوا جنوب الجزيرة العربية وحكومها فترة من الزمن قبل ظهور الإسلام .
ولكن عندما ظهر الإسلام في الجزيرة العربية لم يبق أي أثر للوجود المسيحي فيها وأن ظل هناك وجود لمسيحيين عرب هم أجناد الغساسنة والمناذرة وهؤلاء كانوا منتشرين في شمال الجزيرة العربية وبلاد الشام.
وفي أثناء ازدهار الدولة الإسلامية في العصور الوسطى لم تكن هناك حركات تبشيرية لادخال المسيحيين في الديانة المسيحية ولكن لما بدأ الضعف يدب في الدولة الإسلامية أخذ مسيحيو أوروبا يزداد قدومهم على بلاد الشرق لزيارة الأماكن المقدسة وللتجارة وكلنا يعلم ماتبع ذلك من حروب صليبية للاستيلاء على العالم الإسلامي.
وقد انهكت هذه الحروب الدولة الإسلامية فدب فيها الضعف فبدأ من هنا تسلل الفكر الغربي إلى المجتمعات الاسلامية، وكان من أهم الوسائل وأخطرها المنظمات والارساليات التبشيرية التي أخذ يزداد عددها ونشاطها في البلاد الإسلامية وذلك بدعم من الدول الاستعمارية وتعرضت منطقة الخليج العربي لمحاولات الغزو الفكري عن طريق المؤسسات التبشيرية وغيرها من المؤسسات وذلك كغيرها من الدول الإسلامية.
يقول عبد الملك التميمي في كتابة التبشير في منطقة الخليج قد تسسل الفكر الغربي الامبريالي إلى مجتمعنا العربي بوسائل متعددة ولفترة زمنية طويلة أي منذ أن اتجهت أنظار الدول الاستعمارية للسيطرة على وطننا العربي هذا التغلغل كان سابقا على السيطرة العسكرية والسياسية وممهدا لها ثم معاضدا لوجودها.. ويضيف أن الهدف الامبريالي لهذا النشاط كان ولا يزال هو ايجاد القابلية لدى الشعب العربي لقبول سياسات وترويض الناس وتدجينهم بحيث يحقق أهدافه على أرض سهلة بأقل صعوبة وتضحية وأقصر طريق.. لقد كان التبشير بمعناه الشامل ليس فقط الديني بل التبشير للثقافة الغربية الامبريالية احدى الوسائل التي سلكها الغربيون وأقاموا لها المؤسسات التبشيرية لأغراض دينية سرعان ما استغلت واستخدمت لأغراض سياسية. أن تركيز الارساليات التبشيرية والتي تعمل بدعم ووفق تخطيط الدول الاستعمارية على منطقة الخليج العربي يعوذ إلى الموقع الاستراتيجي التي تتمتع به منطقة الخليج العربي منذ القدم حيث كانت تجارة موانئ الخليج العربي منذ القدم من التجارات الزاهرة في القدم حيث كانت تتقل البضائع والسلع من الصين والهند إلى موانئه ومنها تنقل بواسطة القوافل إلى السواحل الشرقية للبحر المتوسط لذا فإن السيطرة على هذا الممر المائي الهام والتحكم فيه تعني التحكم بأحد الطرق التجارية العالمية انذاك .
وازدادت أهمية هذه المنطقة من العالم بعد ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية حيث تولى أبناؤها مهمة تبليغ الرسالة الإسلامية . وقد استطاع هؤلاء الرجال الأبطال نشر الإسلام في بقاع كثيرة من العالم فكان ذلك بمثابة تهديد وخطر على الديانات الأخرى وخاصة الديانة المسيحية والتي خسرت بقاعا كثيرة وفقدت كل نفوذ لها في الشرق حيث لم تقم لها قائمة بعد ذلك .
ومن هنا بدأ المبشرون ينظرون إلى شبه الجزيرة العربية نظرة حقد لأنها تمثل مهد الإسلام وفيها أماكن مقدسة يحج إليها المسلمون من كافة بقاع الأرض ولذلك سعى هؤلاء إلى محاربة الإسلام والعرب بشتى الوسائل والطرق ومحاربة الإسلام لا تكون إلا بالقضاء عليه في عقر داره وهزيمة المسلمين في بلادهم فمكة هي الهدف والجزيرة العربية هي الطريق التي يلج منها المبشرون إلى مكة المكرمة كما يقول القس صموئيل زويمر.
أن اهتمام المبشرين بالجزيرة والخليج العربي وجعلها هدفا لارسالياتهم يعود إلى أن النجاح في هذه المنطقة سكون نقطة تحول في العمل التبشيري ككل لأن الدعاة المسلمين كانوا هم العقبة الوحيدة أمام المبشرين في أفريقيا ولذلك فإن أحد المبشرين في أوغندا ويدعي اسكندر ماكس أصدر في عام 1888 نداء لتأسيس ارسالية تبشيرية في مسقط والتي كانت تعتبر مفتاحا لأفريقيا الوسطى.
لقد أدرك المبشرون أيضا أن قوة العرب تعني قوة الإسلام ولذلك لا بد من هزيمة العرب لكي يتسنى لهم القضاء على الإسلام وفي ذلك يقول المبشر مورو بيرجر: فقد ثبت تاريخيا أن قوة العرب تعني قوة الإسلام. إذاً فأننا لكي ندمر الإسلام يجب أن ندمر العرب.
لقد كانت الحملات التبشيرية التي تعرضت لها منطقة الخليج العربي من أخطر التحديات التي واجهتها هذه المنطقة في ظل السلطة الاستعمارية لأنها تمت في ظل أوضاع اجتماعية واقتصادية وثقافية سيئة للغاية . وفي ذلك يقول سعيد عبد الله حارب في كتابه منطقة الخليج العربي قبل الاستقلال فترة من التخلف العلمي والثقافي والاجتماعي لم تشهده إلا مناطق قليلة من العالم فقد حرمت المنطقة من خلال تلك الفترة من نصيبها في التطور الحضاري والتقدم المادي حيث فرض عليها الاستعمار خلال مراحله المتعاقبة عزلة شبه كاملة عن الاتصال بالعالم الخارجي فلم تكن هناك أي صورة من صور التقدم التي تعيشها بقية أجزاء العالم فلا توجد مدارس أو مستشفيات أو جامعات أو صحف أو أية وسيلة من وسائل الإعلام وفي ظل هذه الظروف الصعبة وجد دعاة التنصير الفرصة سانحة لجعل هذه المنطقة ميدان نشاطهم التنصيري ساعدهم على ذلك وجود القوات الاستعمارية وتشجيعها ومساندتها لهم .
ومن المبررات التي يستند إليها المبشرون للتبشير في المنطقة هو قولهم أن الجزيرة العربية كانت في يوم من الأيام وقبل الإسلام متأثرة بالمسيحية ولذلك يجب اعادتها إليها كما أنهم يدعون أن بولس الرسول قد زار الجزيرة العربية ولذلك يجب نشر المسيحية فيها وقد وجد دعاة التبشير في مكانة المسيح عليه السلام في القرآن واجلال المسلمين له ولأمه مريم عليهما السلام مدخلا لاقناع المسلمين بالمسيحية وقد بدأت ارساليات التبشير عملها أولا في المنطقة المحيطة بالخليج العربي كالعراق وفارس ثم امتدت إلى الخليج العربي .
وقد استهلت ارسالية الروم الكاثوليك هذا النشاط في المنطقة حيث غادر روما في 1604 ثلاثة من الأباء الكراملة على شكل مبشرين وسفراء من البابا كلمنت الثاني إلى الشاه عباس الكبير وفي سنة 1608 انشئ دير في مدينة اصفهان ثم أنشئ دير آخر للكراملة في جزيرة هرمز ثم اتخذ المبشرون من مدينة البصرة محطة انطلاق لهم إلى بقية دول الخليج العربي حيث أنشئت مؤسسات تبشيرية فيها عام 1621 تابعة للارسالية الكرملية الايرانية .
ثم بدأ بعد ذلك نشاط الإرسالية البروتستاتية في الخليج العربي حيث يبدأ تاريخ الإرسالية البروستاتية في المنطقة برحلة قام بها هنري مارتن أحد المبشرين الهنود على ظهر سفينة تابعة لشركة بومباي البحرين في 1811 وكان من أهم ما قام به من أعمال هو ترجمته للكتاب المقدس إلى اللغة العربية ومحاولته بيع بعض النسخ منه وبعد هنري مارتن قام كثير من المبشرين بزيارة الجزيرة العربية من خلال رحلات متعددة لدراسة المنطقة والعادات والتقاليد العربية حتى يستطيعوا أن يضعوا الخطط اللازمة لذلك .
وقد دخل العمل التبشيري عهدا جديدا و خطيرا عندما بدأ عمل الارسالية العربية الأمريكية في منطقة الخليج العربي. وهذه الارسالية هي ارسالية أمريكية بروتستاتية أهم أهدافها هو التنصير الكامل للجزيرة العربية ابتداء من الخليج العربي الذي اتخذته هذه الإرسالية قاعدة للانطلاق إلى باقي أنحاء الجزيرة العربية. والمعروف عن العاملين في الارساليات البروتستاتتية نشاطهم الدائم وتعدد أساليبهم التبشيرية وأمكانياتهم المادية الضخمة .
وكانت أول ارسائية أمريكية بروتستاتتية قد وصلت إلى سوريا في سنة 1830 وكان أعضاؤها يتبعون الهيئة الأمريكية للارساليات العربية . وقد اتخذ المبشرين من بيروت أول محطة انتقالية لهم للعمل الميداني في المنطقة كلها فأقام المبشرون هناك عدة شهور لجمع المعلومات ودراسة اللغة العربية والتدرب عليها وبعد بيروت ذهبت الارساليات الأمريكية إلى البصرة وبدأت بإقامة أول محطة لها في سنة 1891 وقد أصبحت هذه المحطة في السنوات التالية مركزا وقاعدة لعملياتهم في منطقة الخليج العربي ومن البصرة بدأ عمل الارسالية لتغطية معظم أراضي الخليج العربي وبعض أجزاء من شبه الجزيرة العربية فتم افتتاح محطة تابعة للارسالية في البحرين وتولى القس صموئيل زويمر رئاسة هذه الارسالية ففي عام 1883 أقام زويمر مكتبة للكتاب المقدس حيث أنه فتح في بداية أمره حانوتا في السوق لبيع الكتب المختلفة ثم تخصص بعد ذلك في بيع الكتب التبشيرية وقد ساعدته القنصلية الانجليزية على بناء مدرسة ومستشفى .
وزويمر هذا يعد من أخطر المبشرين وأشهرهم في القرن العشرين فهو صاحب فكرة مؤتمرات التبشير وقد تولى رئاسة مؤتمرات عديدة بالإضافة إلى أنه يرى أن التعليم التبشيري هو المصدر الرئيسي للعمل بين المسلمين وله عدة مؤلفات في ذلك كما أن زويمر تولى الدعوة إلى عقد مؤتمر عام يجمع ارساليات التبشير البروتستاتتية للتفكير في أفضل الوسائل اللازمة لتنصير المسلمين ومن أبرز أرائه لدفع حركة التبشير هو إيمانه بأن هدف التبشير ليس ادخال في دين معين ولكنه اخراجهم من الإسلام عن طريق زعزعة ثقة المسلمين بدينهم عن طريق حملات التبشير التي يخوضونها ضد الاسلام. وقد عبر زويمر عن رأيه في أعمال المبشرين في أحد المؤتمرات فقال: لقد خلقتم في ديار الإسلام شبابا لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها واخرجتم المسلمين من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية وبالتالي جاء النشئ كم يريد الاستعمار لا يهتم للعظائم ويحب الراحة والكسل ولا يصرف همه في دنياه إلا للشهوات .
ويكفي أن تعرف مقدار خطر هذا المبشر أقصد الحاخام حيث أنه يهودي اندس في صفوف المبشرين للكيد للإسلام والمسلمين فقد أوصى زويمر قبل وفاته بأنه يدفن في مقبرة يهودية وعلى أيدي حاخام يهودي . وصموئيل زويمر أثناء عمله في البحرين كان يلقب نفسه بضيف الله والسكان يلقبونه بضيف الشيطان وقد زار زويمر مختلف المناطق في الجزيرة العربية ووضع توصياته للمبشرين .
وعندما استقرت أوضاع الارسالية في البحرين على أيدي زويمر تم افتتاح ارساليتين في كل من عمان والكويت. ومن عمان انطلق المبشرون إلى امارات الساحل حيث قام زويمر بجولة في الساحل الشمالي لعمان ودرس خلالها المناطق التي يمكن اقامة مراكز تبشيرية فيها ثم أقام بعده الدكتور ( بور هاريسون ) بجولة في المنطقة حيث زار امارات الساحل حيث تم انشاء ارساليات تبشيرية فيها كالإرسالية العربية الأمريكية في الشارقة وقد أنشأتها الدكتورة ( سارة هاوسمان ) وكانت جزءا من الارسالية العربية الأمريكية كما أنشئت ارسالية أخرى وهي الارسالية الانجيلية ( بروتستاتية ) والتي يقودها الدكتور كيندي في مدينة العين .
وقد كانت جميع هذه الارساليات التبشيرية تتخذ من الخدمات الطبية وبناء المستشفيات والمصحات مدخلا مهما لعملياتها التبشيرية بالاضافة إلى الخدمات التعليمية التي كانت تقوم بها من خلال بناء المدارس الأجنبية والاشراف عليها. وكانت وسائل نشر المسيحية هي المطبوعات التبشيرية التي تهدف التعريف بالمسيحية وأيضا ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية وطباعته وتوزيعه على المسلمين بالإضافة إلى الحوار مع المسلمين .
لقد استغل المبشرون حالة التخالف والفقر التي كانت تعيشها منطقة الخليج العربي وحاجتها للتعليم والخدمات الطبية أسوأ استغلال فلم يكن الهدف من إنشاء المدارس والمستشفيات هو رفع المستوى التعليمي والصحي للسكان بقدر ما كان استغلال هذه الوسائل في عمليات التبشير.
ولو أردنا أن نتحدث عن منجزات الإرسالية العربية الأمريكية في منطقة الخليج فإنه ربما يكون من أبرز نتائج هذه التجربة كما يقول عبد المالك التميمي: هو أن عملها الذي غطى يقارب خمسا وثمانية عاما قد فشل في اجتذاب جماهير الأهالي في المنطقة وبالتالي أخفق في تحقيق أهدافه حيث كان عدد معتنقي المسيحية ضئيلا جداً .

القاديانية حركة باطلة معادية للإسلام (1)
بقلم / يوسف الطويل
جريدة الوحدة الاماراتية 25/2/1988
القاديانية فرقة تقوم معتقداتها على الضلال والانحراف ومنذ وقت مبكر حاولت هذه الفرقة التعبير عن حقد أصحابها على الإسلام بكتابات ما فتنت تظهر بين الحين والآخر مشوهة مفاهيم الإسلام وتاريخه .
أن الشغل الشاغل للقاديانيين كان أثاره الشكوك والتفسير الخاطئ للنصوص الشرعية سواء منها ما ينص على الجهاد أو غيره وكانوا يسعون إلى زرع الفتنة بين المسلمين وبين المسلمين وغير المسلمين في محاولة لتنفيذ السياسة الاستعمارية في زرع الفرقة والشقاق .
وقد يكون من المفيد أن نعلم بأن الكيان الصهيوني كان له نصيب في الاستفادة من نشاطات هذه الفئة الضالة المرتدة عن الإسلام وهناك من يؤكد بوجود مركز قادياني في داخل الكيان الصهيوني لذلك من واجب المسلمين في كل عصر ومصر أن ينتبهوا لأمر كل دعوة وادعاء خوف أن يدخل في باب ما هو شبيه بالقاديانية .
وقد أرسل إلينا الكاتب الإسلامي يوسف هذا المقال عن نشأة الحركة القاديانية وتطورها وعلاقتها بالاستعمار والصهيونية وفيما يلي الجزء الأول من هذا المقال : المحرر
نشأة القاديانية
ظهرت الدعوة القاديانية في النصف الثان من القرن التاسع عشر في بلاد الهند وشغلت هذه الأمة الإسلامية وما زالت بأفكارها ونشاطها الذي تجاوز حدود وطنها إلى أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي وبخاصة المناطق النائية والبعيدة منه حيث يكون أبرز نشاطها حينما تنفرد بالدعوة باسم الإسلام في هذه المناطق خاصة في أمريكا وأفريقيا ومناطق أخرى. وصاحب هذه الدعوة هو ميزار غلام أحمد القادياني الذي ادعى أنه مصلحا ومجددا ثم مهديا ومسيحا موعودا وأخيرا ادعى أنه نبيا ورسولا .
ولد غلام أحمد في مدينة قاديان في بلاد البنجاب في الهند في سنة 1835 وكان والده يعمل طبيبا أو عرافا وكان غلام أحمد يفتخر بعمل أبوه ويقول: أنه تعلم من أبوه علوم التنجيم . وقد تلقى غلام أحمد مبادئ العلم وقرأ كتب المنطق والفلسفة والعلوم الدينية في قاديان واشتغل غلام احمد في أول حياته موظفا عموميا في بلدة سيالكوت ثم استقال من خدمة الحكومة واتجه إلى العمل في خدمة البعثات التبشيرية المسيحية وتوسمت هذه البعثات في ميزرا شخصا تجعله مخلب قط بالنسبة لسياستها التبشيرية فجعلت منه شخصية محبوبة في محيط المسلمين وألفت حوله المديدون.
وأول ما ظهر غلام أحمد بدعوته كان كرجل داعية عندما أعلن في عام 1884 أنه مجدد الإسلام واستند في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: أن الله يبعث بهذه الأمة كل مائة سنة رجلا يجدد لها دينها واعتبر نفسه أنه رجل المائة الأخيرة .
ولما بلغ الأربعين ادعى بداية هبوط الوحي عليه حيث قال أنه دخل على الرسول في حجرة فقال له الرسول: ما هذا بيمينك يا أحمد فقال : فنظرت فإذا كتاب بيدي اليمين وخطر بقلبي أنه من مصنفاتي فقلت: يارسول الله اسمه قطب قال: أرني كتابك القطبي. وبينما أنا في هذا الخيال فإذا الميت جاءني حيا وهو يسعى وقام وراء ظهري وفيه ضعف كأنه من الجائعين فالقى الله في قلبي أن الميت هو الإسلام وسيحييه الله على يدي بفيض روحانية .
وفي عام 1888 أعلن أنه المرشد الذي يهدي الأمة الإسلامية ثم أعلن بعد ذلك أن روح المسيح وروح محمد قد حلت في جسده وعلى هذا فقد ادعى أنه نبي ورسول وقد حاول غلام أحمد أن يوهم المسلمين أن له معجزات كسائر الأنبياء ومن أضاليله في هذا الشأن أنه ادعى أنه يستطيع معرفة موعد الخسوف والكسوف وكان الانجليز هم الذين يمدونه بحسابات هذه الظواهر الفلكية التي لم تكن معروفة في الهند انذاك حيث أن معرفة موعد الخسوف والكسوف من الامور العلمية التى يستطيع اى انسان معرفتها عن طريق بعض الحسابات، وقد كانت صحة أحمد غلام أحمد معلولة فكان غير طبيعي وكان يعاني من اضطرابات تؤثر على سلوكه وحركاته وكان مصابا بالهستيريا .
وقد توفي غلام أحمد عام 1908 عندما أصيب بوباء الكوليرا رغم الجهود الجبارة التي بذلتها الحكومة الانجليزية لعلاجه وقد دفن غلام أحمد في قاديان التي سماها اتباعه مقر النبي العظيم وأصبحت قاديان مكانا مقدسا يحج إليها القاديون من كل مكان .
هذه نبذة تاريخية عن حياة غلام أحمد مؤسس الفرقة القاديانية الضالة وسنتكلم الآن عن الظروف التي نشأت فيها الدعوة القاديانية في بلاد الهند .
لقد مر المسلمون في بلاد الهند في محنة كبيرة في بداية القرن التاسع عشر وخاصة في اقليم البنجاب حيث قام السيك في تلك الأثناء وفي ظل السيطرة الاستعمارية باضطهاد المسلمين والتنكيل بهم وتجرأوا على تعطيل الشعائر الدينية واغلاق المساجد الإسلامية وقويت شوكتهم وزاد ظلمهم للمسلمين .
وفي هذه الأثناء بدأ المسلمون يسعون إلى توحيد صفوفهم بزعامة المجاهد أحمد بن عرفان الذي دعا الناس إلى العودة إلى الدين الصحيح وقام بمحاربة البدع والشرك ودعا المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله ونشبت المعارك بين المسلمين والسيك وكان النصر حليفا للمسلمين وقد نجح المجاهد أحمد بن عرفان وغيره أيقاظ الوعي الإسلامي من سباته واستطاع أن يلهب شعلة الجهاد والفداء وبث روح النخوة الإسلامية والحماسة الدينية في صدور المسلمين وقد سارت على نهج هذه الحركة سائر الحركات الإسلامية في بلاد الهند . وقد كانت الهند في ذلك الوقت تقع تحت نير الاستعمار البريطاني حيث ارتكب الانجليز فظائع كبيرة ضد الهنود فانفجرت ثورة 1857 والتي كادت أن تقضي على أطماع الانجليز في هذه البلاد وقد كان المسلمون في طليعة المشاركين في هذه الثورة وأذاقوا الانجليز مرارة الهزيمة ولكن الانجليز استطاعوا أن يقضوا عل هذه الثورة عن طريق القمع بكل قوة وعنف .
وأدرك الانجليز بعدها أن الخطر الحقيقي الذي يتهددهم يكمن في الإسلام وبخاصة في مفهوم الجهاد ولذلك ركز المستعمر على تشويه هذا المفهوم ومحاربته بشتى الوسائل والأساليب فأقام الانجليز المدارس الأجنبية والتي لا تتوافق مع طبيعة المسلمين وثقافتهم وقاموا أيضا باستقدام أعداد كبيرة من المبشرين والقساوسة الذين ملأوا البلاد لكي يقوموا بتنصير المسلمين بالإضافة إلى قيامهم بزعزعة ثقة المسلمين بدينهم عن طريق اثارة الشبهات حول الإسلام وملء نفوس المسلمين بالشك والريبة وقد استفحل خطر المبشرين والقساومة في هذه الفترة في بلاد البنجاب في الهند فقام بالتصدي لهم عدد من علماء المسلمين للحد من خطورتهم. فكثرت المناظرات في هذه الفترة بين القساوسة وعلماء الإسلام حيث انتصر فيها العلماء المسلمون وظهرت قوة حجج الإسلام أمام خصومه .
ولكن تلا هذه الفترة من المناظرات كما يقول أبو الحسن النووي: قلقل في النفوس وبلبلة في الأفكار والعقائد واتسع الخلاف بين الفرق الإسلامية وتحمست كل فرقة إسلامية في الرد على غيرها وكثرت المناظرات والمجادلات التي أدت في بعض الأحيان إلى المضاربات والمحاكمات وحمى الوطيس وعنف الصراع وكل ذلك أحدث قلقا فكريا وأضعف حرمة الدين ومهابته وحط من مكانة العلماء وكرامتهم . ونشط في هذه الفترة محترفو التصوف في نشر شطحاتهم والهاماتهم وكثر المتطفلون والأدعياء وكثرت الاتهامات والتنبؤات والمنامات .
وكان كل هذا الذي يحدث في الهند في هذه الفترة يسير على مصلحة الانجليز ولذلك قام الانجليز بتشجيع هذه المناظرات والمجادلات والدعوات لأنها تحدث الاضطراب الفكري والخلقي في البلاد وتبعد الأنظار عن الخطر الحقيقي الذي يتهدد البلاد عن طريق شغل الناس في قضايا فرعية وفارغة .
في ظل هذا الجو من البلبلة والاضراب الفكري هيأ غلام أحمد نفسه للدخول في معركة المجادلات والمناظرات والتي ستكسبه النصر والصيت البعيد حيث أن من كان يقوم للدفاع عن العقيدة الإسلامية والرد على أصحاب الديانات الأخرى في هذه الفترة كان محل اعجاب وتقدير المسلمين ومعقد أمالهم ومن هنا بدأ غلام أحمد يؤلف كتابا في اثبات فضل الإسلام والرد على الديانات الأخرى في الهند كالمسيحية والأردية والبرهمية . وقد سمي هذا الكتاب ( براهين أحمدية ) وقد قام بعمل دعاية كبيرة لهذا الكتاب حيث دعا المسلمين للتبرع لتغطية تكاليف طبع هذا الكتاب .
ويظهر أن هذا الكتاب قد جاء في أوانه وأن المؤلف كان بعيد النظر في اثارة هذا الموضوع الذي يشغل المسلمين وكانوا يجلون كل من ينهض له وينظرون إليه كبطل من أبطال الإسلام وقد أحسن غلام أحمد الدعاية لهذا الكتاب فأحدث دويا في الأوساط الإسلامية وكان التحدي من أكبر أنصار هذا الكتاب كما يقول أبو الحسن النووي .
ثم ألف غلام أحمد كتابا آخر في مناظرة الديانة الأردية والرد عليها، وقد كان لهذين الكتابين صدى عميق في الأوساط الإسلامية وغير الإسلامية وعن طريقهما عرف غلام أحمد قيمته وجعل يشعر بخطره وتأثيره وامكانيات نجاحه ونشأ فيه اعتزاز بنفسه ورأيه واعجاب بشخصيته، وكان كل ذلك نقطة تحول في حياته من الخمول إلى الظهور ومن التواضع إلى الكبرياء ومن مناظرة المسيحيين والأريين إلى دعوة المسملين ومناظرتهم وتحديهم .
وغلام أحمد خلال هذه الفترة لم يفصح عن نواياه الخبيثة بل كان يعتبر نفسه داعية أو مجددا بالرغم من ولائه للانجليز في هذه الفترة والتغني بفضلهم على المسلمين .
ولكن التحول الخطير في مجرى دعوته يتضح من خلال الرسالة التي أرسلها له الحكيم نور الدين الذي يذهب كثير من الباحثين إلى أنه صاحب الفكرة والتصميم في الحركة القاديانية فقد اقترح نور الدين على غلام أحمد أن يدعي أنه المسيح الموعود ويبدو أن الميزرا كان مترددا في البداية ولكنه قبل هذه الفكرة وأعلن في سنة 1891 أنه المسيح الموعود .
ويذهب البعض إلى أن فكرة دعوة غلام للادعاء بأنه المسيح الموعود وهي من صنع الانجليزي ووحيهم وايعازهم فإنهم أرادوا استغلال هذه العقيدة لخدمة مصالحهم في العالم الإسلامي وربما هذا هو ما يفسر دفاع أحمد عن الانجليز وسعيه إلى تحقيق أعظم أهدافهم وهو إنهاء فريضة الجهاد كما سنوضع في الحلقة القادمة.
الحلقة الثانية
القاديانية فرقة تقوم معتقداتها على الضلال والانحراف ومنذ وقت مبكر حاولت هذه الفرقة التعبير عن حقد أصحابها على الإسلام بكتابات ما فتنت تظهر بين الحين والآخر مشوهة مفاهيم الإسلام وتاريخه .
أن الشغل الشاغل للقاديانيين كان أثاره الشكوك والتفسير الخاطئ للنصوص الشرعية سواء منها ما ينص على الجهاد أو غيره وكانوا يسعون إلى زرع الفتنة بين المسلمين وبين المسلمين وغير المسلمين في محاولة لتنفيذ السياسة الاستعمارية في زرع الفرقة والشقاق .
وقد يكون من المفيد أن نعلم بأن الكيان الصهيوني كان له نصيب في الاستفادة من نشاطات هذه الفئة الضالة المرتدة عن الإسلام وهناك من يؤكد بوجود مركز قادياني في داخل الكيان الصهيوني لذلك من واجب المسلمين في كل عصر ومصر أن ينتبهوا لأمر كل دعوة وادعاء خوف أن يدخل في باب ما هو شبيه بالقاديانية .
وقد أرسل إلينا الكاتب الإسلامي يوسف الطويل هذا المقال عن نشأة الحركة القاديانية وتطورها وعلاقتها بالاستعمار والصهيونية .وفيما يلي الجزء الثاني والأخير من هذا المقال المحرر .
وما أن أعلن غلام أحمد أنه المسيح الموعود بدأ في نشر ضلالاته بين المسلمين عن طريق تفسيراته الغربية للقرآن والأحاديث النبوية النبوية لكي يؤيد وجهة نظره فيما يريد الوصول إليه . ومن أقوال غلام أحمد الضالة هو ادعائه أن روح المسيح قد حلت فيه وأن ما يلهمه هو كلام الله كالقرآن والتوراة والانجيل وأن الله قد أوحي إليه بآيات تربو على عشرة آلاف آية وأن قاديان هي البلدة المقدسة المكني عنها في القرآن بالمسجد الأقصى والثالثة بعد مكة والمدينة وأن الحج إليها فريضة .
هذا بالإضافة إلى أن غلام أحمد يزعم بأنه هو المراد من الحديث الوارد في نزول المسيح ابن مريم عليهما السلام حيث يقول: وأن المسلمين والنصارى يعتقدون باختلاف يسير أن المسيح ابن مريم قد رفع إلى السماء بجسده العنصرى وأنه ينزل من السماء. وقد اثبت في كتاب فتح الإسلام أنها عقيدة خاطئة وقد شرحت أنه ليس المراد بالنزول هو نزول المسيح بل هو إعلام على طريق الاستعارة بقدوم مثيل المسيح وأن هذا العاجز يعني نفسه هو مصداق هذا الخبر حسب الأعلام والالهام.
ومن ضلالاته هو تفسيره لمعنى خاتم النبيين التي وردت في الآية الكريمة " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين " فقد وقف غلام أحمد أمام هذه الآية حائرا لأنها تسد أمامه الطريق في ادعاءه النبوة فحاول تأويل الآية على معنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل النبيين أو سيد النبيين أو الطابع والخاتم الذي يطيع به كافة النبييين من بعده .
فقد جاء غلام أحمد بعد أربعة عشر قرنا من الزمن ليخبر المسلمين أن فهمهم لمعنى هذه الآية خاطئ أنه وحدة هو الذي استطاع فهم معناها الحقيقي ومن الواضح أن معنى الآية واضح في غاية الوضوح حيث اجمع علماء اللغة والتفسير على أن معنى خاتم النبيين هو آخرهم الذي لا نبي بعده مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم " أن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي " رواه الترمذي
ولعل من أخطر ضلالات غلام أحمد هو دعوته إلى الغاء الجهاد وموالاة الاعداء حيث يقول: لقد الغي الجهاد في عصر المسيح الموعود الغاءً باتا أن الجهاد للدين يحرم في عهد المسيح فيحرم الجهاد في هذا اليوم وكل من يرفع السيف للدين ويقتل الكفار باسم الغزو والجهاد يكون عاصيا للسنة ولرسوله.
ففي هذا الوقت العصيب الذي كانت تمر بة الأمة الإسلامية والمسلمين في الهند والتي كانت في أحوج ما تكون إلى داعية يجمع شملها ويوحد صفوفها ضد العدو الغاصب، طالب غلام أحمد بالغاء الجهاد ونسخه وليته اكتفى بذلك بل طالب بمهادنة الانجليز وتيجيلهم لما لهم من فضل على المسلمين فيقول في ذلك: أنه لا يحل الجهاد أصلا ضد الحكومة الانجليزية التي أحسنت إلينا بل بالعكس من ذلك يجب على كل مسلم أن يطيع هذه الحكومة بكل اخلاص وقد اتفقت على طبع هذه الكتب أحد الأديرة وأرسلتها إلى البلاد الإسلامية وأنا عارف أن هذه الكتب قد أثرت تأثيرا عظيما في أهل هذه البلاد .
وقد كان غلام أحمد شديد الولاء للانجليز وهم يومئذ المحتلون الغاصبون لبلاده وكان يسلك كل طريق لاظهار الولاء والطاعة والوفاء لهم حتى قال: لقد ظللت منذ حداثة سنى ______ وقدامي لاصرف قلوب المسلمين إلى الاخلاص للحكومة الانجليزية والنصح لها والعطف عليها واثنى فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهال المسلمين والتي تمنعهم من الاخلاص للانجليز وانا مؤمن بأنه كلما كثر عدد أتباعي قل شأن الجهاد ويلزم من الايمان بي أني مسيح أو مهدي أنكار الجهاد . وقد ألفت الكثير في تحريم الجهاد ضد الانجليز الذين أحسنوا إلينا والذين يجب علينا طاعتهم بكل اخلاص.
وهذا الذي يقوله غلام أحمد ليس بمستغرب أن يصدر منه فأغلب الباحثين يؤكدون أن القاديانية هي وليدة السياسة الانجليزية في الهند ولهذا حمى الانجليز دعوة غلام أحمد ومكنوه من نشر دعوته وأمدوه بالأموال اللازمة لذلك ويكفي أن نعرض لاعتراف غلام أحمد نفسه الذي يعترف فيه بأنه من غرس الانجليز حيث يقول: والمأمول من الحكومة أن تعامل هذه الجماعة التي هي من غرس الانجليز أنفسهم ومن صنائعهم بكل حزم واحتياط وتحقيق ورعاية وتوصي رجال حكومتها أن تعاملني وجماعتي بعطف خاص ورعاية فائقة.
وكان من المعروف عن غلام أحمد هو كثرة مناظرته مع القساوسة والمبشرين . وكان يقول في تعليل حدة وعنف قد يعتريه في الرد عليهم: لقد غلا بعض القساوسة والمبشرين في كتاباتهم وجاوزا حد الاعتدال ووقفوا في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخفت على المسلمين الذين يعرفون بحماستهم الدينية أن يكون لها رد فعل عنيف وأن تثور ثائرتهم على الحكومة الانجليزية ورأيت من المصلحة أن أقابل هذا الاعتداء بالاعتداء حتى تهدأ ثورة المسلمين وكان كذلك .
وهكذا فإن حدة وعنف غلام أحمد في مناظرته مع القساوسة والمبشرين لم تكن نابعة عن غيره ودفاع عن الإسلام بل أنه خاف أن يثير هجوم القساوة على الإسلام حماسة المسلمين ويزيد من كراهيتهم وحقدهم على أسياده الانجليز، ولذلك هب لمواجهة القساوسة من أجل عيون الانجليز.
نشاط الطائفة القاديانية بعد وفاة غلام أحمد
انفسم أتباع غلام أحمد بعد وفاته إلى شعبتين الأولى هي شعبة قاديان والثانية هي شعبة لاهور. وشعبة قاديان بقيت محافظة على تعاليم غلام أحمد وتصر هذه الطائفة على أن غلام أحمد هو المسيح الموعود وهو نبي ورسول . وقد استقر أتباع هذه الطائفة في منطقة تعرف بالربوة في أقليم ( جانج ) في البنجاب بعد أن أصبحت قاديان بلدة مهجورة بعد أن تركها أهلها إلى باكستان بعد انقسام القارة الهندية .
اما الشعبة الأخرى فهي شعبة لاهور وهي أشد خطرا من شعبة قلديان ومن أبرز زعمائها محمد علي صاحب ترجمة القرآن الكافرة .
وهذه الشعبية تتميز بأن أراء أصحابها غير واضحة فمرة يقولون عن غلام أحمد أنه مجدد وليس نبي ومرة يقولون عنه أنه المسيح الموعود. وأصحاب هذه الجماعة يتصفون بالغموض والمراوغة كما أنهم نهجوا نهج الأقلال من التعاليم القاديانية في نشر مذهبهم وتحروا السهولة في عرضها لتحوز القبول لدى جماهير المسلمين.
وقد اتسم نشاط هذه الجماعة بالتنظيم والفاعلية وخاصة في ميادين الطبع والعمل الدعائي المنظم ومن ضلالاتهم هو قولهم أن المسيح عليه السلام لم يولد من غير أب وزعيمهم محمد علي يصرح بأن سيدنا عيسى عليه السلام هو ابن يوسف النجار وأن مريم كانت متزوجة به .
ويجب ملاحظة أثر اليهود في هذا الرأي حيث أن هذا الرأي هو أساسا من مفتريات اليهود على سيدنا عيسى وأمه مريم عليهما السلام حيث وصف القرآن قول اليهود هذا بقوله تعالى: وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما". وزعماء الفرغ اللاهوري يلحون على أن غلام أحمد لم يدعي النبوة ويفسرون ذلك بأنه مجازات لغوية ويكابرون في ذلك اللغة والواقع ولهذا فإن القاديانيين يلقبونهم بالمنافقين لأنهم يحاولون الجمع بين الانتساب إلى مؤسس الجماعة غلام أحمد وارضاء الجماهير.
ومحمد علي صاحب ترجمة القرآن الكافرة يلقب غلام أحمد بحجة القرن العشرين والمصلح الأكبر وزيادة على ذلك يعتقد أنه المسيح الموعود ويصف غلام أحمد بأنه مسيح هذه الأمة . وقد غلب على تفسير محمد علي في ترجمته للقرآن الاتجاه العقلي الصرف في التفسير وهروبه من كل شيء يتطلب الايمان بالغيب وبالقدرة الالهية وبالمعجزات متجها بذلك نفس اتجاه الحركات الباطنية والاسماعيلية في التفسير .
وقد روجت القاديانية لترجمة محمد علي للقرآن ترويجا شديدا في العالم الإسلامي ولكن صدرت فتوى من رابطة العالم الإسلامي في مكة بتاريخ 28 نوفمبر 1972 تبطل هذه الترجمة وتحذر المسلمين منها ومن غيرها.
أما عن نشاط القاديانية فيقول أبو الحسن النووي: أنه لا يرى لها نشاط إلا في المناظرات وأثارة الشكوك والشبهات في المسلمين وتأييد السياسة الانجليزية ونشر الدعاية لعقيدتها الخاصة في الهند وخارج الهند .
وقد ألف أبو الأعلى المودودي رسالة في الرد على القاديانية حيث بين موقف الإسلام من هذه الفرقة الضالة وطالب بمعاملة القاديانية كاقلية غير مسلمة في باكستان. ويقول المودوي عن ناشطهم: أنهم يلجون في صفوف المسلمين وكأنهم منهم وينشرون فكرتهم ويدعون إلى طريقهم ومبادئهم ويناظرون الناس ويجادلونهم باسم الإسلام ويسعون سعيا متواصلا في تحطيم أجزاء الأمة المسلمة وضمها إلى مجتمعهم
وقد حارب محمد اقبال نشاط هذه الطائفة الضالة لأن نشاطهم اقتصر على اثارة المناقشات الدينية والمباحثات حول موت المسيح وحياته ونزوله ونبوة غلام أحمد المزعومة مما لا اتصال له بالحياة العامة للمسلمين .
وهكذا بقى القاديانيون ولا زالوا مشتغلين بالمناظرات واثارة الشكوك والشبهات في المسلمين وفتنتهم عن دينهم وخدمة المخططات الاستعمارية .
وإذا كان غلام أحمد وأتباعه قد ارتضوا على أنفسهم أن يكونوا العوبة في يد السياسة الانجليزية في بلاد الهند فإنه ليس من المستغرب أن ينحو أتباعه في هذا الوقت نفس المنحى والاتجاه، فتعاونهم الوثيق مع الصهيونية العالمية لمساعدتها في تحقيق أهدافها التوسعية في المنطقة العربية والإسلامية ازدادت حدته وحذر الكثيرون من خطره .
فالعلاقات بين الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة والحركة القاديانية راسخة وقوية حيث تلقى الحركة القاديانية من العدو الصهيوني كل دعم وتأييد في ترويج أباطيلها ضد المسلمين. وليس أدل على ذلك مما أوردته مجلة أرض الإسراء في العدد 104/ نيسان 1987 من أن رئيس الكيان الصهيوني هيرتزوغ استقبل رسميا رئيس المركز القادياني في حيفا وقد تبرع الكيان الصهيوني بمبلغ 18 مليون دولار أمريكي للمركز القادياني في حيفا وقد حضر اللقاء المدير السابق لجهاز المخابرات الصهيونية ( الموساد ) !!!؟
وإذا تركنا الكيان الصهيوني وذهبنا إلى جنوب أفريقيا فإننا سنجد أن هذه البلاد أصبحت أرضا خصبا لنشاط الطائفة القاديانية الضالة في ظل حماية النظام العنصري هناك . فحكومة جنوب أفريقيا تعامل الطائفة القاديانية كفرقة إسلامية بالرغم من احتجاج المسلمين هناك على هذا الوضع عن طريق المحاكم إلا أن الحكومة هناك اعترفت بهم كمسلمين .

المبشرون استخدموا وسائل الإعلام للهجوم على الدين الإسلامي الحنيف

المبشرون استخدموا وسائل الإعلام للهجوم على الدين الإسلامي الحنيف
وقد لجأ هؤلاء المبشرون إلى دراسة علوم اللغة العربية والإسلامية لمعرفة اتجاهات المسلمين في مختلف الحياة ونظرا لأن ظهور حركة الاستشراق له صلة وثيقة بما يحدث اليوم من غزو فكري وتبشيري لكل المسلمين في مختلف أرجاء المعمورة ينبغي أن نلقي الضوء على الجذور التاريخية الأولى لحركة الاستشراق وما هي العوامل التي أدت إلى ظهورها ومدى تأثيرها على المسلمين سلبا وايجابا .
اتجه الإستعمار الغربي إلى الغزو غير المباشر للسيطرة على العالم الإسلامي وذلك باستخدام الغزو الفكري وسيلة مؤثرة بعد فشل وسائله التقليدية في الغزو العسكري للسيطرة على الشعوب الإسلامية ونهب ثرواتها .
وقد وجد الاستعمار في المستشرين الغربييين ضالته المنشودة لتحقيق أهدافه في السيطرة والتبعية عن طريق السيطرة على عقول المسلمين وتشكيكهم في دينهم وحضارتهم .
وسائل المبشرين
بالنسبة لأهم وسائل المبشرين ومؤسساتهم لإنجاح عالمهم التبشيري ما يلي:
1) الاكثار من فتح المدارس والمعاهد والجامعات في البلاد الإسلامية التي يجعلون هدفها الأول خدمة الدين المسيحي ودولهم الاستعمارية، فقد اتخذ التبشير من التعليم اهم اداة وأعظمها أثرا في تشكيل أجيال المسلمين الجديدة التي يريدها أن تكون مستسلمة لنفوذه ومتقبلة لمفاهيمه وقيمة فقد اجمع كثير من المبشرين على أن التعليم التبشيري هو أفضل طريق للوصول إلى عقول المسلمين وتحقيق الأهداف البشرية، حيث يرون أن أهداف المدارس والكليات التي تشرف عليها الارساليات في جميع البلاد الإسلامية كانت دائما متشابهة من حيث أنها كانت تعتبر من الدرجة الأولى وسيلة لتحقيق أهداف التبشير حتى أن الموضوعات العلمية البحتة والتي تعلم من كتب غربية وعلى أيدي مدرسين غربيين تحمل معها الآراء التبشيرية .
فسيطرة الاستعمار على التعليم في البلاد الإسلامية أبان خضوعها للاستعمار أتاحت للمبشرين فرصة ذهبية لتحقيق أهدافهم وفي ذلك تقول المبشرة أنا مليجان: ليس ثمة طريق في تدمير الإسلام أقصر من المدرسة فإن المدرسة أقوى قوة لجعل الناشئين تحت تأثير الغرب والمسيحية وهذا التأثير يستمر حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون يوما ما قادة لأوطانهم .
ويقول نيروز رئيس الجامعة الأمريكية ببيروت 1948-1951 لقد برهن التعليم عن أنه أثمن الوسائل التي استطاع المبشرون أن يلجأوا إليها في سعيهم لتنصير سوريا ولبنان . وعلق المبشر سيمون في مؤتمر لكندا التبشيري في الهند 1911 بسخرية على فكرته الجامعة الإسلامية التي كانت تهيمن على الشعوب الإسلامية في ذلك الوقت بقوله: وعبثا يبنى هؤلاء آمالهم على الجامعة الإسلامية لأن التربية غير الإسلامية قد ثبتت في دمائهم بفضل مدارس التبشير .
وماذا يمكن أن نتوقع من مدارس وجامعات تعتبر تدريس اللغة العربية والدين الإسلامي والحضارة والتاريخ الإسلامي أمرا ثانويا وأن درستها فإنها تدرسها بصورة مشوهة كلها تشكيك واستخفاف ونقد هدام . أما اللغات الغربية والثقافة والفكر الغربي والدين المسيحي فهي محل الاهتمام والتعظيم فيخرج الطالب من المدارس والجامعات وهو يعرف من ثقافة وفكر الغرب والدين المسيحي أكثر مما يعرف عن الإسلام والحضارة الإسلامية بالطبع لا بد أن يكون المتخرجون من هذه المدارس والجامعات هم أكثر الناس فتنة وتبعية للغرب والفكر الغربي وأقلهم غيره وحرصا على دينهم وحضارتهم الإسلامية .
ويكفي أن نعرض لرأي كل من جبران خليل جبران المسيحي وعبد القادر الحسيني المسلم في مدارس وجامعات الإرساليات التبشيرية .
فقد عبر جبران عن أثر هذه المدارس في نفسه وفي جيله وأثرها في تكريس التبعية الفكرية للغرب وفي تفكيك الروابط بين الطوائف المختلفة بقوله : في سوريا كان التعليم يأتينا من الغرب بشكل الصدقة، وقد كنا ولم نزل نلتهم خبز الصدقة لأننا جياع متضورون. ولقد أحيانا ذلك الخبر ولما أحيانا أماتنا، أحيانا لأنه أيقظ بعض مداركنا ونبه عقولنا قليلا وأماتنا بأن فرق كلمتنا وأضعف وحدتنا وقطع روابطنا وأبعد ما بين طوائفنا حتى أصبحت بلادنا مجموعة مستعمرات صغيرة مختلفة الأذواق متضاربة المشارب كل مستعمرة منها تشد في حبل احدى الأمم الغربية وترفع لواءهاوتترنم بمحاسنها وأمجادها فالشاب الذي يتناول لقمة العلم من مدرسة أمريكية قد تحول بالطبع إلى معتمد أمريكي والشاب الذي تجرع رشفة من مدرسة يسوعية صار سفيرا فرنسيا إلى آخر ما هنالك من المدارس وما تخرجه كل عام من المحدثين والمعتمدين والسفراء .
وإذا كانت هذه الأقوال تصدر من مسيحي عربي مخلص لوطنه أحس بخطر هذه المدارس ليس على عقيدته لأنه مسيحي مثلهم ولكن أحس بخطرها على وطنه ولغته العربية وكيف أن هذه المدارس عملت على زيادة النعرات الطائفية وساهمت إلى حد كبير في تكريس التبعية الفكرية للدول العربية ، فإن رأي أي إنسان مسلم في هذه المدارس والجامعات سيضاف إليه أمر آخر وهو الهجوم والتشكيك لكل ما يتعلق بالدين الإسلامي والحضارة والتاريخ الإسلامي دون أن يستطيع أي إنسان أن يقول أن في كلامه أي مبالغة .
فقد وصف عبد القادر الحسيني الجامعة الأمريكية ببيروت يوم تخرجه منها بقوله أن هذه الجامعة تظهر أمام الناس في مظهر المدرسة العلمية ولكنها في الحقيقة بؤرة فساد للعقائد الدينية وهي تطعن في الإسلام ولذلك لا يصح للمسلمين أن يبقوا أولادهم فيها وقد عرض يومها عبد القادر الحسيني لعدد من الكتب التي تدرس في الجامعة والتي تشوه وتهاهجم الدين والتاريخ الإسلامي.
2) أما الوسيلة الثانية والتي يعتمد عليها المبشرون في تحقيق أهدافهم فهي اعتمادهم على تقديم الخدمات الطبية عن طريق إنشاء المستشفيات والمصحات في البلاد الإسلامية مستغلين في ذلك انتشار الأمراض وقلة المستشفيات في أماكن كثيرة من البلاد الإٍسلامية وحاجة المرضى للعلاج وما يعانيه هؤلاء من الام شديدة قبل حصولهم على العلاج المناسب .
ولذلك فإن المبشرين يقولون حيث تجد بشرا تجد آلاماً، وحيث تكون الآلام تكون الحاجة إلى الطبيب، فهناك فرصة مناسبة للتبشير فتقديم الخدمات الطبية للمرضى هو وسيلة إلى غاية وهي تحقيق أهداف التبشير فالمبشرون يوصون الذين يعملون في هذا المجال إلا ينسوا ولو للحظة واحدة بأنهم مبشرون قبل أن يكونوا أطباء فالهدف التبشيري أولا ثم تقديم الخدمات الطبية ثانيا .
وفي ذلك يقول المبشر موريسون : ونحن مقتنعون بلا ريب أن الناحية الأساسية من أعمال التنصير بين المرضى الخارجين في المستشفيات هو أن ندخلهم أعضاء في الكنيسة المسيحية الحية .
ومن وسائلهم لتلقين أهدافهم هو أنهم يستغلون حالة المرضى الصعبة وسذاجتهم وحاجاتهم للعلاج ويأخذون بالقاء دروسهم عن المسلمين مستغلين تكريم القرآن لسيدنا عيسى وأمه مريم عليهما السلام في ادخال المفاهيم المسيحية لعقول المسلمين .
ففي بلدة الناصرة في السودان كان المبشرون لا يعالجون المريض أبدا إلا بعد أن يحملوه على الاعتراف بأن الذي يشفيه هو المسيح وفي الحبشة كانت المعالجة لا تبدأ إلا قبل أن يركع المرضى ويسألوا المسيح أن يشفيهم .
3) قيامهم بإنشاء الجمعيات والمنظمات التي تقوم بتقديم المساعدات الاجتماعية لمنكوبي الحروب والكوارث الطبيعية وغيرها بالإضافة إلى قيامها بإنشاء الملاجئ ودور الحضانة ودور الأيتام وغيرها من المؤسسات وكل هذه المؤسسات والمنظمات ذات أهداف تبشيرية وأن حاولت أن تخفي هذه الأهداف تحت ستار عمل الخير وتقديم المساعدات، مستغلين بذلك حالات الفقر والحاجة التي تمر بها كثير من المناطق في العالم الإسلامي. فقد عملت هذه الجمعيات والمنظمات في أندونيسيا أثناء قيام الحكومة بتهجير جزء كبير من سكان جزيرة جاوة إلى الجزر الأخرى فاستغلت هذه الجمعيات هذه الفرصة وقامت بتنصير كثير من المسلمين .
وأيضا فإن نشاط هذه الجمعيات أصبح معروفا للجميع في مناطق المهجرين في أفغانستان وما يقومون به من تنصير للأطفال، وآخر ما كشف عن نشاط هذه المنظمات والجمعيات هو ما حدث في السودان عندما أعلنت الحكومة السودانية الشهر الماضي عن طردها لثلاث هيئات دولية تعمل في السودان تحت ستار المساعدة والإغاثة وأعلنت الحكومة أنها بصدد طرد عدد آخر من هذه الهيئات التي تتخذ من مساعدة منكوبي الحرب والجفاف ستارا للتخريب السياسي والاقتصادي والديني .
وقد علق هانزكنج وهو رجل دين مسيحي عن أعمال هذه المنظمات والجمعيات بقوله :
أن التبشير المسيحي في العالم الثالث ليس أخلاقيا فإنه يعتمد على القوة واستغلال الظروف الاجتماعية السيئة التي تعيشها هذه الدول. وأضاف أن التبشير بالأديان يجب أن يجري في مناخ متحرر من الضغوط .
4- القيام بترجمة الإنجيل إلى كافة اللغات وتوزيعه على المسلمين بثمن رمزي وأحيانا بالمجان فقد جاء في كتاب ( جذور الماسونية ) لأحد الكتاب الأتراك قوله أن عدد ما طبع ووزع من نسخ العهدين القديم والجديد بواسطة إرساليات التبشير خلال مائة وخمسين عاما يزيد عن ألف مليون نسخة مترجمة إلى 130 لغة عدا التبشير والمجلات كما قرر أن تكاليف هذه المطبوعات لا تقل عن تسعين ألف مليون ليرة تركية اى ما يقارب من 7000 مليون دولار .
5- الاعتماد على الإذاعات التبشيرية الإقليمية والتي تقوم بنشر الآراء التبشيرية بالإضافة إلى قيامها بالهجوم على الدين الإسلامي . فقد كشفت الدراسات التي ناقشها مؤتمر عدم الانحياز والذي انعقد في كوالالمبور أن حوالي 2500 محطة إذاعية من 64 لغة تشن هجوما صريحا وضاربا على الدين الإسلامي، هذا بالإضافة إلى اعتمادهم على الصحف والسينما والمسرح في إذاعة الآراء والتي تحقق أغراضهم وتجنيدهم للنساء للقيام بالعمل التبشيري وذلك لسهولة دخولهن البيوت ومقدرتهن على إقامة صداقات مع النساء المسلمات وأيضا الاعتماد على عمل صداقات شخصية مع المسلمين والاحتكاك بهم وإثارة قضايا تتعلق بالدين الإسلامي والمسيحي وعقد المؤتمرات التي يشترك فيها مسلمون ومسيحيون بدعوى الحوار بين الأديان وغيرها من الوسائل.

الاستشراق غزو فكري لتدمير الحضارة الإسلامية "3"

المسيحيون يلجأون إلى الإعتماد على الإرساليات التبشيرية بعد فشل المعارك الحربية .
بقلم / يوسف الطويل
اتجه الاستعمار الغربي إلى الغزو غير المباشر للسيطرة على العالم الإسلامي وذلك باستخدام الغزو الفكري وسيلة مؤثرة بعد فشل وسائله التقليدية في الغزو العسكري للسيطرة على الشعوب الإسلامية ونهب ثرواتها . وقد وجد الاستعمار في المبشرين الغربيين ضالته المنشودة لتحقيق أهدافه في السيطرة والتبعية عن طريق السيطرة على عقول المسلمين وتشكيكهم في دينهم وحضارتهم .
وقد لجأ هؤلاء المبشرون إلى دراسة علوم اللغة العربية والإسلامية لمعرفة اتجاهات المسلمين في مختلف مناحي الحياة ونظرا لأن ظهور حركة الاستشراق له صلة وثيقة بما يحدث اليوم من غزو فكري وتبشيري لكل المسلمين في مختلف أرجاء المعمورة ينبغي أن نلقي الضوء على الجذور التاريخية الأولى لحركة التبشير وما هي العوامل التي أدت إلى ظهوره ومدى تأثيره على المسلمين سلبا وايجابا.
التبشير في العالم الإسلامي وأهدافه وأدواته
التبشير لفظ يطلق على المنظمات الدينية والأفراد الذين يهدوفون إلى نشر الدين المسيحي بين الشعوب الأخرى ويدعون أن التبشير بالمسيحية فرض على المسيحيين .
ولو حاولنا التحدث عن المراحل الأولى للعمليات التبشيرية في العالم الإسلامي في بدايتها فإن أكثر الباحثين يذهبون إلى أن فشل الحروب الصليبية في تحقيق أهدافها عن طريق الغزو العسكري كان له دور أساسي في لجوء العرب إلى أسلوب الغزو الفكري عن طريق الاستشراق والتبشير وغيرهما من الوسائل .
وفي ذلك يقول المؤرخ جان دي جوانفيل الذي رافق الملك لويس التاسع ملك فرنسا بحملته الصليبية ( الحملة السابعة ) أن خلوة الملك لويس التاسع في معتقله بالمنصورة أتاحت له فرصة هادئة ليفكر بصبر في السياسة التى كان اجدر بالغرب ان يتبعها ازاء المسلمين ، وقد انتهى به التفكير الى أنه لا سبيل للسيطرة على المسلمين عن طريق الحرب أو القوة وذلك لأن في دينهم حاسم هو عامل المواجهة والمقاومة للجهاد وبذل النفس والدم لأنهم قادرون دوما انطلاقا من عقيدتهم إلى المقاومة ودحر الغزو الذي يجتاح بلادهم وأنه لا بد من ايجاد سبيل آخر من شأنه أن يزيل هذا المفهوم عند المسلمين وذلك لا يتم إلا بتعديل الحملات سلبية العسكرية إلى حملات سليمة تهدف الغرض نفسه وذلك من خلال التركيز على الفكر الإسلامي وتحويله عن مساره وأهدافه حتى يستسلم المسلمون أمام القوى الغربية وتروض أنفسهم على نحو أنحاء الاحتواء والصداقة والتعاون وأفضل وسيلة لذلك هي تجنيد مبشرين ودعم مؤسساتهم التبشيرية في العالم الإسلامي .
وقد علق المؤرخ رينيه جروسيه على ذلك بقوله: بأن الملك لويس التاسع كان بذلك في طليعة كبار الساسة من الغرب الذين ضعوا للغرب الخطوط الرئيسية لسياسة جديدة شملت مستقبل آسيا وأفريقيا بأسرها وفعلا أخذ العرب في تنفيذ هذه المخطط عن طريق الاستشراق والتبشير وأن أول من حاول التبشير في العالم الإسلامي بعد فشل الحروب الصليبية هو ريمون لول الأسباني الذي درس العلوم الإسلامية وناقش علماء المسلمين في أمور كثيرة .
ولكن هذا المجهود الفردي من لول وغيره لكن مجديا فلجأ الغرب لإرسال الارساليات التبشيرية المدعومة من الكنيسة والدول العربية للتبشير بين المسلمين وفي هذا يقول فيلي هني: ولجأ المسيحيون للاعتماد على الارساليات المسيحية للتبشير بين المسلمين بعد أن ثبت فشلهم في المعارك الحربية ومن مؤسساتهم لنجاح التبشير مدارس الفرنسيسكان والدومنيكان التي أنشأت في أوائل القرن الثالث عشر في سوريا وكان المبشر يعد لهذه المهمة قبل أن يرسل مباشرة ومن أهم وسائل اعداده تعليمه اللغة العربية وشيئا عن الدراسة الإسلامية وهو ذلك الدستور الذي لا يزال سائدا حتى الآن.
أما إذا أردنا التحدث عن أهداف المبشرين في العالم الإسلامي فإن أكثر الباحثين يذهبون إلى القول أن نشر المسيحية في العالم الإسلامي لم يعد له نفس الاهتمام السابق . لأنهم أدركوا أن محاولتهم العديدة لنشر المسيحية بين المسلمين قد فشلت في معظم الأحيان وفي ذلك يقول المبشر صموئيل زويمر: أن الذين دخلوا من المسلمين حظيرة المسيحيين لم يكونوا مسلمين حقيقيين لقد كانوا أحد ثلاثة : 1- أما صغير لم يكن له من أهله من يعرفه ما هو الإسلام 2) رجل مستخف بالأديان يبغي الحصول على قوت يومه وقد اشتد به الفقر وعزت عليه لقمة العيش 3) وأخر يبعي الوصول إلى غاية من الغايات الشخصية .
وقد عقب زويمر على ذلك مخاطبا المبشرين بقوله أن مهمة التبشير التي ندبتكم دولكم المسيحية للقيام بها في البلاد الإسلامية ليس ادخال المسلمين في المسيحية، بل اخراج المسلم من الاسلام بزعزعة ايمانه ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها .
وهكذا فإن أهداف المبشرين في وقتنا الحاضر قد تغيرت وأصبح هدفهم يرتكز على أساس زعزعة ثقة المسلمين بدينهم وحضارتهم عن طريق حملات التشويش التي يخوضونها ضد الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية هذا بالإضافة إلى قيامهم بخدمة مخططات دولهم الاستعمارية عن طريق اثارة الفتن الداخلية والتبشير للحضارة الغربية بفكرها وثقافتها وعاداتها وتقاليدها بين المسلمين .
وقد عبر عن ذلك المبشر شاتيله في كتابه ( الغارة على العالم الإسلامي ) وقال مخاطبا المبشرين : إذا أردتم أن تغزو الإسلام وتحصروا شوكته وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة والتي كانت السبب الرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم فعليكم أن تواجهوا جهودكم واهدافكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية بأماتة روح الاعتزاز بماضيهم وتاريخهم وكتابهم القرآن وتحويلهم عن ذلك بنشر ثقافتكم وتاريخكم ونشر روح الاباحية وتوفير عوامل الهدم المعنوي حتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء فإنه يكفينا ذلك لأن الشجرة يجب أن يتسبب في قطعها أحد أعضائها .
وقد عبر المبشر زويمر عن رأيه الصريح في أعمال المبشرين البروتستانت حين اعترف بأن التبشير في البلاد الإسلامية ميزتين ميزة هدم وميزة بناء ويعني بالهدم انتزاع المسلم من دينه ولو إلى الالحاد ويعني بالنباء تنصير المسلم أن أمكن. ويضيف زويمر قائلا للمبشؤيين لا يجب للمبشر المسيحي أن يفشل أو أن ييأس ويقنط عندما يجد أن مساعيه لم تثمر في جلب كثير من المسلمين إلى المسيحية لكن يكفي أن تجعل الإسلام يخصر مسلمين بذبذبة بعضهم عندما يتذبذب مسلم وتجعل الإسلام يخسره تعتبر ناجحا أيها المبشر المسيحي يكفي أن تذبذبه ولو لم يصبح هذا المسلم مسيحيا .
وهكذا فإن التبشير أصبح من أهم أدوات الغزو الفكري الذي لجأت إليه الدول الغربية للسيطرة على العالم الإسلامي عن طريق التشكيك في الإسلام والحضارة والتاريخ الإسلامي من جهة والتبشر للحضارة والفكر الغربي وخدمة المخططات الاستعمارية من جهة أخرى
ولذلك فإنه ليس من المصادفة أن يكون الارتباط بين التبشير والاستعمار ارتباطا وثيقا . فالتبشير دعامة من دعامات الاستعمار وأداة من أدوات الفكر العربي فقد كان الاستعمار ولا يزال يقدم العون المادي والمعنوي للمبشرين ويقوم بحمايتهم وإزالة الصعاب من أمامهم وفي ذلك بقول سعيد عبد الله حارب أن ارتباط التنصير بالاستعمار يكاد يكون عضويا فقد مهدت السلطات الاستعمارية لنشاط التنصير ووفرت له لحماية والأمن والدعم المعنوي والمادي ويضيف أن كثيرا من مبشري القرن التاسع عشر كانوا يتحركون بعقلية صليبية وكانوا استعماريين يقومون بدور مزدوج في التبشير وخدمة مخططات دولهم الاستعمارية. لقد كان المبشرون هم الرواد الأوائل للاستعمار الثقافي الغربي في عالمنا الإسلامي وبلادنا العربية بشكل عام ومنطقة الخليج بشكل خاص .
ويقول علي عبد الحليم محمود :كان التبشير هو الخطوة الأولى التي مهدت للاستعمار ومكنته من الاستيلاء على بلاد المسلمين وتسخير أرضهم وخيراتها وكثير من أبنائها لخدمة الأغراض السياسية والتبشيرية معا
ويقول باحث آخر أن التبشير الديني نفسه ستار للتبشير التجاري والسياسي وأساس متين للاستعمار ولنذكر أن أكثر الفتنة الداخلية في الشرق من دينية وسياسية واجتماعية انما قام به المبشرون الذين استأجرهم الاستعمار .
نعم لقد كان الارتباط بين المبشرين والاستعمار وثيقا جدا حيث أن المبشرين كانوا يلجأون إلى قناصل دولهم في الدول الإسلامية لكي يحلوا لهم الكثير من المشاكل التي كانت تواجههم . فكانت بريطانيا أو أمريكيا تقوم بحماية الارساليات البروتستانية وكانت كلا من فرنسا وايطاليا وأسبانيا تقوم بحماية الارساليات الكاثولوليكية.
وقد حدث مرة أن الخديوي إسماعيل أراد أن يغلق مدارس المبشرين البروتستانت في مصر لأنهم يتدخلون في السياسة ويثيرون الاضطرابات في البلاد ويزيدون من مشاكل الحكومة فتدخل في الأمر بعض قناصل الدول الغربية وأيدت المبشرين وحملت الحكومة المصرية على العدول عن ذلك . أما عن أهمية الدور الذي يقوم به المبشرون لخدمة مخططات دولهم الاستعمارية فيقول في ذلك سنكال رئيس غرفة التجارة في هامبرع في المؤتمر الاستعماري الألماني: أن نمو ثروة الاستعمار متوقف على أهمية الرجال الذين يذهبون إلى المستعمرات وأهم وسيلة للحصول على هذه الأمنية هو ادخال الدين المسيحي في البلاد المستعمرة لأن هذا هو الشرط الجوهري للحصول على الأمنية المنشودة حتى من الواجهة الاقتصادية.

الاستشراق غزو فكري لتدمير الحضارة الإسلامية "2"

الاستشراق غزو فكري لتدمير الحضارة الإسلامية "2"
المستشرقون وضعوا كتبا عن الحضارة الإسلامية ظاهرها المدح والثناء
وباطنها الدس والتشكيك
بقلم / يوسف الطويل
اتجه الاستعمار الغربي إلى الغزو غير المباشر للسيطرة على العالم الإسلامي وذلك باستخدام الغزو الفكري وسيلة مؤثرة بعد فشل وسائله التقليدية في الغزو العسكري للسيطرة على الشعوب الإسلامية ونهب ثرواتها . وقد وجد الاستعمار في المبشرين الغربيين ضالته المنشودة لتحقيق أهدافه في السيطرة والتبعية عن طريق السيطرة على عقول المسلمين وتشكيكهم في دينهم وحضارتهم
وقد لجأ هؤلاء المبشرون إلى دراسة علوم اللغة العربية والإسلامية لمعرفة اتجاهات المسلمين في مختلف الحياة. ونظرا لأن ظهور حركة الاستشراق له صلة وثيقة بما يحدث اليوم من غزو فكري وتبشيري لكل المسلمين في مختلف أرجاء المعمورة ينبغي أن نلقي الضوء على الجذور التاريخية الأولى لحركة الاستشراق وما هي العوامل التي أدت إلى ظهورها ومدى تأثيرها على المسلمين سلبا وايجابا.
أثر الاستشراق على العالم الإسلامي
بالرغم من أن لكتابات المستشرقين ومؤلفاتهم عن الإسلام والحضارة الإسلامية أثرا سلبيا كبيرا على العالم الإسلامي إلا أن الجانب الإيجابي للاستشراق يتمثل في صورة الهجوم علينا وعلى أمجادنا وليس في صورة المدح لأن جانب المدح والثناء قد يكون له أثر تخذيري علينا فيجعلنا نغمض عيوننا مستسلمين لتلك الأحلام السعيدة التي تذكرنا بالذي كان ونركن إلى ذلك ونعيش على صيت أبائنا وأجدادنا ونظن أننا عظماء لأن أجدادنا عظماء. فجانب الهجوم على الإسلام والحضارة الإسلامية هو الذي دفع كثير من الكتاب المسلمين للرد على القضايا والشبهات التي أثارها المستشرقون حول الإسلام ردا علميا ساهم إلى حد كبير في تصحيح كثير من المفاهيم الخاطئة لدى المسلمين لمسائل القضاء والقدر والتوكل على الله وحقوق المرأة وغيرها من القضايا التي أدى الفهم الخاطئ لحالة التدهور والانحطاط التي عاشها العالم الإسلامي .
بالإضافة إلى أن جانب الهجوم هذا أدى إلى ظهور كتابات إسلامية تتحدث عن الإسلام كنظام متكامل للحياة الإنسانية في جوانبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مع وضع حلول لكثير من المشكلات التي واجهت الإنسانية في هذا العصر .
وأيضا ظهرت كتابات إسلامية بينت اسهامات العلماء المسلمين في شتى ميادين العلوم والمعرفة وبينت فضل الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية من خلال تحقيق وجمع كثير من الكتب والمخطوطات ونشرها والتي توضح سبق علماء المسلمين وابداعهم في مجالات كثيرة مما ساعد في إعادة الثقة لكثير من المسلمين في دينهم وحضارتهم المفترى عليها .
ونشاط المستشرقين لم يقتصر على جانب اثارة الشبهات والقضايا المعادية للإسلام والحضارة الإسلامية بل أن لهم جهودا كبيرة تستحق منا الثناء والاعجاب وذلك لقيامهم بجمع كثير من الكتب والمخطوطات العربية والإسلامية النادرة وحفظها وفهرستها بدقة، مما ادى الى عدم ضياع هذه الكتب الإسلامية النادرة والتي كانت مهملة في مكتبات العالم الإسلامي فجهودهم تلك تستحق كل تقدير منا لهم بغض النظر عن هدفهم من وراء ذلك
كما قام المستشرقون بترجمة بعض كتب التراث الإسلامي إلى اللغات الأوروبية الحية وقاموا بنشرها هذا بالإضافة إلى أن لهم عدد كبيرا من المجلات والدوريات التي تنشر بحوثا عن العالم الإسلامي يزيد عددها عن ثلاثمائة مجلة ودورية . والمستشرقون يقومون أيضا بعقد المؤتمرات الدولية بصورة منتظمة يعرضون فيها بحوثهم ودراساتهم عن العالم الإسلامي وقد بلغ عددها حتى الآن أكثر من ثلاثين مؤتمرا هذا الإضافة إلى المؤتمرات والندوات الإقليمية .
هدف ديني
ولو حاولنا أن نحدد أهداف الاستشراق و دوافعه فإننا نستطيع أن نقول أن الهدف الديني كان هو السبب الأول في نشأة الاستشراق وازدهاره ففي البدايات الأولى كان من الصعب الفصل بين الاستشراق والتبشير الديني لأنهما كانا مرتبطان باللاهوت المسيحي ومع بداية عصر الاستعمار وتوجه أنظار الغربيين للسيطرة على العالم الإسلامي ظهرت أهداف أخرى للاستشراق مثل الأهداف الاقتصادية والتجارية والسياسية.
والهدف الديني للاستشراق يتمثل في محاربة الإسلام وتشويهه لتشكيك المسلمين بدينهم بالإضافة إلى حماية المسيحيين من خطر انتشاره بينهم وذلك عن طريق حجب حقائقه عنهم واطلاعهم على ما فيه من نقائض مزعومة .
أما الهدف التجاري للاستشراق فيتمثل في ازدياد أطماع الغربيين ورغبتهم في توسيع تجارتهم والسيطرة على موارد العالم الإسلامي الغنية واللازمة لصناعتهم ولهذا وجدوا الحاجة ماسة لمعرفة البلاد الإسلامية وعاداتها وتقاليدها وجغرافيتها وتركيبتها السكانية وغير ذلك من الأمور حتى يستنى لهم استغلالها بسهولة .
أما الهدف السياسي للاستشراق فقد أوضحنا أن الحروب الصليبية وفشلها في السيطرة على العالم الإسلامي عن طريق الغزو العسكري كان له اكبر الاثر في نشأت الاستشراق وازدهاره. فقد أدرك الغرب أن الغزو العسكري لبلاد المسلمين بدون معرفة كاملة بالدين الإسلامي وعادات وتقاليد ولغات الشرق المسلم لا بد مخفف لأنه سيكون مفتقرا للدراسة الواعية التي يمكن أن تساعده في دوام السيطرة حتى بعد زوال السيطرة العسكرية .
ومع بداية السيطرة على البلاد الإسلامية اضطرت الدولة الاستعمارية لتعليم موظفيها في المستعمرات لغات البلاد الإسلامية وجزء من أدابها ودينها وعاداتها وتقاليدها حتى يستطيعوا سياسة هذه المستعمرات وحكمها .
وقد أفاد الاستعمار كثيرا من التراث الاستشراقي وما كتبه المستشرقون عن العالم الإسلامي وكان لزيادة التوسع الاستعماري في البلاد الإسلامية أثر كبير في زيادة مؤسسات الاستشراق ونشاطه بدعم ومساعدة من الدول الاستعمارية .
وقد كان التعاون بين الاستعمار والاستشراق وثيقا حيث استطاع الاستعمار أن يجند كثيرا من المستشرقين لخدمة أغراضه وأهدافه في البلاد الإسلامية، فكان المستشرقون يمدون الاستعمار بالدراسات والبحوث التي تيسر له حكم البلاد الإسلامية واستغلالها فمثلا قام المستشرق كارل هيزيسن بيكر مؤسس مجلة الإسلام الألمانية بدراسات تخدم الاهداف الاستعمارية الالمانية في أفريقيا ودعا إلى استخدام الإسلام في أفريقيا والهند كدروع سياسية في وجه البريطانيين
أما عالم الإسلاميات الهولندي ( سندك هورجروفيه ) فأنه في سبيل استعداده للعمل في خدمة الاستعمار توجه إلى مكة في عام 1885 بعد أن انتحل اسما إسلاميا هو ( عبد الغفار ) وأقام هناك ما يقرب من نصف عام وقد لعب هذا المستشرق دورا هاما في تشكيل السياسة الثقافية الاستعمارية في المناطق الهولندية في الهند الشرقية وشغل مناصب قيادية في السلطة الاستعمارية الهولوندية في أندونيسيا.
وفي فرنسا كان هناك عدد من المستشرقين يعملون مستشارين لوزارة المستعمرات الفرنسية مستشارين لوزارة المستعمرات الفرنسية عن شؤون شمال أفريقيا حيث كانوا يستشارون في المسائل المتعلقة بالشرق الإسلامي من قبل وزير الخارجية ووزير الحربية .
أما في بريطانيا فقد دعا اللورد كيرزن لإنشاء مدرسة للدراسات الشرقية باعتبار أنها تعد جزءا من تأثبت الامبراطورية وتساعد على الاحتفاظ بالموقع الذي نالته بريطانيا في الشرق وقد كانت الحكومة البريطانية من أجل تحقيق أهدافها الاستعمارية ترسم سياستها في مستعمراتها في الشرق بعد التنسيق والتشاور مع فريق من المستشرقين الذين يقدمون لها الدراسات المطلوبة. وهكذا اتجه الاستشراق المتعاون مع الاستعمار بعد الاستيلاء العسكري والسياسي على بلاد المسلمين إلى اضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين عن طريق تشكيك المسلمين في معتقداتهم وتراثهم والقيام بالترويج للحضارة والثقافة الغربية بين ربوع المسلمين حتى يتم اخضاعهم في النهاية اخضاعا تاما للثقافة والفكر الغربي .
وإذا كان كثير من المستشرقين قد ارتضوا لأنفسهم بأن يكون عملهم وسيلة للاستيلاء على بلاد المسلمين وتسخيرها لخدمة الأهداف الاستعمارية فإن بعض المستشرقين المنصفين يشعرون بالخجل والمرارة إزاء هذه الأعمال وفي ذلك يقول المستشرق الغربي المعاصر استفان فيلد : والأقبح من ذلك أنه توجد جماعة يسمون أنفسهم مستشرقين سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين هذا واقع مؤلم لا بد أن يعترف به المستشرقين المنصفون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة .
ومن الانصاف القول أنه إذا كان كثير من المستشرقين قد درسوا الإسلام والحضارة الإسلامية لأهداف دينية وتجارية وسياسية إلا أن هناك نفر قليل من المستشرقين الذين كانت دراساتهم عن الإسلام والحضارة الإسلامية منصفة وموضوعية فبينوا الجوانب المشرقة فيها وبينوا أثرها على الحضارة الغربية بوجه خاص والحضارة الألمانية بوجه عام أمثال جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب وغيره من المستشرقين الذين اهتموا بالإسلام إلى الدرجة التي أدت إلى اسم كثير منهم .
وقد ساعد على وجود هذا النفر القليل من المستشرقين زوال أثار التعصب الديني في بداية العصر الحديث وأيضا مامرت به أوروبا بما يعرف بعصر التنوير الذي أوجد نفر من الباحثين الذين كانت بحوثهم عن العالم الإسلامي تتسم بالموضوعية والنزاهة العلمية ولم يكن لهم غرض سوى البحث عن الحقيقة .
ولكن إذا صدق القول على بعض المستشرقين المسيحيين فإنه لا يصدق أبدا على أي من المستشرقين اليهود الذين دخلوا مجال الاستشراق بهدف النيل من الإسلام والحضارة الإسلامية فكانت بحوثهم ومؤلفاتهم مليئة بالحقد والدس والكيد للإسلام .
وليس من قبيل المصادفة أن نجد أن أكبر المستشرقين منذ وأواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين هو اليهودي جولدرزبهر والذي كرس حياته للطعن على الإسلام ونبى الإسلام وقرآن الإسلام بأسلوب علمي مقنع تتبعث منه أحقاد اليهود ومكرهم وخبثهم .
وفي جولة قام بها الأستاذ مصطفى السباعي في جامعات أوروبا التقى خلالها مع كثير من المستشرقين استخلص النتائج الآتية
1- أن المستشرقين لا يخلوا أحدهم من أن يكون قسيسا أو استعماريا أو يهوديا وفد يشذ عن ذلك أفراد قليلون
2- أن الاستشراق في الدول الغربية غير الاستعمارية كالدول الاسكندنافية أضعف منه عند الدول الاستعمارية
3- أن الاستشراق بصورة عامة ينبعث من الكنيسة وفي الدول الاستعمارية يسير مع الكنيسة ووزارة الخارجية جنبا إلى جنب ويلقى منها كل تأييد
4- أن الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا ما تزال حريصة على توجيه الاستشراق وجهته التقليدية من كونه أداة هدم للإسلام وتشويه السمعة للمسلمين
والمستشرقون بالإضافة إلى أعمالهم السابقة فإنهم سلكوا كل طريق ظنوه محققا لأهدافهم فقد استطاعوا أن يتسللوا إلى المجمع اللغوي بمصر والمجمع العلمي بدمشق والمجمع العلمي ببغداد كما أنهم قاموا بالتدريس في بعض الجامعات في البلاد الإسلامية .
فقد كان المستشرق الانجليزي جيب عضوا بالمجمع اللغوي بمصر بالإضافة إلى اشتراكه في تحرير دائرة المعارف الإسلامية والمستشرق الفرنسي ماسيون كان عضوا بالمجمع اللغوي المصري والمجمع العلمي العربي بدمشق
والمستشرق جنيبرت الانجليزي كان عضوا بالمجمع اللغوي بمصر والمجمع العلمي العربي بدمشق بالإضافة إلى اشتراكه في تحرير دائرة المعارف الإسلامية
والمستشرق نيكلسون كان عضو بالمجمع اللغوي المصري وهو أيضا من محرري دائرة المعارف الإسلامية وهكذا فإن المستشرقون يلجأون إلى كل طريق لتحقيق أهدافهم وليس معنى ذلك أن هذه هي آخر وسائلهم وطرقهم بل انهم كل يوم يبتكرون وسائل جديدة سواء بالقاء المحاضرات والاشتراك في مؤتمرات الحوار بين الأديان أو بوضع كتب ومؤلفات تتحدث عن الإسلام والحضارة الإسلامية ويكون ظاهرها المدح والثناء وباطنها الدس والتشكيك بطرق ملتوية تجعل المرء يحتار في أمرها والمقصود منها. وربما وصل الأمر إلى اعتناق الإسلام ظاهريا حتى يتسنى له أن يقول ما يريد من غير أن يتعرض للنقد من علماء المسلمين .

الاستشراق غزو فكري استعماري لتدمير الحضارة الإسلامية "1"

الاستشراق والتبشير وجهان لعملة واحدة لوقف انتشار الإسلام وحجب حقائقه
بقلم / يوسف الطويل
جريدة الوحدة الاماراتية 21/11/ 1987 – 31/12/1987
لجأ العالم الغربي إلى الاستعمار الخفي غير المباشر لغزو العالم الإسلامي وذلك بعد فشل وسائله التقليدية في استخدام الغزو العسكري للسيطرة على الشعوب الإسلامية وقد وجد الاستعمار في المستشرقين وسيلتهم القوية للسيطرة على المسلمين عن طريق دينهم وثقافتهم وأفكارهم . وقد عملوا على تحقيق هذه الأهداف بدراسة علوم اللغة العربية والإسلامية لمعرفة اتجاهات المسلمين في مختلف الحياة .
ونظرا لأن ظهور حركة الاستشراق له صلة وثيقة بما يحدث اليوم من غزو فكري وتبشيري لكل المسلمين في مختلف أرجاء المعمورة ينبغي أن نتعرف على حركة الاستشراق وأصولها التاريخية الأولى وما هي العوامل التي أدت إلى ظهورها وتأثيرها على المسلمين سلبا وايجابا .
الاستشراق نشأته وأهدافه
الاستشراق هو اتجاه الغربيين لدراسة العلوم الإسلامية واللغة العربية بالدراسة والبحث أو هو الدراسات الغربية المتعلقة بالعالم الإسلامي في لغاته وآدابه وتاريخه وعقائده وحضارية بوجه عام . والمستشرق هو العالم الذي تمكن من هذه الدراسات وقام بوضع مؤلفات أو بحوث أو قام بتحقيق بعض الكتب والمخطوطات التي تتعلق العالم الإسلامي .
ولو حاولنا أن نتعرف على البدايات الأولى لظهور الاستشراق وبداية اهتمام الغرب بالشرق الإسلامي فإننا سنجد أن الانتشار السريع للإسلام في المشرق والمغرب، قد لفت بقوة أنظار الغربيين بوجه عام ورجال اللاهوت بوجه خاص لهذا الدين الجديد . ومن هنا بدأ اهتمام رجال اللاهوت بالاسلام ودراسته ليس من أجل اعتناقه ولكن من أجل حماية اخوانهم المسيحيين من خطر انتشاره بينهم .
وقد كان لازدهار الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى وخاصة في الأندلس ووقوف كثير من الأوروبيين للدراسة فيها، واختلاطهم بالمسلمين في أماكن كثيرة أثر في زيادة الاهتمام الأوروبي بالاسلام. ولكن ظهور حركة الاستشراق بأهدافها ونشاطها يرجع إلى الحروب الصليبية التي لم تحقق للذين قاموا بها أهدافهم، فرأى هؤلاء بعد ان فشل الغزو العسكرى فى تحقيق اهدافهم، أن يلجأوا أن يلجأوا إلى الغزو الفكري لعلهم يستطيعون عن طريقه أن ينالوا من المسلمين ومن ثقافتهم وفكرهم ودينهم وقد عبر كثير من الكتاب الأوروبيين عن دور الحروب الصليبية في نشأة الاستشراق فيقول أمرتون:
أن حياة أوروبا أغتنت خلال الحروب الصليبية لأنها اقتبست من حياة المسلمين ألونا من الفكر والثقافة مما جعل أفق الأوروبين يتسع بسبب ارتباطهم طيلة عدة سنين ببلاد الشرق ذات الالهام والأساطير وكان ذلك دافعا للكثيرين من الغربيين ليواصلوا صلتهم بالشرق عن طريق العلم والمعرفة حتى أصبحوا مستشرقين .
ويقول أومان: أن الحروب الصليبية وضعت نواة الاستشراق إذا اتجه الرهبان للدراسة اللغة العربية والفكر الإسلامي لمعرفة اتجاهات المسلمين في مختلف الشؤون وقد أسست كلية للرهبان في ميراما لدراسة اللغة والعلوم الإسلامية كما أنشئت الكراسي للغات الشرقية في باريس ولوفان .
طريق للسيطرة
وهكذا يتضح لنا كيف أن الغرب لجأ إلى الاستشراق ودراسة الحضارة الإسلامية بشتى جوانبها كطريق آخر للسيطرة على العالم الإسلامي بعد فشلهم في السيطرة عليه عن طريق الغزو العسكري . ولهذا يمكن القول بأن تاريخ الاستشراق في مراحله الأولى هو تاريخ للصراع بين العالم النصراني الغربي في القرون الوسطى والشرق الإسلامي على الصعيدين الديني والايديولوجي فقد كان الإسلام كما يقول سادرن: يمثل مشكلة بعيدة المدى بالنسبة للعالم النصراني في أوروبا على المستويات كافة.
فإذا كانت الحروب الصليبية تمثل الخلفية الدينية للصراع الحضاري بين العالم الإسلامي والعالم الغربي فإن الاستشراق يمثل الخلفية الفكرية لهذا الصراع . فالاستشراق يشكل الجذور الحقيقية التي كانت ولا تزال تقدم المدد والعون للمبشرين والمستعمرين في غزوهم للعالم الإسلامي يستقون منه معلوماتهم عن العالم الإسلامي عقيدته وتاريخه وفكره وعاداته وتقاليده وجغرافيته ونظم الحكم فيه . ويكفي أن نعرف أيضا أن الأوروبيين وكثير من الشرقيين لا يزالون يستقون معلوماتهم عن الإسلام والحضارة الإسلامية من خلال كتابات المستشرقين أو من أثر عليهم المستشرقين . فقد كان للاستشراق أكبر الأثر في صياغة التصورات الأوروبية عن الإسلام والحضارة الإسلامية على مدى قرون طويلة .
دراسة القرآن
قام المستشرقون بدراسة القرآن والسنة النبوية والسيرة النبوية وكتب التراث الإسلامي دراسة وافية وأخذوا يثيرون مشكلات وقضايا وشبهات حول الإسلام والقرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم والفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية كما قاموا بتشويه التاريخ والفكر الإسلامي ودسوا فيه كثير من الأباطيل الزائفة . وقاموا بانشاء اقسام للدراسات الشرقية في الجامعات الأوروبية حيث قاموا من خلالها بإثارة هذه القضايا وتلقينها للدراسين في هذه الجامعات سواء من الأوروبيين أو المسلمين. وفي بداية نهوض العالم الإسلامي وفد كثير من الدارسين المسلمين الى هذه الجامعات والمعاهد لنيل الشهادات العالمية وذلك لتوفر الامكانيات العلمية اللازمة للدراسة والبحث في هذه الجامعات والمعاهد وخاصة المخطوطات وكتب التراث النادرة التي قام المستشرقون بجمعها بعد حصولهم عليها من العالم الإسلامي .
وقد شجع الغرب الدارسين المسلمين للدراسة في هذه الجامعات على أيدي المستشرقين لكي يخلقوا جيلا من أبناء المسلمين المتشككين في دينهم وحضارتهم وتاريخهم والمفتونين بالفكر والحضارة الغربية لكي يقوم هؤلاء بترويج أفكار وآراء المستشرقين عن الإسلام والحضارة الإسلامية من خلال توليهم كثير من المناصب العلمية بالتدريس الجامعي أو العمل في أجهزة الاعلام المختلفة .
وفعلا استطاع الغرب أن يخلق هذا الجيل من أبناء المسلمين المتشككين في دينهم وحضارتهم واللذين كانوا بمثابة أبواق تردد أراء المستشرقين وشبهاتهم عن الإسلام والحضارة الإسلامية هذا بالإضافة إلى اعجابهم الشديد بالحضارة الغربية في شتى جوانبها والدعوة إلى تقليد الغرب في كل شيء إذا أردنا أن ننهض ونساير العصر ودعا الآخرون إلى استبدال الحروف العربية بأحرف لاتينية.
وللأسف فإن كثيرا من هؤلاء تولوا مناصب قيادية في عالمنا الإسلامي ولا يزالون فلعبوا دورا كبيرا وخطيرا في تشكيل الفكر الإسلامي كما يريد الغرب ويشتهي فكان خطرهم أعظم وأشد من خطر المستشرقين على العالم الإسلامي لأن المسلم عندما يقرأ لأجنبي فإنه يأخذ حذره منه ويتفحص آراءه بدقه، بعكس ما يفعله مع المسلم لأنه يأخذ كل ما يقوله بحسن نية.
ومن الشبهات والقضايا التي أثارها المستشرقون حول الإسلام والحضارة الإسلامية :
1- قولهم أن القرآن من تأليف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وليس من عند الله
2- قولهم أن ضعف المسلمين سببه العقائد الإسلامية كالقضاء والقدر والتوكل .
3- ادعائهم أن الإسلام انتشر بالقوة وعب السيف
4- قولهم أن الإسلام دمر نظام الأسرة بواسطة الطلاق وتعدد الزوجات
5- قيامهم بالتشكيك بصحة الحديث النبوي وترويجهم لبعض الأحاديث الضعيفة التي تخدم مخططاتهم
6- قيامهم بخلق بعض الفرق التي تعادي الإسلام والترويج لها كالبهائية والقاديانية
7- محاولتهم التقليل من شأن الحضارة الإٍسلامية واسهامها في الحضارة الإنسانية وسخريتهم من العقلية العربية والقول بأن المسلمين لم يكونوا إلا نقلة للحضارة اليونانية والرومانية وليس لها أي ابداع يذكر لأن الخلق والابداع ليس من طبيعة المسلمين
8- تشويههم للتاريخ الإسلامي والتركيز على الخلافات الإسلامية ونشرها وكأن التاريخ الإسلامي ما هو إلا تاريخ للخلافات والفتن مع اهمالهم ذكر الجوانب المضيئة من التاريخ الإسلامي
9- اضعاف روح الأخاء الإسلامي وذلك عن طريق احياء القوميات القديمة والدعوة لها، واثارتهم التعرات الطائفية واقامتهم الحواجز المصطنعة بين البلاد الإٍسلامية
10- قولهم أن الإسلام يعارض العلم ولا يدعو له ويحد من النظر العقلي والبحث الحر
11- التشكيك في قدرة اللغة العربية على مسايرة التقدم العلمي لتظل الأمة الإسلامية عالة على المصطلحات الغربية
12- التشكيك في قيمة الفقه الإسلامي والقول أنه منحول من الفقة الروماني
13- هذا بالإضافة إلى شبهات وقضايا أخرى كثيرة أثارها المستشرقون حول الإٍسلام والحضارة الإسلامية ويجب أن نوضح أن كل هذه الشبهات والقضايا وغيرها والتي أثارها المستشرقون حول الإسلام والحضارة الإسلامية قد قام بالرد عليها علماء ومفكرون مسلمون اجلاء وبينو تهافتها وبطلانها وزيفها وزيف مروجيها وسوء نيتهم بما يضمرون من حقد للأمة الإسلامية فردوا عليها بالحجة بأسلوب علمي .

الغزو الفكري ادواته واهدافه في العالم الاسلامي

بقلم / يوسف الطويل
جريدة الوحدة الاماراتية 17/10/1987
لكل أمة من الأمم مميزاتها وخصائصها التي تميزها عن غيرها من الامم بحيث تمثل هذه الخصائص والمميزات شخصيتها وهويتها المستقلة التي تستمد منها قوتها ووحدتها .
والأمة الإسلامية لها من المميزات والخصائص التي استمدتها عبر قرون طويلة من تعاليم الدين الإسلامي والتي جعلت من هذه الأمة الإسلامية عن غيرها من الإمم تقف سدا منيعا في وجه كافة التحديات التي واجهتها الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل . فكان تمسك المسلمين بهويتهم المميزة وتعاليم الدين الإسلامي هو منبع قوتهم وتفوق في كافة المجالات العسكرية والاجتماعية والاقتصادية . فكانت كل شؤون حياتهم مصبوغة بصبغة الإسلام فكان اختلافهم من أجل الإسلام وكان اتفاقهم ووحدتهم للاسلام وكان فكرهم وثقافتهم مستمدا من الإسلام ولهذا استطاعت الأمة الإسلامية بتمسكها بتعاليم دينها أن تواجه كافة التحديات التي واجهتها من هجمات تتارية وحروب صليبية وردت الغزاة المعتدين إلى نحورهم مهزومين بالرغم مما تركته هذه الحروب من أثر سيء على العالم الإسلامي فيما بعد .
وبالرغم من حالة الانقسام الداخلي التي كانت تعيشها الأمة الإسلامية أبان الحروب الصليبية إلا أن ظهور شخصية صلاح الدين الأيوبي كان كفيلا باسم شمل المسلمين وتوحيدهم على اختلاف مذاهبهم وجعلهم يقفون صفا واحدا على في وجه الغزاة المعتدين وانزال الهزيمة بهم . وسبب نجاح صلاح الدين في ذلك هو انه عرف مكمن قوة المسلمين وهو الدين الإسلامي فدعاهم باسم الاسلام للجهاد ورد المعتدين فهاتت لديهم التضحية بالنفس والمال والولد في سبيل نصرة الإسلام
ولهذا أدرك الغرب بعد فشل الحروب الصليبية أن الغزو العسكري للبلاد الإسلامية . لا بد مخفق مهما طال الزمن ما لم يصاحبه غزو فكري يقضي على عوامل القوة والمنعة الكامنة في الإسلام وفي هذا يقول كيرك أن الحروب الصليبية فتحت أذهان الغربيين إلى مستوى الذي كان يفوق بكثير حضارة الغرب ومع تفتح أذهان الغربيين اتجه هؤلاء إلى غزو الشرق فكريا بعد أن عجزوا عن غزوه عسكريا .
ومصطلح الغزو الفكري من المصطلحات التي ظهرت في عصرنا الحديث بعد أن تعرضت كثير من دول العالم للااستعمار الغربي والذي عمل جاهدا على ابقاء سيطرته على هذه الدول حتى بعد زوال سيطرته العسكرية والسياسية عنها وذلك عن طريق ابقائها في حالة تبعية فكرية واقتصادية لها .
والغزو الفكري يقصد به بوجه عام ذلك الجهد البشري المبذول ضد شعب أو أمة من الأمم لكسب معارك الحياة فيها وتسهيل قيادتها وتحويل مسارها التاريخي عن طريق اخضاعها لثقافة وفكر غريب عنها وعن شخصيتها ومقوماتها التي تميزها وجعلها تعيش في حالة تبعية فكرية فتعيش على الثقافات الأخرى .
فالغزو الفكري مكمل لأساليب الغزو التقليدية ومساعد لها وفي بعض الأحيان يكون بديلا عنها مع التقائه معها في الأهداف وأن اختلف وسائل ومظاهر كل منها .
بينما يعتمد الغزو العسكري على قوة السلاح وما تحققه الجيوش من انتصارات في ساحات المعركة لتحقيق أهدافه يعتمد الغزو الفكري على مدى دراية الغزاة وعلمهم بأحوال الأمة التي يراد غزوها ومعرفتهم بمواطن الضعف والقوة في فكر وتراث هذه الأمة فيعملوا على محاربة وتشويه مواطن القوة فيها وزيادة مواطن الضعف بشتى الطرق .
وإذا كانت مظاهر الغزو العسكري هي سيطرة الدولة الغازية على أراضي الدولة المغزوة بحيث تظل هذه الدولة أو الأمة في حالة تبعية فكرية وثقافية للدولة الغازية .
فالغزو الفكري هو أن تسود أخلاق وعادات وتقاليد أمة من الأمم أخلاق وعادات وتقاليد أمة أخرى. فإذا كانت الأخلاق والعادات والتقاليد تنبع من القيم والمثل الأصلية لأي أمة من الأمم ومن الظروف التي تعيش فيها فإن تنكر الأمة لأخلاقها وعاداتها وتقاليدها هو تنكر لأصالتها ومسخ لشخصيتها وهويتها المميزة .
الغزو الفكري هو أن تزاحم لغة الغالب لغة المغلوب أو تحل محلها أو تحاربها باحياء اللهجات العامية فيها فتعيش لغة المغلوب عالة على لغة الغالب فتصبح غريبة في وطنها ويدب فيها الضعف بسبب اهمالها وكثرة المصطلحات والمفردات التي تدخلها من خارجها. وإذا كانت اللغة هي وسيلة الإنسان للتعبير عن أحاسيسه وأفكاره فإن ضعف اللغة من غير شك يؤدي إلى ضعف الفكر وخواء مضمونه فيزداد الميل للتقليد الأعمى ويقل الابتكار والابداع لدى مفكري الطرف المغلوب.
الغزو الفكري هو أن يعيش أدباء ومفكرو وعلماء أمة من الأمم عالة على أدباء ومفكري وعلماء أمة أخرى ويتحولون إلى أصحاب وكالات فكرية لا يعرفون معنى الابداع والابتكار فيقومون بتبني أفكار ومذاهب ونظريات غريبة عنهم وعن مجتمعهم وشخصيتهم المميزة متناسبين خصوصية فكر وثقافة كل أمة من الأمم وهذا هو العجز بعينه الذي يجعلهم يختارون أسهل الطرق وأخطرها عن طريق التقليد بدعوى عالمية الفكر والدعوة للتجديد والحداثة .
الغزو الفكري هو أن تهمل أمة من الأمم تاريخها وتراثها وتتخذ من تاريخ وتراث أمة أخرى مثلا أعلى لها فتهمل تاريخ أبطالها وسير التابعين من أبنائها فتفقد ثقتها في نفسها وتاريخها .
الغزو الفكري هو أن يتعرض تاريخ وفكر ونظام حياة أمة من الأمم لحملات التشويه والتخريب والاحتواء من فكر أمة أخر . وقد تعرضت الأمة الإسلامية كغيرها من الأمم الأخرى التي خضعت للاستعمار الغربي لهذا النوع من الغزو وعانت منه طويلا ولا زالت تعاني .
ولكن عندما يتعلق أمر الغزو الفكري بالعالم الإسلامي والفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية فإن الكلام يحتاج إلى كثير من الايضاح والتركيز فالإسلام هو خاتم الرسالات السماوية التي ارتضاها الله سبحانه وتعالى شريعة ومنهاجا أبديا للبشرية في دنياها وأخرتها.
فكان هذا الدين منذ أوائل عهده ثورة في وجه الظلم والاستغلال والانحراف ودعوة إلى العدل والاخاء والمساواة بين البشر فكان حربا على المستغلين والمنحرفين وهذا لا يرضي المستعمرين والمستغلين لأنهم لن يستطيعوا تحقيق أهدافهم . ووجد هولاء أن الطريق الصحيح للسيطرة على العالم الإسلامي هو محاربة هذا الدين وتشويهه ومحاربة الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية بكل جوانبها وفرض الثقافة والفكر الغربي على البلاد الإسلامية بكافة الطرق واعتبار الحضارة الغربية وقيمها مقياس كل نهوض وتقدم ونشر ذلك بين المسلمين حتى يقل اعتزازهم بدينهم وفكرهم وحضارتهم ويزداد اعجابهم وميلهم للحضارة الغربية .
فقد عمد الغرب إلى رد كل ابداع حضاري لدى الشعوب الإسلامية إلى الأصول اليونانية والرومانية وكأنه لم يوجد فكر في العصور القدمية إلا الفكر اليوناني والروماني متناسين أثر الحضارات الشرقية القديمة على الحضارة اليونانية والرومانية ومبرزين لأثر الحضارة اليونانية على الحضارة الإسلامية فالمسلمون في نظرهم لم يكونوا إلا نقلة وشراحا للفكر اليوناني ولم يضيفوا شيئا جديدا يستحق الذكر للحضارة الإنسانية .
فاسهام المسلمين عندهم الذي يستحق الذكر في مجال الحضارة الإنسانية هو أنهم قاموا بحفظ التراث اليوناني من الضياع عن طريق ترجمته وشرحه وتهذيبه ولا شيء غير ذلك فهم خزنة ماهرون ولكنهم ليسوا مبدعين فالابداع والنظر العقلي سمة للعقلية الغربية والتقليد والإمعان في الروحانية سمة للعقلية الشرقية
فتاريخ الفلسفة عندهم هو تاريخ الفلسفة الغربية مع اهمالهم ذكر اسهامات الفلاسفة المسلمين وأثرهم على الفلاسفة الغربيين أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم .
وتاريخ العلم هو تاريخ العلم الغربي مع التقليل من قيمة اسهامات العلماء المسلمين في تطور العلوم وتقدمها ونسبهم بعض كشوفات العلماء والمسلمين ونظرياتهم إلى علماء غربيين أو عدم ذكر أثرهم في توصل العلماء الغربيين إلى ما وصلوا إليه من كشوفات
وتاريخ الأدب هو تاريخ الأدب الغربي من هوميروس في عصر اليونان إلى أصحاب المدرسة الكلاسيكية والرومانسية في عصرنا الحديث واهمال ذكر أدباء المسلمين وابداعاتهم وأثرهم على كثير من الأدباء والشعراء الغربيين .
وعصور الغرب هي كل العصور ولا عصور غيرها فهي مقياس التقدم والانحطاط فالعصر الوسيط هو عصر انحطاط وتخلف لأن الغرب كان كذلك متتاسبن أن هذا القول ينطبق على الحضارة الغربية وحدها اما الحضارة الإسلامية فقد كانت في أوج مجدها وازدهارها في العصور الوسطى.
وهكذا نصب الغرب نفسه معلما أبديا للبشرية مسدلا ستاراً من الصمت والتعتيم والتشويه حول انجازات الحضارة الإسلامية في كافة المجالات حتى يبقيها في حالة تبعية فكرية له لأطول فترة ممكنة وذلك بجعل النموذج الحضاري الغربي هو النموذج الوحيد للتقدم الحضاري في كل العصور ولا نموذج سواه ولذلك يجب الاقتداء به وتقليده لمن يريد التقدم والازدهار.
وقد سارت عملية الأعلاء من قيمة الحضارة الغربية والفكر الغربي جنبا إلى جنب مع حملات التشويه والتخريب للتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية والدين الإسلامي فتسربت كثير من الأفكار الخاطئة عن الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي والدين الإسلامي إلى البلاد الإسلامية من خلال ما فرضه الغرب على هذه البلاد من أنماط معينة للتفكير والثقافة بواسطة مؤسساته التعليمية وغيرها من المؤسسات الأخرى .
لقد كان الغزو الفكري من أشد معاول الهدم خطورة على العالم الإسلامي والتي كرست تبعيته الفكرية للعالم الغربي لفترة طويلة وساعدت الدول الاستعمارية في تحقيق أهدافها وتكمن خطورة الغزو الفكري أنه من الأمور غير المنظورة التي لا يمكن تتبعها وعلاجها بسرعة بالاضافة إلى اختلاف الآراء حولها بعكس الغزو العسكري الذي يشعر به كل فرد فتسهل مقاومته والقضاء عليه متى توفرت الامكانيات لذلك .
وإذا أردنا أن نتحدث عن الغزو الفكري للعالم الإسلامي فيجب علينا أن نبحث عن الجذور التاريخية له والتي ساهمت إلى حد كبير في استمراره وفي مساعدة الدول الاستعمارية في فرض سيطرتها السياسية والعسكرية والفكرية على العالم الإسلامي لفترة كبيرة من الزمن.
فإذا كانت الدول الإسلامية قد تحررت من قيود الاستعمار الغربي من الناحية العسكرية وحصلت على استقلالها السياسي إلا أن تبعيتها الفكرية للدول الاستعمارية ما زالت قائمة بالرغم من المحاولات الجادة التي تبدلها هذه الدول للتخلص من هذه التبعية والتي تحتاج إلى وقت وصبر وعمل دائم على كافة المستويات بالإضافة إلى تكاتف جهود كل الدول و المؤسسات الفكرية في الدول الإسلامية .
وسنعرض في هذه الدراسة لبدايات الغزو الفكري الغربي في العالم الإسلامي ودواعيه وأهم الركائز والأدوات التي اعتمد عليها الغرب في تنفيذ مخططاته .
فكما أوضحنا سابقا أن فشل الحروب الصليبية في تحقيق أهدافها عن طريق الغزو العسكري جعلت الغرب يستخلص الدروس والعبر التي تعينه على معرفة الطريقة الجديدة التي يجب أن يتعامل بها الغرب مع العالم الإسلامي . حيث أدرك الغرب أن الغزو العسكري لا بد من مخفق مهما طال الزمن ما لم يصحبه غزو فكري يزلزل عوامل القوة الكامنة في الإسلام والحضارة الإسلامية . والغرب بذلك يعمل وفق القاعدة التي تقول إذا أرهبك عدوك فأفسد فكره ينتحر به " ومن هنا بدا الغرب التخطيط لهذا الأمر وهو افساد الفكر الإسلامي.
فأجمع الغرب أمره على محاربة الإسلام والمسلمين وذلك بهدم البنيان من أصوله وجذوره ومحاربة الإسلام في نفوس أبنائه لزعزعة ثقة المسلمين بدينهم وابعادهم عنه وابعاده عنهم واشتغالهم بمبادئ أخرى أن لم تقض نهائيا على الإسلام فإنها تزاحمه وتزلزل أركانه فيسهل القضاء عليه مع الزمن .
فقرر الغرب دراسة الإسلام وأدابه وفنونه وعلومه وحضارته دراسة وافية ليقفوا على مواطن القوة والضعف فيها فكان الاستشراق والتبشير السلاحين الخطرين اللذين ظهرا بشكل سافر وعلى نطاق واسع منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا .
فقد حمل الاستشراق أعباء الأعمال في ميادين المعرفة الأكاديمية وأضفى على بحوثه ودراساته عن العالم الإسلامي الطابع العلمي واستخدم الكتابة والتأليف والترجمة والتحقيق والنشر والقاء محاضرات وعقد المؤتمرات والتدريس الجامعي وسائل لتحقيق أهدافه .
وحمل التبشير أعباء الدعوة في أوساط الجماهير العامة الفقيرة عن طريق تقديم الخدمات الطبية والتعليمية للجماهير بالاضافة إلى قيامه بانشاء الملاجئ ودور الأيتام ودور الحضانة للأطفال وانشاؤه لجمعيات تدعى أنها تهدف لعمل الخير وهي في الأصل للتبشير.
وليس معنى ذلك أن الاستشراق والتبشير هما أدوات الغزو الفكري فقط بل تقف معهما وتساعدهما المبادئ والنظريات والفلسفات الهدامة والماسونية وجمعياتها كالروتاري واليوتز وبنات برت يهوه وغيرها من الأندية المشبوهة والتي انتشرت في العالم الإسلامي بمساعدة الاستعمار والصهيونية العالمية كما أن التقدم الرهيب في وسائل الاتصال في عصرنا الحاضر ساعد كثيرا على زيادة أثر هذا الغزو عن طريق ما يذاع وينشر في وسائل الاعلام المختلفة .
وسنكتفي في هذه الدراسة بالقاء مزيد من الضوء على الاستشراق والتبشير في العالم الإسلامي كما سنبين الارتباط الوثيق بينهما وبين الاستعمار الغربي .

نافذة على الاعجاز العلمي للقرآن الكريم

القرآن لم يأت ليعلمنا أسرار علم الهندسة وعلم الفلك
احتواء القرآن على بعض الآيات الكونية لا يبيح لكل من هب ودب أن يتلمس الأدلة لنظرية علمية جديدة
بقلم / يوسف الطويل
جريدة الوحدة الاماراتية 2- مارس 1987
منذ أن هبطت الديانات السماوية المنزلية وتناقلها الناس فيما بينهم بدا البحث في الصلة بين العقل وبين الدين بين منطق السماء ومنطق الأرض ونحن نعلم أن لكل دين من الاديان خصومه وأنصاره المؤمنون به والكافرون فريق يسعى إلى هدم منطق الوحي بالعقل وآخر يحاول أن يقلل من شأن العقل في مقابل وحي
وظهر بين هذين الفريقين فريق يحاول أن يوفق بين منطق العقل ومنطق الوحي ونزعة التوفيق هذه أثيرت في كل من الفلسفة الإسلامية وفلسفة العصور الوسطى المسيحية
وبين السعي نحو تعقل الإيمان أو السعي نحو اخضاع سلطة العقل لمنطق الوحي تجاوز كل فريق الحدود التي رسمها لنفسه بمعنى أن كل فريق حاول أن يفسر ويؤول بحق وبغير حق منطق الطرف الآخر طبقا لاتجاهه هو فكان أن سعي الفلاسفة إلى تأويل الدين بطريقه لا تتفق كثيرا وطبيعة الدين كما أن أنصار الوحي أساءوا إلى العقل واتهموه بالاضراب والعجز أمام منطق الوحي .
وفي عصرنا الحاضر ظهرت هذه المشكلة من جديد ولو بطريقة أخرى ففي العصور القديمة كانت الفلسفة هي المسيطرة على حركة الفكر أما في عصرنا الحاضر فإن السيطرة للعلم بما وصل إليه من تقدم مذهل وهنا خرجت دعوات كثيرة لنبذ الدين والأخذ بالنظرة العلمية الصرفة في معالجة كافة الأمور وتعرض الدين الإسلامي لحملات كثيرة اتهمته بالجمود وأنه يجافي العلم وأرجعوا سبب تخلف المسلمين إلى الدين الإسلامي
وقد أثار هذه المشكلة وغيرها من المشكلات الزائفة كثيرة من المستشرقين وتلامذتهم من المسلمين فما كان من الغيورين على دينهم إلا أن أنبروا للدفاع عن الإسلام وبيان أنه لا يجافي العلم فكانت كتابات الإمام محمد عبده ورشيد رضا وشكيب أرسلان وغيرهم كثير للرد على هذه التهم الزائفة
وفي غمره حملة الدفاع عن الدين الإسلامي ظهرت كتابات كثيرة ما يربط بين ما توصل إليه العلم من نظريات واكتشافات وبين الآيات القرآنية. وطبعا قوبلت هذه الكتابات برضاء شديد في العالم الإسلامي وملأت المؤلفات التي تتحدث عن الاعجاز العلمي للقرآن وأقيمت الندوات والمؤتمرات للحديث عن هذه الناحية
وتكمن هنا خطورة كبيرة في محاولة ربط الآيات القرآنية بالنظريات والاكتشافات العلمية وذلك أن بعض العلماء في اندفاعهم في التفسير العلمي وفي محاولتهم ربط القرآن بالتقدم العلمي يندفعون في محاولة لربط كلام الله بنظريات علمية مكتشفة يثبت بعد ذلك أنها غير صحيحة وهم بذلك يتخذون خطوات متسرعة ويحاولون اثبات القرآن بالعلم والقرآن ليس في حاجة إلى العلم ليثبت فالقرآن ليس كتاب علم ولكنه كتاب عبادة ومنهج . بمعنى أن احتواء القرآن على بعض الآيات الكونية لا يبيح لك من هب ودب أن يتلمس في القرآن دليل لنظرية علمية جديدة ولو على حساب معنى الآيات القرآنية
أن حكمة الله عز وجل اقتضت وجود مثل هذه الآيات وذلك لاختلاف عقول الناس فمنهم من يؤمن بفطرته ومنهم من يطلب الدليل ومنهم من لا يؤمن إلا بمعجزة وهكذا
والقرآن الكريم عطاء متجدد وهذا العطاء المتجدد ما هو إلا استمرار لمعنى اعجاز القرآن ولو أفرغ القرآن عطاءه كله أو لعجازه في مدة معينة، لاستقبل القرون الاخرى دون اعجاز او عطاء، وبذلك يكون قد جمد والقرآن لا يجمد وإنما يعطي لكل جبل بقدر طاقته ولكل فرد بقدر فهمه ويعطي للجيل القادم شيئا لم يعطه للجيل الذي سبقه
والقرآن هو كلام الله المتعبد بتلاوته يوم القيامة لا تغير ولا تبديل فيه ومن هنا فإن خطورة ربط القرآن بنظريات علمية خاطئة وما أكثرها تجعل موقف المفسر في حرج عندما ينبعث خطأ هذه النظرية فهو لا يستطيع أن يغير أو يبدل في كلام الله ولذلك يجب التروي والحذر قبل ربط أي نظرية علمية بكلام الله
ولكي نبين خطورة هذا النوع من التفسير نعرض بايجاز لتجربة مرت بها الديانة المسيحية في عصر النهضة. فمن المعروف أن رجال الدين المسيحي اعتمدوا على كثير من النظريات التي ابدعها اليونان في تفسير بعض الظواهر الكونية . وقام ألبير الكبير والقديس توما الأكويني بالتوفيق بين مذهب أرسطو وتعاليم الكتاب المقدس بحيث جعلوا مذهب أرسطو يبدو في صورة مسيحية عقلية . واعتنق العالم المسيحي مذهبه دينا إلى جانب دينه أو اعتبروه صورة عقلية لدينهم المنزل فاتهم بالالحاد كل من خرج على ما اعتمدته الكنيسة من أرائه وطورد كل من يبشر بفكرة لم ترد في تراثه .
وأدى ذلك العمل إلى جمود الفكر الأوروبي في العصور الوسطى وحبس العقل في مجال ضيق لا يسمح له أن يتعداه ولكن حدث في عصر النهضة انقلاب كبير في ميادين العلم والفلسفة والفن نتيجة اتصال أوروبا بالعرب وترجمة مؤلفاتهم ومؤلفات اليونان . فهب العقل من سباته وثار في وجه الكنيسة المتعسفة وظهرت أراء جديدة مخالفة لما تقول به الكنيسة وما اعتمدته من أراء أرسطو وغيره من اليونان فقامت لمقاومة هذا الروح العلمي الجديد فأنشئت محاكم التفتيش واتهمت كثيرا من العلماء بالهرطقة والالحاد ونكلت بهم وحرقت كتبهم.
فعندما أعلن كوبر نيقوس أن الشمس لا الأرض هي مركز الكون وأن الأرض تدور دورة مزدوجة حول نفسها صودر كتابه وحرم قراءته على المؤمنين واعدم العالم كبلر لأنه أيد كلام كوبر نيقوس وحدث من ذلك لجاليليو بسبب منظاره ولأنه قال بدوران الأرض حول نفسها مرة كل أربعة وعشرين ساعة ودورها مرة واحدة كل سنة حول محورها فأثار ذلك حنق رجال الدين وسجنوه
وكان سبب هذا الاضطهاد هو أن الكنيسة اعتمدت أراء العالم اليوناني القديم بطليموس في تفسير حركة الكوكب ولكن حقائق العلم لا يمكن مقاومتها ومع الزمن أصبح الناس مقتنعين بالحقائق العلمية الجديدة وزاد اعجابهم واحترامهم للعلم وقل احترامهم للدين ورجاله والسبب في ذلك هو رجعية رجال الدين وجمودهم ومحاولاتهم ربط النصوص الدينية بنظريات علمية ظناً منهم أن ذلك يخدم الدين .
وهذا هو حال الدول الأوروبية الآن أصبحت النظرة المادية تحكم كل أمورها ولم يبق من الدين إلا الاسم وأصبحت القوانين الوضعية تحكم كل شيء .
وأنا لا أقول أن ذلك يمكن أن يحدث عندنا وفي ديننا الإسلامي إلا إذا استمر المولعون بالتفسير العلمي للقرآن في طريقهم هذا المحفوف بالمخاطر والذي يمكن أن يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه .
ونحن بذلك لا نقلل من شأن القرآن بل أننا بذلك ننصف القرآن فلا يجب أن نتعامل مع القرآن على أساس أنه كتاب جاء ينبئنا بعلوم الدين فالقرآن لم يأت ليعلمنا أسرار علم الهندسة وعلم الفلك والكيمياء ولكن القرآن في جوهره هو كتاب هدى وعبادة والرسول الكريم يقول إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .
فجميع الأديان السماوية إنما أرسلها الله إلى البشر لكي تصلح أخلاقهم وتعالج الفساد وعدم الأخلاق الذي انتشر بين الناس . فلب الرسالات السماوية يكمن في جانبها الأخلاقي الذي ينظم العلاقات بين العبد وربه وبين العبد وغيره من الناس . والدين الإسلامي جاء خاتم الديانات السماوية ولذلك عالجت الرسالة الإسلامية كافة ميادين الحياة من الناحية الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بالاضافة إلى دعوتها للعلم .
ومن حكمه واعجاز القرآن في هذه الناحية هو أنه لم يتطرق إلى الجزئيات التي تخص كل ناحية من نواحي الحياة بل أنه جاء بمبادئ كلية عامة تصلح لكل زمان ومكان. فمثلا من الناحية الاقتصادية وضع الإسلام المبادئ العامة للاقتصاد الإسلامي وكيف يجب أن يكون ولكنه لم يتعرض إلى التفصيلات الجزئية المعروفة الآن والتي تتغير بتغير الزمان والمكان والذي تمكن من قيام هذا العلم على أساس علمي مدروس فترك ذلك إلى البشر يجتهدون فيه كل حسب مصلحته وزمانه بحيث لا يتعارض ذلك مع مقاصد الشريعة فتكلم الإسلام عن الملكية الفردية وطبيعتها ووسائل التملك ومجالات العمل المشروع وغير المشروع وأخلاقيات العمل التجاري وعن سبل الانفاق وغيرها من المبادئ العامة .
وأيضا دعا الإسلام إلى العلم والإعلاء من شأن العلماء ولكنه لم يتطرق إلى تفصيلات هذه العلوم وكيف يجب أن تكون .
وإذا كان بعض العلماء المسلمين يبحثون عن دور للإسلام في مجال العلم فإن ذلك لا يمكن عن طريق ربط كل نظرية علمية جديدة بالنصوص القرآنية بل أن هذا الدور يكون من توجيه العلوم والاكتشافات العلمية الوجهة الصحيحة ولصالح البشرية .
وأريد أن أسأل سؤالا ما فائدة التقدم العلمي الكبير الذي أحرزته البشرية في القرنين الماضيين وقد استخدم هذا التقدم في استعباد الشعوب الصغيرة . نعم أن البشرية في هذا العصر أكثر تقدما الآف المرات مما كانت عليه في الماضي ولكن هل هذا التقدم جلب للبشرية السعادة والاستقرار والأمن . بالطبع لا والسبب في ذلك هو غياب الواعز الديني والأخلاقي وطغيان النظرة المادية في معالجة الأمور .
فمثلا اكتشاف الطاقة الذرية كان من أهم الاكتشافات في العصر الحديث ولو أحسن استغلال هذا الكشف لتغيرت ملامح الكرة الأرضية ولكن الذي حدث هو أن هذا الكشف أصبح من أكبر هموم البشرية نظرا لاستغلاله بطريقة غير أخلاقية لاذلال الشعوب الأخرى وجعلها تعيش في كابوس الخطر النووي .
وكم من الاكتشافات العلمية التي لو وجد الواعز الديني والأخلاقي لاستغلت لصالح البشرية ولكن نظرا لغياب هذا الحس الديني والأخلاقي أصبحت هذه الاكتشافات نقمة على البشرية .
وهنا يمكن أن نتحدث عن دور للدين الإسلامي في مجال العلم . وهو تسخير هذه الاكتشافات لصالح البشر ورخائهم ولا يكون هذا الدور بالقول بأن القرآن اشتمل على أساسيات علم التربية الحديثة وعلى أساسيات علم الأجنة لمجرد وجود آية أو آيتين في القرآن تشير إلى هذا الموضوع أو ذاك . فبدلا من أن يقوم علماؤنا الأفاضل بالبحث واستكشاف الطبيعة تلبية لدعوة القرآن فإنهم ينظرون وصول خبر الاكتشافات العلمية من الغرب ويبحثوا عن أساسيات هذه الاكتشافات في القرآن .
وأغرب دعوة قرأتها في هذا المجال هو ما يدعو إليه كثير من المؤلفين بالتفسير العلمي للقرآن من أنه لو حدث وبحثت الآيات القرآنية وجمعت وبوبت موضوعيا وقمنا ببحثها لوصل المسلمون لاكتشاف أغلب النظريات الحديثة من عدة قرون. هذا هو فهم هؤلاء للعلم وهم أبعد الناس عن العلم لأن المنهج العلمي له شروطه ومنهجه فالكشف العلمي لم يتم عن طريق تحليل الألفاظ بطريقة معينة لاستخراج الأسرار منها بل يكون بالبحث والتجريب والاستقراء والصبر وانكار الذات و حب العمل لا حب الكلام والتفاخر بدين لا يستحقوا أن ينتسبوا إليه .

الجمعة، 17 أكتوبر 2008

حوار .. وصاحبه غايب

بقلم / يوسف العاصي الطويل
عضو الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين
15/10/2008
يحظى الحوار الفلسطينى الفلسطينى الذى ترعاه مصر بين الفصائل الفلسطينة وبالذات بين حركتى فتح وحماس باهتمام بالغ على كافة المستويات الدولية والعربية والفلسطينة ويعقد عليه الكثيرون الآمال في اعادة القضية الفلسطينية الى مسارها الصحيح بعد الانقسام الذي حدث نتيجة استيلاء حماس على السلطة ونتائجه الكارثية على الشعب الفلسطيني.
وقد دعت مصر كونها راعية الحوار كافة الفصائل الفلسطينة للحوار معها في القاهرة لوضع صيغه مقبولة من الجميع للحل الذي يكفل اعادة اللحمة لجناحي الوطن ويعيد الامور الى وضعها الطبيعى. وبالرغم من ايماني بان الحوار الفلسطينى مطلب مهم وضرورى في كل زمان ومكان لمواجهة التحديات التى تواجه القضية الفلسطينة، الا اننى اعتقد ان الحوار الدائر الان في القاهرة لا يمكن ان تنطبق عليه كلمة حوار او كونه فلسطينى، بالرغم ان مصر دعت اليه كافة الفصائل الفلسطينية. لان الغائب الاكبر عنه هو الشعب الفلسطينى وقضاياه العادله .
اما لماذا لا يمكن تسمية ما يجرى في القاهرة بالحوار فهو لان ما يتم هناك هو فرض ارادات وكسر عظم، لتمرير مخطط ثم رسمه بدقه لتوريط حماس للوصول الى احدى نتيجتين اما الانخراط في العملية السلمية واما الفشل التام، وتحميل حماس مسئولية فشل الحوار.
وقد سبق وان عبرت عن وجهة نظرى فيما حدث على الساحة الفلسطينية منذ دخول حماس الانتخابات واستيلائها على السلطه وهو انها وقعت نتيجه عدم وعيها بفخ نصب لها بدقه وادخلت نفسها في ورطه لا فكاك منها الا بالرضوخ لمطالب الطرف القوى وهو سلطة عباس التى تقف ورائها دول عربية معينه وامريكا واسرائيل، او مقابلة مصيرها المحتوم وهو الفشل التام نتيجه عدم امتلاكها مقومات البقاء.
فحماس تشارك في الحوار بعد اكثر من سنه من انقلابها واستيلائها على السلطله وهى تمر بأسوأ مرحلة في تاريخها في ظل الحصار المفروض عليها وعلى القطاع، حيث كانت هذه الفترة سيئة بكل معنى الكلمه على حماس نتيجة الضغوطات الداخلية والخارجية التى مورست عليها والتى دفعتها الى القيام باعمال كانت تعيبها على حركة فتح واصبح الشارع الفلسطينى يتنذر على ما كانت تحرمه حماس على فتح واحلته لنفسها (اعتقال وفساد ومحسوبية وتنكيل وقتل ..)
وربما تفاخر حماس ببعض الانجازات على الارض وهى انها استطاعت ضبط الامن في القطاع ولكن هذا الادعاء فيه مغالطة كبيره حيث ان ذلك ثم من خلال القيام باعمال لم تجرؤ سلطة فتح التفكير بها، كما ان حماس تتفاخر بانها ورغم الحصار استطاعت ان توفر للشعب في القطاع مستلزماته الحياتية وتمكنت من ادارة المؤسسات بالرغم من استنكاف موظفي السلطة عن العمل.
وربما يكون هذا صيح واعتقد ان الايجابية الوحيدة لهذه الامور هى ان حماس استطاعت توفير فرص عمل لعاطين عن العمل في ظل سلطة فتح، فاصبح اهالى غزه غالبيتهم موظفين اما في سلطة حماس او في سلطة عباس. واذا كان توظيف العاطلين وتعطليل العاملين جلب الاموال لاهالى غزه الا انه في نفس الوقت جلب الدمار حيث آلاف العاملين السابقين اصبحوا يفترشون الشوارع وتحول آلاف العاطلين والمهمشين سابقا الى سادة الميدان، وهذا بدوره ادى الى تكريس حاله من الانقسام الرهيب وحول الشعب الفلسطينى الى جماعات مصالح مرتبطه اما بحماس او بسلطة عباس .
وربما هذا يقودنا الى حقيقة تمثيل الفصائل الفلسطينة للشعب الفلسطينى حيث ان هذا الادعات في الوقت الحالى لا اساس لها من الصحة حيث ان الناس فرض عليها اما ان تكون حماس او فتح من خلال مساومتهم على لقمة العيش والذي لا يجد يستطيع ان يبحث في فصيل آخر يلمه، او ان يعمل في التهريب (ومن شابهه رئيسه فما ظلم) عبر الانفاق التى تغض عنها الطرف مصر واسرائيل لزياده ورطة حماس وزيادة نقمة الشعب عليها نتيجة للغلاء الفاحش الذى يشهده القطاع .
لقد ذهبت كلا من حماس وفتح وباقى الفصائل الفلسطينية الى القاهرة مدعيه انها تمثل الشعب الفلسطينى وقضيته العادلة، ويؤسفنى القول ان هذا ادعاء باطل ولا اساس له من الصحة بالرغم من قدرة هذه الفصائل على حشد الجموع عند الحاجه لاثباث قوتها على الارض والادعاء بان ذلك المهرجان او الاحتفال حضره مئات الالوف من مؤيديها، بل ان المتابع للشأن الفلسطين يحار في بعض الاوقات حول تحديد تعداد سكان غزه وانتمائاتهم نتيجه لادعائات بحشود مليونية من بعض الفصائل، ولكن ربما يكون هذا الواقع صحيحا في ظل الحصار والتجويع والتهميش والفساد الذى جعل الناس على استعداد لتغيير الوانها لمن يدفع او يوظف، اى ان الفصائل ارغمت الشعب ان يعطى انتمائه ليس لمن يرفع شعار حماية القضية بل لمن يدفع الراتب ويمنح الكابونه.
من هنا لا نستغرب ان القضايا الاساسية التى يدور حولها حوار القاهره هى قضايا تتعلق بتقاسم السلطة والمناصب وليس قضية القدس او اللاجئين او غيرها من القضايا الجوهرية . ان المتحاورون في القاهره وبعد ان استطاعوا تقسيم الشعب الفلسطينى الى جماعات مصالح او لوبيات مرتبطه بمن يدفع الراتب تشعر بالافلاس الوطنى ولا تجد سبيل لحماية نفسها الا من خلال الحصول على اكبر نصيب من الكعكه لارضاء جماعات المصالح تلك واللوبيات التى تنتظر حصتها من الميراث .
للاسف ان الانتماءات الحزبية الآن وبعد اوسلوا اصبحت انتماءات مصلحية لا علاقة لها بالوطن او القضية، وكل تفكير الناس الآن مرتبط بهذا الامر السؤال عن الراتب وموعد نزوله والعلاوات وغيرها من الامور، بل ان الشعب الفلسطينى فقد الاحساس بابسط معانى النضال والوطنية عندما ارتضى لنفسه او فرض عليه ان يعيش عاله على صدقات ومعونات الغير الذين يدفعون لملوك الطوائف لتكريس الانقسام والاجهاز على البقية الباقية من القضية، لان من لا يملك لقمة عيشه لا يستطيع ان يكون حرا في قراراته وسيظل يخضع لاجندات غيره.
ان الواقع الكارثي الذى تمر به القضية الفلسطينية والشعب الفلسطينى لا سابق له وكل ذلك بسبب امراء الحرب والفتنة في حماس وفتح الذين اوصلوا القضية الى نهايه مأساوية بسبب مصالحهم الشخصية والحزبية الضيقة، وبالرغم من ذلك يصرون على انهم يمثلون الشعب الفلسطينى.
ان قضية ادعاء فتح وحماس بثميل الشعب الفلسطينى قضية تحتاج الى اعادة نظر وتدقيق، نعم ان الفصائل الفلسطينة كانت لديها الشرعية النضالية للادعاء بثميل الشعب الفلسطينى عندما كانت حركات مقاومه تضع القضية الفلسطينية وهموم الشعب الفلسطينى ضمن اولى اوليلتها وكان عطاء ابنائها للوطن مغموس بلون الدم واسواط السجانين، ولم يكن للراتب والمناصب والرتب اى اعتبار لدى مناضلي وشهداء هذه الفصائل ، اما الآن في زمن التجار وعبيد السلطة فلا احد له حق الادعاء بتمثيل الشعب الفلسطينى الا من خلال مؤسسات ديمقراطية تعطى الشرعية لمن له الحق بتمثيل الشعب الفلسطينى.
ولو تأملنا واقعنا الحالى فانه لا يوجد فصيل او حركة يمكنها الادعاء بانها تمتلك هذه الشرعية لعدة اسباب :
ان الشعب الفلسطينى ليس فقط في غزه والضفة بل ان غالبيته في الشتات، ولم يتم اجراء انتخابات حقيقية لاختيار ممثلى الشعب الفلسطينى منذ فتره طويله ناهيك عن ان المجلس الوطنى الفلسطينى يتم اختيار اعضاءه بالتعيين وليس بالانتخابات، كما ان بعض الفصائل غير ممثله به، ويعقد فقط عند الطلب ولتمرير قرارات كارثية.
اما المجلس التشريعي الاخير والذى اعطى حماس الاغلبية فانه لا يمنح حماس او فتح حق الادعاء بتمثيل الشعب الفلسطينى حتى في غزة والضفة .
فحركة فتح بالرغم من تاريخها النضالى وامكانياتها اللامحدوده فشلت في هذه الانتخابات بسبب فساد قادتها ونهبهم لاموال الشعب وتخليهم عن المشروع الوطنى، وفي ذلك اكبر اشاره لرفض الشعب لهم ولفسادهم وافسادهم الذى يصرون عليه ولا يخجلون منه ولحتى اللحظة لم تتمكن الحركة من تطهير نفسها من الفاسدين واللصوص الذين اختطفوها من ساحات النضال الى ساحات البزنس والخذلان، وها هي الحركة تعقد اجتماعها في فنادق عمان للتحضير للمؤتمر السادس الذى ربما يتم الدعوه لعقده في باريس للتفريح عن مناضلي فتح الاشاوس.
اما حركة حماس فليس من حقها بالرغم من حصولها على الاغلبية في الانتخابات الاخيرة الادعاء باحقيتها بتمثيل الشعب الفلسطينى، لان الشعب اختارها بطريقه ديمقراطية وبناء على برنامج التغيير والاصلاح، ولكن عندما لجأت الحركة الى استخدام القوة والسلاح (بغض النظر عن الاسباب) فهذا الامر لا يمت للديمقراطية بصلة والتى لازالت حماس تحتمى بها. ان الديمقراطية تعنى حكم الشعب والالتجاء له، واى خلاف او قضية وطنية يجب الاحتكام بها الى الشعب وليس الى القوة العسكرية. ان حماس بانقلاباها الدموى انقلبت على الديمقراطية ومارست عمل لا تقبله ادنى مراتب الديمقراطية وبالتالى ليس من حقها الادعاء بتمثيل الشعب الفلسطينى.
كما اننا اذا كنا نريد ان نحتكم الى النظام الديمقراطى او حتى الاسلامى فان ولى الامر او الحاكم منوط به تحقيق مصالح الشعب واذا عجز عن ذلك لاى سبب من الاسبات وجب عزله، واعتقد ان حماس فشلت في كل شئ ولم تطبق حرف واحد من برنامجها الذى حازت على ثقة الشعب من خلاله بل تخلت عن المقاومه واوصلت الوضع فى غزه الى شبه كارثه، فيجب عليها ان تتقى الله في الشعب والقضية، وتعود الى المقاومه وتتخلى عن الكرسي.
ان ادعاء فتح وحماس وحتى غالبية الفصائل الفلسطينة تمثيل الشعب الفلسطينى اصبح شئ مشكوك فيه، لان غالبيتها مرتبط باجندات ليست فلسطينية، ولهذا وصل حالنا الى ما هو علية، واذا اردنا ان نخرج من المأزق فاعتقد ان الحل يتمثل في قيام جامعة الدول العربية بالدعوة لاجتماع اسثنائي للرؤساء العرب لفرض شخصية فلسطينة محترمه وقديره وغير حزبية لتسيير امور الشعب الفلسطينى والاعداد لانتخابات فلسطينية رئاسية وبرلمانية تشمل فلسطيني الداخل والخارج، وتكون ضمن الاوليات اعادة هيكلة اجهزة السلطة بالكامل على اسس وطنية ومهنية بحثه ومتابعة النضال من اجل الحصول على حقوق الشعب الفلسطينى، ويجب ان يتم منع الدعم المالى والمعنوى عن امراء الحرب في فتح وحماس وتعريتهم والعمل على محاسبتهم على جرائمهم بحق الشعب والقضية.
وربما يرفض البعض مثل هذا الاقتراح بدعوى انه سيلغى استقلالية القرار الفلسطينى وسيكون بدايه لتدخل الدول العربية في الشأن الفلسطينى، وهنا يجب ان نكون صريحين ونسأل انفسنا متى كان القرار الفلسطينى (اقصد قرار الفصائل) مستقلا؟ هل فصائلنا تمول نفسها بنفسها ام انها تعيش على صدقات وتنفذ اجندات مختلفه. اننى اعتقد ان مقوله استقلالية القرار الفلسطينى فتح الباب على مصراعية للمتسلقين والارزقية للاعتياش على حساب قضيتنا العادلة، وهنا يظل الشعب والقضية هم الغائب الاكبر عن المولد (اقصد الحوار)، وانشاء الله يتمكن هذا الشعب العظيم بقضيته العادلة من قلب الطاولة على تجار القضية وسماسرتها حتى لا يخرج من المولد بلا حمص ..!

الجمعة، 18 يوليو 2008

تطور الوسائل السلمية في القانون الدولي المعاصر

تطور الوسائل السلمية في القانون الدولي المعاصر




يوسف العاصي الطويل

مقدمه
بالرغم من ان التاريخ يعطينا صوره قاتمه عن الصراعات والحروب التى خاضها الانسان ضد اخيه الانسان، الا ان ذلك لا يعنى ان الحرب كانت الوسيله الوحيدة لفض المنازعات بين الدول والشعوب، حيث عرفت الانسانية عبر تاريخها الطويل وسائل عديدة لتسوية المنازعات بالطرق السلمية، حيث تجلى ذلك في حضارات الشرق القديمه مصر والعراق، وجددت العديد من الوسائل التى سعت من خلالها الى تفادي الحرب وتسوية الخلافات عن طريق المفاوضات وعقد الاتفاقيات.
كما عرفت كلا من الحضارة اليونانية والرومانية هذه الوسائل ولكن ذلك كان في اطار العلاقات بين الداخلية، ولم يمتد اثرها لعلاقاتها مع الشعوب والحضارات الاخرى بسبب نظره عنصرية قصرت مفهوم المواطنه فقط على اليونانيين والرومان، ولهذا كانت علاقاتها الخارجية تقوم على اساس مبدأ الحرب لحل النزاعات. ولكن ونتيجه لظهور الديانه المسيحية فقد حدث تغيير طفيف في هذه العلاقات وظهرت فكرة الحرب العادلة لدى الشعوب المسيحية، حيث كان ظهور الاسلام بقوه على الساحة الدولية بمبادئه السمحه وانتشاره الكبير بسرعه في ترسيخ مبادئ جديده في العلاقات الدولية وقوانين الحرب والسلام، وفض المنازعات بالطرق السلمية، حيث انتقلت هذه المبادئ الى اوروبا وسعىالمفكرون الاوربيون الى وضع اسس جديده لتفادى الحروب المستمره التى شهدتها اوروبا في العصور الوسطى بسبب الصرعات المستمره، والتى شهدت زياده ملحوظه مع عصر النهضه وحركة الاصلاح الدينى التى افرزت حروب دينية طاحنه بين الشعوب الاوربية والتى استمرت 30 عاما، حيث انتهت بتوقيع اتفاقية واستفاليا عام 1647 والتى اسست لظهور ما يسمى التنظيم الدولى، حيث سعت الدول المنتصره فرض النظام في اوروبا من خلال التحالفات والمعاهدت والمؤتمرات والتى كان اهمها مؤتمر لاهاى الذى وضع الاساس القانوني لوسائل فض المنازعات بالطرق السلمية، حيث كانت القواعد التى ارساها هذا المؤتمر اساس للقواعد التى نادت بها عصبة الامم ثم الامم المتحدة ومعظم المنظات الدولية والاقليمية.
وفي معالجتنا لتطور الوسائل السلمية لفض المنازعات في القانون الدولى قسمنا الدراساة الى خمسة فصول تناولنا في الفصل الاول تاريخ تطور الوسائل السلمية منذ العصور القديمة وحتى الان، اما الفصل الثاني فعالجنا فية الصراع الدولى ووسائل ادارة الازمات المختلفه، اما في الفصل الثالث فخصصناه للوسائل السلمية لفض المنازعات في القانون الدولي المعاصر من دبلوماسية وسياسية وقضائية وزجرية وتحدثنا بالتفصيل عن المفاوضه والوساطه والمساعى الحمية والتوفيق والتحقيق والتحكيم.
اما الفصل الرابع فخصصناه للحديث عن دور المنظمات الدولية فى حل النزاعات بالطرق السلمية وتحدثنا بالتفصيل عن هيئة الامم المتحدة وبالذات مجلس الامن والجمعية العامة ودورهما في حل النزاعات بالطرق السلمية. اما الفصل الخامس والاخير فتكلمنا عن دور المنظمات الاقليمية في حل النزاعات واخترنا جامعة الدول العربية كمثال على ذلك.
وفي النهاية ومن خلال عرضنا للوسئل السلمية وتطورها عير التاريخ وحتى عصرنا الحاضر يمكن القول ان هذه الوسائل شهدت تطورا كبيرا، ولكن في نفس الوقت شهدت فيه الحروب وادواتها تطور اكبر، بل انه اصبح لاول مره بامكان دوله معينه من الدول النووية ان تضع حدا للحياة البشرية على كوكب الارض نتيجه لحدوث صراع معين او بسبب وجود زعيم ديكتاتوري مجنون او بسبب خلل بشرى يمكن ان يقع في ايه لحظه.
من هذا الواقع المخيف فانه مطلوب من المجتمع الدولى وعقلاء هذا العالم ان يبدلوا جهود كبيره لتلافي مثل هذا اليوم الذي يمكن ان يقع في ايه لحظه، وبالتالى فانه لم يعد المهم تطبيق هذه الوسائل بل لا بد من ابتكار وسائل جديده تتماشى مع حجم التحديات التى تواجهها الانسانية.


الفصل الاول
تطور الوسائل السلمية عبر التاريخ
لم تكن الحرب، وليست الان، الطريقة الوحيدة لمعالجة النزاعات بين الدول، فقد عرفت الانسانية وسائل يمكن ان نعدها سلمية منذ اعماق التاريخ حتى اليوم، وقد اعطت ثمارا لا سيما عندما كانت النوايا حسنة. وقد تمسك واضعو ميثاق الامم المتحدة بهذه الوسائل السلمية.
العصور القديمة : ان الاتصال بين الشعوب القديمة لم يكن قاصرا على ميدان القتال والغزو، بل كانت هناك بين الكثير منها علاقات سلمية ويحتوى التاريخ اكثر من دليل على قيام علاقات دولية في العصور القديمة وعلى وجود بعض قواعد كانت تخضع لها هذه العلاقات. وقد سجل المؤرخون بعض امثلة لمعاهدات تحالف وصداقة عقدت وقتئد، كما سجلوا الكثير من معاهدات الصلح التى انهت الحروب العديدة التى كانت تلك العصور مسرحاً لها. فهناك معاهدة تحالف ابرمت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد بين رمسيس الثاني فرعون مصر وخاتيسار امير الحيتيين، ومعاهدة صداقة وعدم اعتداء بين بعض بلدان الشرق القديمة .
وتفيد بعض الآثار التى عثر عليها حديثا في منطقة الكلدة ان هذه الشعوب كانت تلجأ الى الوساطة والتحكيم كوسيلة لحسم المنازعات بينها سلمياً. وبالرغم من كل ذلك الا ان العلاقات الدولية في العصور القديمة كانت ضيقة ومحدودة ولا تتعدى الشعوب المتجاورة، ولم تكن مستقرة منظمة بحيث يمكن اتباع تطورها
عصر الاغريق : تميزت العلاقات في زمن الاغريق (اليونان) بصورتين هما: العلاقات القائمة بين المدن اليونانية نفسها، والعلاقات بين اليونان والشعوب الاخرى، فقد كانت بلاد اليونان تتشكل من مدن - دول، وكل منها تتمتع باستقلالها، وهذا ما ادى الى قيام بعض القواعد التي تنظم علاقات هذه المدن زمني الحرب والسلم، كاعلان الحرب قبل بدئها وتبادل الأسرى وحرمة اللجوء الى اماكن العبادة. اما علاقة اليونانيين بالشعوب الاخرى فكانت تقوم على العداء وحب السيطرة انطلاقاً من نظرة الاستعلاء، والاعتقاد بتفوق حضارتهم على بقية الشعوب، فانطلقوا للسيطرة على العالم في زمن الاسكندر الكبير وفرضوا قانونهم الخاص على هذه الشعوب.
الامبراطورية الرومانية
كانت روما في نشأتها_ كما اليونان- دولة مدينة ولكنها كانت مهددة تهديداً مستمراً بغزو الدول المجاورة، فلم تجد بداً من انتهاج سياسة القوة ودأبت على الغزو والفتح . وهنا لا يختلف الرومان عن الاغريق في نظرتهم الى ماعداهم من الشعوب، فلم تكن لهذه الشعوب اي حقوق قبلهم يتعين عليهم احترامها، وكانت صلاتهم بها في الغالب صلات عدائية وسلسة من الحروب اوحت بها سياسة روما العليا للسيطرة على العالم. وبالرغم من ذلك كانت لروما بعض عادات مرعية خاصة بالحرب غير انها لا تعدو مجرد اجراءات شكلية تهدف اسباغ طابعا شرعيا على الحرب. كذلك ابرم الرومان كثير من معاهدات الصلح مع الشعوب المغلوبه، ولكنها كانت ارادة الغالب يمليها على المغلوب ، حيث كان من دأب السياسية الرومانية العمل على سحق كل شعور قومي مشترك في منبته، اخذاً بمبدأ "فرق تس"، ولم تسمح بنشوء قوميات محلية لانها لم تكن تستطيع اعطائها نصيباً في الحكم الا اذا اخذت بالتمثيل النيابي، وهذا ما ترفضه .
الاسلام
جاء الاسلام والعرب تسودهم الفوضى وتجري بين قبائلهم حروب شعواء متصلة الحلقات ولاتفه الامور، فتضطرم الحروب ويعم الخراب والدمار شبه الجزيرة. ولم يكن هذا هو الحال في شبه الجزيرة القريبة وحدها بل كان هو الشأن في الدول المحيطة بها في بلاد الفرس والروم وغيرها. فجاء الاسلام مؤكداً مبادئ الاخاء والمساواة على نحو فريد لم يشهده العالم من قبل، وقرر الاخوة التى لا تأبه لفروق الجنس او اللون او اللغة او الثروة، وكان تقرير المساواة من حيث المبدأ ومن حيث التطبيق هو الذي أذن للاسلام بالانتشار على مستوى عالمي بسرعة مذهلة، وجعل الناس في مختلف الشعوب تقدم عليه في طواعية واختيار، ونجح الاسلام في تأليف اجناس بشرية مختلفة في جبهة اسلامية واحدة اساسها المساواة . ومن هنا اختلف الفتح العربي تماماً عن الفتوحات الرومانية والمغلولية التى لم تهتم بانشاء حضارات راقية ثابته دائمة. بل ان المغول خربوا ودمروا كل الحضارات القائمة. بينما كان الفتح العربي يحمل رسالة حضارية، تدعو الى الرخاء والسلام في الاسرة البشرية .
ولما كان نشر الدعوة الاسلامية هو "الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم وهو الذي يحدد المكانة الحقيقية للسلم في نطاق هذه العلاقات، فإنه ينبني على ذلك حقيقة أساسية مفادها أن الأدوات التي يمكن للدولة الإسلامية أن تستعين بها في إدارة وتنظيم علاقتها مع الدول والجماعات غير الإسلامية في وقت السلم تتعدد وتتنوع لتشمل: التفاوض والتعاهد (إبرام العاهدات لتنظيم مسائل معينة مع الغير)، والتبادل الاقتصادي والتجاري، وتبادل الرسل والسفارات إلي غير ذلك من الوسائل والأدوات التي يستعان بها عموما لتصريف الشئون الخارجية وقت السلم
وقد مارس الرسول (ص) والخلفاء الراشدين كافة الادوات والوسائل السلمية مع خصومهم كالمفاوضة، والتحكيم، ولمح الى قبوله المصالحة. فقد كان الرسول(ص) يامر قادته الا يباشروا حربا قبل طرح تخيير الخصم بين قبول شروط معينة وبين ‏الحرب . اما التحكيم فقد اشتهرت قضية التحكيم التي قام بها ابو موسى الاشعري، بين سيدنا على ومعاوية، اما المصالحة فقد جاءت الدعوة اليها بنص القرآن الكريم (وان طائفتان من‏المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فان بغت احداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفي الى امر اللّه فان فاءت‏فاصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا ان اللّه يحب المقسطين).
العصور الوسطى
تمتد هذه الحقبة من سقوط الامبراطورية الرومانية عام 476م وحتى معاهدة وستفاليا عام 1648، وفيها استمرت حياة الامم الاوربية تدور في حلقة مفرغة من الحروب، وظلت فكرة الحق للأقوى تسيطر على علاقات الدول ببعضها. ولكن كان لانتشار المسيحية ودعوتها الى التآخي والمساواة بين الشعوب والأفراد ونبذ الحروب دور في بروز فكرة الحرب العادلة التي كانت ترمي الى تقييد اللجوء الى الحرب، وتلطيف عملياتها، فلم تعد مباحة الا عند الضرورة ولسبب عادل، وبعد استنفار الوسائل السلمية لرفع الظلم. كذلك تمّ وضع نظامين مهمين هما "السلام الالهي" ويقضي بحياد الأماكن المقدسة، ورجال الدين، والاطفال، والعجزة، و"الهدنة الالهية" التي تمنع الحرب في أيام محددة من الاسبوع كالسبت والاثنين وأيام الأعياد. وبهذا كان لانتشار المسيحية تأثير في التوفيق بين دول اوروبا وقيام أسرة دولية مسيحية تخضع لسلطة البابا، وقد ساعد على توطيد هذه الفكرة ظهور الاسلام وتهديده بانتزاع السيادة على العالم من المسيحية.
فقد أدى انتشار الاسلام ووصوله الى جنوبي فرنسا الى تكاتف الامم الاوروبية تحت لواء البابا الروحي لدفع هذا الخطر، حيث اصطدمت الكتلتان في حروب متعددة ادت الى انقسام العالم الى قسمين، ولكن ذلك لم يمنع الطرفين من اكتشاف كل منهما للآخر، واكتشاف المبادئ الانسانية التي تقوم عليها كل من الديانتين، كما دلت الحروب بينهما على المبادئ التي تحكم هذه الحروب وروح التسامح والعدالة الاسلامية، ومعاملة الاسرى، والأطفال، والنساء، والعجزة،، واللجوء الى السلم، وعدم شنّ الحرب إلا دفاعاً عن النفس، وعن ديار المسلمين .
العصر الحديث: ادى انهيار الامبراطورية الرومانية الغربية الى انهيار جهازها السياسي، واستحالة قيام الوحدة في اوروبا مره اخرى، حيث ساد النظام الاقطاعي. ولما قامت حرب المائة عام بين فرنسا وانجلترا (1337-1453) ازدادت اواصر القومية بين رعايا هاتين الدولتين وازداد شعور كل شعب بكيانه القومي . ثم تلا ذلك عصر النهضة الذى كان من نتائجه سعي الدول الى تدعيم سيادتها عن طريق خلق سلطة مركزية قوية باى ثمن، كما جاء في كتاب الامير لميكافيلي الذى قرر فيه ان السياسة يجب ان لا تقيد نشاطها بأية اعتبارات خلقية حتى لا يؤدي هذا التقيد الى عرقلة اهداف الدولة . وجاءت حركة الاصلاح الديني في مستهل القرن السادس عشر لتعزز الملكية المطلقة، ولتقضي على ما تبقى من سلطة الكنيسة الكاثوليكية في روما، مما ادى الى زيادة التجزئة وبروز الدول القومية نتيجة للحروب الدينية التى قسمت اوروبا الى دول مذهبية (كاثوليكية وبروتستانتية وارثوذكسية)، وهذا ادى الى مزيد من الحروب، و تصادم الفرقاء في حرب ضروس عمت كل اوروبا، استمرت ثلاثين عاماً، وعرفت بحرب "الثلاثين سنة" وانتهت بمعاهدة "وستفاليا" عام 1648، والتي شكلت اتجاهاً جديداً في العلاقات الدولية، وتأطيراً لنظرية الامن الجماعي الاوروبي، والتي استقت مبادئها من وحي الأديان وكتابات المفكرين، والفلاسفة الذين تأثروا بفلسفة اليونان المثالية خصوصاً افلاطون في كتاب "الجمهورية"، وتوماس مور في كتابه "اليوتوبيا" وغيرهما .
ظهور التنظيم الدولي:
كانت العلاقات في المجتمعات القديمة تقوم على أساس القوة لاستثمار الموارد، ولذلك كانت الحرب هي الوسيلة الأساسية أن لم تكن الوحيدة لحل المشاكل التي تواجهها المجتمعات وان الفصل للقوة والكلمة للمنتصر. وبذلك لايمكن تصور وجود تنظيم دولي او منظمات دولية تقوم بدورها بالرغم من عدم نفي وجود علاقات بين تلك المجتمعات فالحرب بذاتها هي نوع من أنواع العلاقات الدولية ألا أنها الصورة السلبية لها.
وامام التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وبضغط الحاجة للأمن والسلام والاستقرار والتقدم ولاسباب أخرى بدأت الدعوات تتصاعد ومنذ القرن الرابع عشر لايجاد منظمات دولية تتسم بصفة الثبات والاستقرار لتنظيم العلاقات بين الدول، وطرحت المشاريع لذلك منها المشروع الذي طرحه المشرع الفرنسي (بيير دي بوا) سنة 1305 م ومشروع الوزير الفرنسي (سلي) 1603 م لانشاء جمهورية مسيحية كبرى تضم جميع شعوب أوروبا، ثم مشروع الأب (سان بيير) 1713 م المقدم الى مؤتمر (أوترخت) لانشاء عصبة أمم أوربية.
معاهدة وستفاليا 1648
لم يبدأ اهتمام الدول بتنظيم علاقاتها على اساس من القواعد القانونية الثابتة الا منذ ثلاثة قرون، اي في اواسط القرن السابع عشر على اثر الحروب والمنازعات الاوربية التى انتهت بابرا معاهدة وستفاليا 1648م. وتعتبر هذه المعاهدة فاتحة عهد جديد للعلاقات الدولية ، حيث وضعت هذه المعاهدة القواعد والأسس لقيام الامن الجماعي واتخذت العلاقات الدولية بعدها اتجاه التعاون والمشاركة بدلاً من السيطرة والاخضاع، وأهم ما اوجدته المعاهدة ما يأتي:
• اجتماع الدول لأول مرة للتشاور وحلّ مشاكلها على اساس المصلحة المشتركة.
• اقرار المساواة بين الدول المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية، والغاء سلطة البابا الدنيوية.
• ارساء العلاقات بين الدول على أساس ثابت بإقامة سفارات دائمة لديها.
• اعتمدت فكرة التوازن الدولي كأساس للحفاظ على السلم وردع المعتدي.
• التأسيس لفكرة تدوين القواعد القانونية والزاميتها .
وهكذا كانت هذه المعاهدة قمة التطورالسياسي والقانوني في ذلك الوقت حيث انها لم تتضمن فقط مبدأ الحرية الدينية ومساواة البروتستنت بالكاثوليك في الاجتماعات الدولية، بل تضمنت مبدأ أنشاء سفارات دائمة، وهذا يعبر عن حقيقة اساسية هي تضامن المصالح والتعاون الدولي من اجل هذه المصالح ورعايتها. غير ان مبدأ انشاء سفارات دائمة لم يكن عاما اذ كان الهدف من تقريره هو تطبيقه بين الدول الاوربية المسيحية وحدها. ومن هنا نلاحظ الصفة الجزئية أي غير الشاملة لهذه الدبلوماسية. والواقع ان تفسير ذلك يرجع الى الفكرة التي سادت العالم المسيحي في ذلك الوقت والتي كانت ترى ان الجماعة الدولية قاصرة على الدول المسيحية وحدها.
مؤتمرات وأنظمة دولية
ادى تعاظم قوة بعض دول اوروبا كفرنسا الى الاخلال بهذه المعاهدة فتكاتفت الدول الاوروبية، وتجمعت في حرب ضدها في عهد لويس الرابع عشر، انتهت بعقد معاهدة "أوترخت" عام 1713، والتي اكدت على مبادئ معاهدة "وستفاليا" بعد اعادة تنظيم اوروبا. وفي عام 1776 م تم اعلان استقلال الثلاثة عشر مستعمرة انجليزية في أمريكا الشمالية، وترتب على هذا الاعلان ظهور فكرة رضا الشعوب عن حكامها التى تضمنها الدستور الامريكي، ثم جاء اعلان حقوق الانسان والمواطن الصادر عن الثورة الفرنسية الذي تضمن مبدأ الديمقراطية في الحكم الداخلي ومبدأ حق الشعوب في اختيار حكوماتها. وفي نفس الفتره صدر تصريح عن الجمعية الوطنية الفرنسية في 19 نوفمبر 1792 ورد فيه مساعدة فرنسا لكل الشعوب التي تريد التحرر. وكان من شأن كل هذا بدأ انتشار الحروب في اوروبا في ذلك الوقت بسبب الحروب النابليونية التى عملت على الاخلال بميزان القوى في القارة. ولذلك تكتلت الدول الاوربية ضد فرنسا وتمكنت في النهـاية من هزيمة نابليون بونابورت 1814 م.
مؤتمر فيينا 1815: كان همّ اعضاء المؤتمر اعادة التوازن الدولي في اوروبا على اساس إرجاع الملوك، الذين قضى بونابرت على سلطانهم، الى عروشهم، حيث عكس مؤتمر فيينا إرادة الدول المنتصرة في الحرب ضد نابليون (وهي إنكلترا والنمسا وبروسيا وروسيا) من دون الالتفات الى رغبات الشعوب ورأيها، والتي أثرت فيها مبادئ الثورة الفرنسية وأفكارها، ولذلك عقدت هذه الدول في ما بينها "التحالف المقدس" لقمع أي ثورة تهدد البيوت المالكة. وفي عام 1818 عقدت معاهدة "إكس لاشابل" بين الدول المذكورة بعد انضمام ملك فرنسا (لويس 18)، فيما نصبت هذه الدول نفسها قيمة على السياسة الأوروبية وأخذت حق التدخل في جميع المنازعات الأوروبية والدفاع عن نظام الملكيّة في كل مكان تراه مهدداً.
وقد امتد نشاط هذه الدول الاربعة خارج اوربا حيث قامت بتفتيت وتحطيم الدولة التركية خلال الفترة 1825 _ 1918، حيث تم دعوة تركيا لمؤتمر باريس 1856 م وهو اول مؤتمر دولي يسمح لتركيا بحضوره، حيث اتفقت هذه الدول على مساندة اليونانيين والصرب ورومانيا وغيرها من الدول ضد تركيا، وتعددت المؤتمرات في باريس وبرلين وكان اخرها مؤتمر لندن 1912-1913 بعد الحرب البلقانية الثانية.
وعندما حاولت الدول الاوروبية التدخل في الأراضي الأميركية لصالح اسبانيا اطلق الرئيس الاميركي جيمس مونرو تصريحاً شهيراً في عام 1823 يرفض فيه اي تدخل للدول الاوروبية في شؤون القارة الاميركية او احتلال اي جزء من أرضها، وبذلك وضع حداً لتدخل اوروبا في القارة الاميركية، واسس لنمط جديد للولايات المتحدة في علاقاتها الدولية مع أوروبا والعالم في ما بعد .
المؤتمر الأوروبي والنظام الدولي: شكل مؤتمر فيينا أساساً لتشكيل الجماعة الدولية الحديثة، فبدأ يتسع مع اتساع الحركة الدولية والثورة الصناعية وحركات الاستعمار، واستقلال الدول، وظهور القوميات، وبدأ يشمل دولاً غير مسيحية، نظراً لاتساع دائرة المشاكل وضرورة حلها، فكان يعقد مؤتمر في كل مناسبة ترى الدول الكبرى، او احداها ضرورة لذلك، او مصلحة لها في عقده، وهكذا سيطرت هذه الدول على السياسة الدولية وفرضت وجهة نظرها في النصف الشرقي من الكرة الأرضية، وبذلك سمي هذا النظام الدولي الذي كان يشرف على العالم بنظام "المؤتمر الأوروبي"، والذي تميّز بسياسة عقد المؤتمرات لحلّ المشاكل التي واجهت العالم خلال القرن التاسع عشر، واستمر حتى الحرب العالمية الاولى، وقد استطاع ان يؤسس للكثير من المعاهدات والقوانين التي ما زالت في الكثير منها قائمة حتى اليوم، كاتفاقيات جنيف 1864 الخاصة بمعاملة جرحى الحرب واتفاقيات لاهاي 1899 و1907 الخاصة بقواعد الحرب والحياد، وتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، وكذلك محكمة التحكيم الدولي الدائمة في لاهاي.
مؤتمر لاهاى وفض المنازعات بالطرق السلمية
لاشك ان مؤتمري لاهاي يمثلان اهمية خاصة بالنسبة للتنظيم الدولي واللذان عقدا 1899-1907 واسفرا عن اتفاقيات دولية تحمل اسم هذا المؤتمر كان لها اعظم واخطر النتائج والاثار في تطور القانون الدولي حيث اقرت لاول مرة في العلاقات الدولية نضاما لفض المنازعات الدولية بالطرق السلمية أنشأت لاول مرة كذلك هيئة قضائية دولية هي محكمة التحكيم الدولي الدائمة في لاهاي كمـا انضمت ودونت قواعد الحرب والسلم الدولي. وبالاضافة الى ذلك عرفت العلاقات الدولية تنظيمات من نوع اخر تلك هي التنظيمات الادارية والاقتصادية الدولية مثل اتحادات البريد والتلغراف والسكك الحديدية .
عصبة الأمم المتحدة: لم يستطع المؤتمر الاوروبي بالرغم من كل هذه المؤتمرات في المضي قدما في تحقيق ماكانت تعقد عليه الانسانية من امال في اقرار الامن والاستقرار والتقدم وسيادة حكم القانون في المحيط الدولي. فقد ادى التنافس الاقتصادي، ونمو الشعور القومي، والرغبة في السيطرة لدى الدول الأوروبية الكبرى الى الحرب العالمية الأولى 1914، والتي استمرت اربع سنوات رأت فيها البشرية الويلات، والكوارث، وقد دفعها ذلك مع نهاية الحرب مطلع عام 1919، وخلال عقد مؤتمر فرساي في باريس الى خلق تنظيم دولي جديد عرف باسم "عصبة الأمم" لمنع الحرب وفض المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، وهذه الفكرة كانت تخالج نفوس الكثير من السياسيين والمفكرين منذ زمن بعيد، وهي ايجاد هيئة دولية عليا ودائمة تتولى النظر في علاقات الدول وتعمل على توطيدها، وتكون اداة لحفظ السلام العام وحلّ المنازعات بالطرق السلمية وعبر المفاوضات، والعمل على تخفيض التسلح.
منظمة الأمم المتحدة: ايضاً لم تثمر الجهود التي بذلتها العصبة لصيانة السلم الدولي، ولم تستطع المواثيق والمعاهدات التي ابرمت تحت جناحها، منع وقوع الصدام بين الدول وقيام الكثير من الحروب المحلية، كما عجزت عن منع، او ايقاف الكارثة الكبرى التي تمثلت في اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، والتى كانت شاملة، أصابت بنتائجها دول العالم المحاربة، وغير المحاربة، وقد استمرت ست سنوات، وكادت تقضي على النظام العالمي كله، ولما انتهت الحرب، تداعى زعماء الدول المنتصرة الى مؤتمر عقد في سان فرنسيسكو في الولايات المتحدة عام 1945 ووضعوا ميثاقاً جديداً للعلاقات بين الدول وتحريم اللجوء الى الحرب الا دفاعاً عن النفس، وتسوية النزاعات بالطرق السلمية، وفرض الجزاء والعقوبات على المخالفين، واوكلت هذه المهمة الى هيئة دولية دعيت "منظمة الأمم المتحدة" تستند على ميثاق مكتوب يتضمن كافة الأمور الاجرائية والادارية الضرورية للقيام بدورها على اكمل وجه .
وهكذا تحققت على ارض الواقع لأول مرة تلك الفكرة المثالية في تأمين الأمن الجماعي من خلال هيئة دولية قادرة على فرضه عبر مجموعة من القواعد الملزمة، والتي وافقت الدول المؤسسة على احترامها والالتزام بها، وتشجيع كافة الدول الأخرى على الانضمام الى هذه المنظمة الدولية الجديدة، حيث جاهدت المنظمة الدولية، كي تبقى وفية لميثاقها، ملتزمة بالقوانين التي سنت لحماية الامن الدولي، ونشر العدالة بين البشر، من خلال الأجهزة والفروع التابعة لها، ولكن الواقع الدولي، وصراع القوى الكبرى، ولعبة التوازن، والمصالح الخاصة بهذه القوى، أثر مباشرة على دور المنظمة وفعاليتها، وربما هذا ما يدفع كثير من الدول الى المطالبه باصلاح المنظمة الدولية من جديد لتكون معبره عن مصالح وتطلعات اعضائها والانسانية جمعاء في صيانة الامن والسلم الدوليين وليس من اجل تحقيق مصالح الدول الكبرى فقط والذي يمكن ان يؤدي الى كارثه جديده تحل بالعالم اذا استمر الوضع كما هو عليه الآن.

الفصل الثاني
الصراع الدولي ووسائل ادارة الازمات
تنفرد ظاهرة الصراع الدولي عن غيرها من ظواهر العلاقات الدولية بأنها ظاهرة ديناميكية متناهية التعقيد، ويرجع ذلك إلى تعدد أبعادها ، وتداخل مسبباتها ومصادرها، وتشابك تفاعلاتها وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة ، وتفاوت المستويات التي تحدث عندها وذلك من حيث المدى أو الكثافة والعنف . إضافة إلى ذلك الاختلاف الجذري أحيانا في طبيعة استراتيجيات إدارة الصراع الدولي التي تنتهجها الأطراف في هذ العمليات التصارعية المستمرة ، سواء ما تعلق من ذلك بالأهداف والأساليب والوسائل، وكل ذلك ادى الى صعوبة وضع نظرية عامة للصراع الدولي تستطيع أن تؤصل دوافعه وأسبابه وكذا سبل مجابهته واحتوائه في إطار من الشمول والتكامل المنطقي . بيد أن ذلك يجب ألا يقلل من المجهودات الأكاديمية الهائلة التي بذلت من أجل تهيئة الأساس العلمي لمثل هذه النظرية الصراعية المتكاملة والتي تبلورت في بعدين أساسيين:
1- المداخل والمنطلقات النظرية الرئيسة المستخدمة في تفسير الصراع الدولي وذلك من حيث تقرير أسبابها ودوافعها والقوى المحركة التي تكمن وراءها.
2- أهم نظريات المجابهة والاحتواء لهذه الظاهرة في كلياتها وذلك من حيث الكيفية التي يمكن للمجتمع الدولي معالجتها من الجذور في نطاق تدابير دولية عامة تستهدف في أساسها التمكين للسلم الدولي في صورة ومستقرة .
إدارة الأزمات الدولية في المجتمع الدولي المعاصر
إن بروز خلافات وصراعات ومواجهات بين الدول تشكل تحديا حقيقيا يواجه أصحاب القرار، نظرا لتضارب المصالح في المجتمع الدولي. وتأتي إدارة الأزمات كوسيلة لدرء وتلافي المواجهات العسكرية الوخيمة العواقب، وهي تقنية قديمة اعتمدت على سبل تقليدية كالمفاوضات تم تطويرها في العقود الأخيرة لتعتمد طرقا فنية وتقنيات عالية الدقة والفعالية، والغاية من إدارة الأزمات هو تجنب حدوث مواجهة عسكرية قد لا يتوقعها أطراف النزاع عند بداية الأزمة. وتقنية إدارة الأزمات لها قواعدها وضوابطها وهي في هذا الجانب علم، ولكن تطبيق هذه القواعد بما يتواءم والظروف الضاغطة والمتقلبة والمواقف المفاجئة والمتسارعة التي يفرضها الأطراف يتوقف على قدرة خلاقة لصاحب القرار أو مدير الأزمة، ولذلك فهي من هذه الناحية فن يتعلق بموهبة القيادة التي لا يمكن أن تكتسب بالمعرفة أبدا وإن كانت المعرفة تصقلها وتهذبها وتعمقها
مفهوم الأزمة
يهدف أسلوب إدارة الأزمات الدولية أساسا إلى منع تفاقم المشاكل الدولية والحؤول دون تطورها إلى مواجهة عسكرية مباشرة, عبر وسائل متنوعة, وبذلك يقترب من تسويـة المنازعات بل يكاد يتمـاهى معـه أحيانا، ولهذا سنحاول تسليط الضوء على هذا الأسلوب من خلال التطرق بداية لمفهوم إدارة الأزمات قبل الانتقال إلى تحديد الوسائل الدوليـة لإدارة هذه الأزمات .
إن مصطلح الأزمة هو مصطلح قديم, تداوله الفكر اليوناني الذي كان يقصد به نقطة تحول في الأمراض الخطيرة والقاتلة التي تؤدي إلى الموت المحقق أو الشفاء التام، كما استخدم في الصين في شكل كلمتين (wet- ji ) أولا هما تعبر عن الخطر والثانية عن الفرصة , أما دلالتها على المستوى الدولي فهناك من يعرفها بأنها "فعل أو رد فعل إنساني يهدف إلى توقف أو انقطاع نشاط من الأنشطة أو زعزعة استقرار وضع من الأوضاع بهدف إحداث تغيير في هذا النشاط أو الوضع لصالح مدبره" . ويعرفها آخر بانها: "مرحلة الذروة في توتر العلاقات في بيئة استراتيجية وطنية أو إقليمية أو دولية, بحيث يصبح أطراف تلك العلاقات قاب قوسين أو أدنى من الحرب" .
ومن هنا فأن "الأزمة هي مرحلة متقدمة من مراحل الصراع، والصراع في أي مظهر من مظاهره وعلى أي نطاق من نطاقاته، بدءا من داخل النفس البشرية وانتهاء بالصراعات الدولية" وهذا يعني بأن أشكال الصراع مختلفة الأسباب والدوافع، ويمكن تعريفه بكونه: "ذلك التفاعل الناجم عن المواجهة والصدام بين المصالح والمعتقدات والبرامج وغير ذلك من الكيانـات المتنازعة "
ولما كان الصراع في صميمه هو تنازع الارادات الوطنية الناتجه عن الاختلاف في دوافع الدول في تصوراتها واهدافها وتطلعاتها ومواردها وامكانياتها .. الخ مما يؤدي الى اتخاذ سياسات خارجية تختلف اكثر مما تتفق، ولكن برغم ذلك يظل الصراع بكل توثراته وضغوطه دون نقطة الحرب المسلحة. وهذا يعنى ان الصراع يمكن ان تتنوع مظاهره واشكاله، فقد يكون صراعا سياسيا او اقتصاديا او مذهبيا او حضاريا، كما ان ادواته يمكن ان تتدرج من الضغط والحصار والاحتواء والتهديد والعقاب والتفاوض والمساومة والاغراء والتنازل والتحالف والتحريض والتخريب والتآمر .. الخ، اما الحرب فإنها لا يمكن ان تتم الا على صورة واحدة وباسلوب واحد هو التصادم الفعلى بوسيلة العنف المسلح حسما لتناقضات جذرية لم يعد يجدى معها الاساليب اللينه، ومن هنا فإن الحرب المسلحة تمثل نقطة النهاية في تطور بعض الصراعات الدولية .وبذلك تختلف الأزمة عن الحرب التي تعرف بتلك المواجهة العسكرية التي تتم لفترة طويلة أو قصيرة باستخدام قوات مسلحة وتسفر عن ضحايا.
وعموما يمكن استخلاص مجموعة من الخصائص التي تميز الأزمة الدولية:
• فهي محطة تحول حاسم غالبا ما يتصف بالفجائية في نسق داخلي أو دولي, يهدد مصالح دولية معينة و يثير نوعا من الذهول والقلق في أوساط الأطراف المعنية بها.
• تتسم بالتعقيد والتشابك في عناصرها وأسبابها وتستقطب اهتماما دوليا كبيرا.
• تتطلب جهدا كبيرا لمواجهتها وذلك لتلافي تطوراتها السلبية التي قد يمتد خطرها للمستقبل.
• وهي نتاج لتراكم مجموعة من التأثيرات السابقة التي لا يتم حسمها .
• تطرح نوعا من الارتباك والشك في الخيارات المطروحة للتعامل معها خصوصا, في ظل غياب معلومـات كـافية حولها.
• قد تخلق حالة من التوتر العالمي خلال فترة زمنية قصيرة, خصوصا في ظل العلاقات الدولية المتشابكة والمعقدة حاليا . .
أما عن الأسباب التي تقف وراء نشوب الأزمات فهي متعددة ويمكن إجمالها في:
• وجود بؤرة خلاف لم تحسم رغم مرور الوقت.
• وجود حالة من تعارض المصالح والأهداف بين الدول.
• تنامي الإشاعات بين الدول
• بروز أزمات مدبرة ومخطط لها بهدف تحقيق أهداف استراتيجية معينة .
• الأخطاء البشرية الناجمة عن سوء الفهم وسوء التقدير أو سوء الإدارة إلى جانب اليأس.
• الميل إلى استعراض القوة من قبل دولة تجاه دولة أخرى قصد ابتزازها وإحراجها.
• خرق الدول للاتفاقيات القائمة بينها.
بقي أن نشير إلى أن لكل أزمة دولية طرفان: الأول هو الذي خرج عن الوضع السلمي الطبيعي القائم مع الطرف أو الأطراف الأخرى ويعرف بمفجر الأزمة, بينما الطرف الثاني فهو الذي تستهدفه الأزمة ويفترض فيه أنه هو الذي يواجهها.
في مفهوم إدارة الأزمات الدولية
إذا كانت الأزمة – كما رأينا- هي حالة يمكن أن توصف بالاقتراب من خروج الأمور عن نطاق التحكم والسيطرة، فإن مواجهتها ينبغي أن تتم بسرعة وبطرق ذكية وإجراءات رشيدة لتفادي تطور المواقف إلى نزاع مسلح مباشر، وهي العملية التي تدخل في إطار ما يسمى بإدارة الأزمات التي يعرفها أحد الباحثين بكونها: "كيفية التعامل والتغلب على الأزمة بالأدوات العلمية المختلفة وتجنب سلبياتها والاستفادة منها مستقبلا . في حين يعرفها باحث آخر بأنها: "قدرة نظام صنع القرارات سواء على المستوى الجماعي أو الفردي للتغـلب على مقومـات الآليـة البيروقراطية الثقـيلة التي تعـجز عن مـواجهة الأحداث والمتغيرات المتلاحقة والمفاجئة... في محاولة لموازنة المجابهات أو المنازعات بقصد الحفاظ على المصالح المشتركة دون اللجوء للحرب .
ولكن تبقى نتائج هذه الإدارة رهينة بكفاءة مدير الأزمة وفعالية استراتيجيته المتبعة في هذا الشأن، حيث إن ظهور الأزمة للوجود يضع الطرف الذي يواجهها أمام هدفين أو مطلبين: الأول، هو حماية المصالح والأوضاع القائمة بأقل تكلفة مادية وبشرية، والثاني هو العمل قدر المستطاع على تجنب الدخول في غمار مواجهة عسكرية مكلفة.
ورغم أن بعض المفكرين متشائمون حيال احتمال تحقق تطور نظري يعزز تقنية إدارة الأزمات في ظل العراقيل البيروقراطية والتنظيمية خلال بروز الأزمة مما قد يؤثر سلبا على اتخاذ القرارات بشكل عقلاني، فإن هذه العملية يمكن أن تستمد نجاعتها وفعاليتها من قوة الطرف الذي يدير الأزمة وتناسق استراتيجيته في هذا الصدد من خلال:
• طرح الهدف ومحاولة السيطرة على الأفعال الصادرة عن الأطراف أو الطرف المعتدي وردود أفعال الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى.
• مرونة القرار السياسي وملاءمته للأهداف البديلة المرسومة.
• توفير البدائل والخيارات، وتجنب العقبات التي قد تبرز.
• ترك هامش للتحركات السياسية تضمن "حفظ ماء الوجه" لدى الخصم .
ومن جهة أخرى يتطلب إنجاح هذه العملية دراسة الأزمة على ضوء عناصرها الموضوعية وأسبابها الحقيقية، وعدم الاكتفاء بإلقاء مسؤولية بروزها على عاتق الخصم، ومحاولة تبرئة الذات من ذلك، لأن نجاح هذه الإدارة لا يتحقق بالدفاع عن الذات وتبرئتها وتحميل عاتق الخصم المسؤولية كاملة، خصوصا وأن ذلك يمكن أن يزيد من تعنت الطرف الآخر ويؤدي بالطبع إلى طريق مسدود .
إن النتائج التي تقود إليها أية أزمة هي الحرب أو التسوية السلمية، وهذه النتائج لا تستند إلى مصادفات بقدر ما ترتكز سلبا أو إيجابا إلى المقومات الشخصية لمدير الأزمة من ناحية وإرادته ومدى كفاءة أو رداءة استراتيجيته المتبعة في إدارة هذه الأزمة
كيفية ممارسة الدول لقوتها القومية والادوات المستخدمة
1- الاقناع : وهو اسهل الاساليب واكثرها فاعلية في ممارسة الدولة لقوتها هذا فضلا عن انه ارخص الوسائل كلها واقلها مخاطره على الاطلاق. وهو من الوسائل المحببة للدول الصغرى حيث لا تملك الكثير من وسائل القوة الاخرى
2- اسلوب الاغراء : وهو تقديم اغراءات للدول الاخرى تختلف في طبيعتها وتتنوع طبقاً للموقف الذي تقدم فيه، فاحياناً تكون اغراءات نفسية او اقتصادية او سياسية
3- اسلوب توقيع العقوبات : وهو اسلوب شائع جدا في المجتمع الدولى ومن امثلتها العقوبات الاقتصادية والسياسية وفرض قيود على الهجرة والنقل والتجارة .. الخ
4- - اسلوب استخدم القوة المسلحة: بالتجاء الدولة الى استخدام اسلوب القوة المسلحة، فانها تكون قد اجتازت الحد الفاصل بين العقوبات غير المبنية على العنف العسكرى الى القوة السافرة
ولكن كيف يمكن للدولة ان تختار بين الاساليب المختلفة حين تضطر الى استعمال قوتها القومية.
كقاعدة عامه فان هذا الاختيار يتحدد في المقام الاول بطبيعة العلاقة القائمة بين الدولتين اللتين تكونان طرفا في النزاع:
1- ففي حالة وجود اتفاق تام بين الدولتين، فانه من البديهي والطبيعي الا يكون هناك مجال لاستخدام القوة المسلحة على اى نحو (بريطانيا وامريكا).
2- عدم وجود اتفاق بين الدولتين، ولكنه غير تأثير حاسم في علاقة الدولتين ببعضهما، اذ توجد حالة من الاتفاق في مجالات اخرى متعددة، وهنا يبرز اسلوب الاقناع كافضل الطرق المتبعه في ممارسة الدولة لقوتها، او اسلوب الاغراءات
3- عدم وجود اتفاق بين الدولتين، ولكن بصوره اشد من الحالة السابقة، وهنا يكون اسلوب الاغراءات كبديل افضل لاسلوب الاقناع، واوضح مثال لذلك اسلوب المعونات الاقتصادية الخارجية.
4- يغلب طابع الاختلاف وعدم الاتفاق على علاقة الدولتين، وهنا يمكن التركيز على اسلوب التهديد بتوقيع العقوبات اكثر من التركيز على تقديم الحوافز والاغراءات.
5- تصل العلاقة الى درجة العداء وهنا يتم اللجوء الى القوة العسكرية لتحقيق مصالح الدولة .
المراحل التى يسلكها الصراع الدولى : اتجاه التصاعد واتجاه التناقض، واتجاه الاستقرار، واتجاه التلاشي او النتهاء . وتصاعد الصراع يعنى الزيادة في ناحية المدى والكثافة، اى اتساع حدود الصراع وارتفاع درجة التوثر فيه. اما تناقص الصراع فهو يعنى الانخفاض في الكثافة والانكماش في المدى
الوسائل السلمية لإدارة الأزمات الدولية
أمام تنامي أوجه الصراع والأزمات على الساحة الدولية سواء في مظاهرها الإقليمية أو الدولية، ابتدع المجتمع الدولي مجموعة من الوسائل لاحتوائها وتطويقها أو التخفيف من حدتها, وقد عددت المادة الثالثة والثلاثون من الميثاق الأممي هذه الوسائل وسمحت للدول بحرية اختيار إحداها. وتتنوع هذه الوسائل بين وسائل دبلوماسية, قضائية وقهرية.
الوسائل الديبلوماسية
تندرج هذه الوسائل ضمن أقدم السبل التي التجأت إليها الدول لحل منازعاتها وإدارة أزماتها, وقد عرفت تطورا ملحوظا على مستوى آلياتها وفعاليتها, ولا تزال الممارسة الدولية تشهد على نجاعتها في احتواء العديد من المشكلات الدولية. وتتمحور هذه الوسائل حول المفاوضات, المساعي الحميدة, الوساطة, التحقيق, التوفيق, وعرض المنازعات على المنظمات الإقليمية والدولية.
الوسائل القانونية
على خلاف الطرق السياسية التي تفتقر إلى الصفة الإلزامية, فإن الطرق القانونية أو القضائية تتميز بإصدار قرارات ملزمة تتقيد الدول المعنية بتنفيذها واحترامها, وتصدر هذه القرارات إما عن هيئات التحكيم أو عن محاكم دولية دائمة.
التحكيم الدولي
يعد التحكيم بمثابة فحص ونظر في النزاع وجذوره من قبل شخص أو هيئة يلجأ إليها المتنازعون أنفسهم, مع التزام مسبق بتنفيذ القرار الذي سيصدر في النزاع, وبهذا فسلطة الحكم كسلطة القاضي وقراره بمثابة حكم قضائي له صفة الإلزام, ومعلوم أن اللجوء إلى هذا الإجراء الذي أثبت فعاليته في حل العديد من الأزمات الدولية, يتم بناء على رضى طرفي أو أطراف الأزمة.
القضاء الدولي من خلال محكمة العدل الدولية
إذا كانت قرارات التحكيم تصدر عن هيئات عرضية, فإن القرارات القضائية تصدر عن أجهزة دائمة, وتعد محكمة العدل الدولية إحدى الأجهزة الرئيسية للأمم المتحدة, هذا فضلا عن كونها الجهاز القضائي الأساسي لهذه الهيئة.
الوسائل الزجرية
قد يصبح اللجوء إلى الوسائل الزجرية والإكراهية ضرورة ملحة عند فشل الطرق الودية في إدارة أزمة دولية معينة, وتتنوع هذه الوسائل بين الضغوطات الاقتصادية والسياسية والعسكرية كحل أخير.
الضغوطات الاقتصادية والسياسية
للجانب الاقتصادي أهمية قصوى في العلاقات الدولية, وقد يكون اللجوء إلى هذا النوع من الضغوطات بشكل مباشر أو غير مباشر عاملا حاسما في التخفيف من حدة تصاعد الأزمة أو إنهائها، وتتنوع هذه الضغوطات بدورها إلى المقاطعة، الحصار الاقتصادي, الحظر، الحجز على الأموال بالخارج. ومعلوم أن استعمال هذه الضغوطات أصبح يعرف حركية كبيرة في ظل التحولات الدولية الأخيرة رغم ما يخلفه من آثار إنسانية صعبة.
أما الضغوطات السياسية فيمكن بدورها دورا مهما في هذا المجال, وتتركز هذه الضغوطات في الحملات السياسية الدعائية التي تستهدف الطرف الخصم في إطار ما يعرف بالحروب النفسية, أو الحد والتقليص من حجم البعثات الديبلوماسية للخصم في الخارج, وحرمانها من بعض الامتيازات الدولية من قبيل منع انضمامها لبعض المنظمات والاتفاقيات..
دور القوة العسكرية والمعلومات في إدارة الأزمات الدولية
إن إدارة أية أزمة دولية بشكل فعال يتطلب إمكانيات بشرية ومادية وعسكرية وسياسية مهمة, لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل يمكن توظيف القوة إلى جانب الديبلوماسية في إدارة الأزمات الدولية؟ أم أن من شأن ذلك تعميق الأزمة والإسراع بإشعال الحرب غير المرغوب فيها؟
من الحقائق الثابتة في علم العلاقات الدولية أن القوة أداة للديبلوماسية، وبذلك فإن "جزءا من إدارة أية أزمة هو بلورة وسائل وسياسات وضغوط أخرى أمنية تجعل الذي يفكر في الاعتداء يتردد" . ويعتقد بعض الباحثين أن الممارسة الدولية تؤكد على ضرورة استعمال القوة العسكرية لردع الخصم أثناء تصعيد الأزمة مع تجنب العمليات التي يمكن أن يفسرها الخصم بأنها استعداد لأعمال قتالية . كما أن ميثاق الأمم المتحدة ورغم أنه حرم اللجوء إلى القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية, خول لمجلس الأمن التدخل عسكريا في إطار نظام الأمن الجماعي وذلك في حالة تطور الأزمات والمنازعات الدولية بشكل يهدد السلم والأمن الدوليين، خصوصا بعد استنفاذ محاولات إدارة الأزمة سلميا, أو عبر الضغوطات غير العسكرية (المادة 42 من الميثاق) وسمح للدول ممارسة حقها في الدفاع الشرعي الفردي أو الجماعي عن النفس (المادة 51 من الميثاق الأممي).
فهناك ضرورة للمزج في هذا الإطار بين سياسة الترغيب والمساومة والمفاوضات عن طريق تقديم العروض والتنازلات لحمل الخصم على وقف الإثارة من جانبه أو لإرغامه على القبول والإذعان للمطالب المرجوة من ناحية، والترهيب الذي يتم عبر استخدام القوة والأعمال الزجرية غير العسكرية الأخرى أو التهديد باستعمالها من ناحية ثانية، وبخاصة وأن للقوة أهميتها –أحيانا- في الدفاع عن المصالح المهددة بأقل ما يمكن من الخسائر المادية والبشرية، مع الاحتفاظ بقنوات الاتصال مفتوحة - طبعا-, وتجنب الارتجال في اتخاذ القرارات للحؤول دون إقدام الطرف الآخر على القيام بعمل عسكري قد يفشل إدارة الأزمة تماما. وفي نفس السياق يشير البعض إلى أن الكلام الذي لا يستند إلى إمكانيات حقيقية عديم التأثير على طرف يجيد حساباته .
والجدير بالذكر أن عنصر الردع الذي يعرف بالتهديد باستخدام السلاح دون استعماله فعليا, أسهم بشكل كبير وفعال في إدارة العديد من الأزمات بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة، وإذا كان الردع وسيلة معهودة استخدمت على نطاق واسع في إدارة الأزمات بين القوى الدولية الكبرى في إطار "توازن الرعب"، فإن هذه الأخيرة – حاليا- قد تلجأ مباشرة وبسهولة إلى استعمال القوة العسكرية في إدارة الأزمات التي تكون الدول الضعيفة طرفا رئيسيا فيها إلى جانبها. فمدير الأزمة قد يلجأ إلى التهديد باستعمال القوة أو استخدامها فعلا إذا كان توازن القوة في صالحه، بحيث يجد نفسه مضطرا إلى اختيار الممكن من بين عدة بدائل قد تكون صعبة وسيئة بناء على منطق معادلة الربح والخسارة.
وإذا كانت فترة الحرب الباردة قد شهدت استثمارا للقوة في إدارة العديد من الأزمات الدولية عبر سياسة الردع، فقد أصبح واضحا أن استخدامها حاليا هو أكثر سهولة وكثافة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها بعد اختفاء تحدي المعسكر الشرقي.


الفصل الثالث
الوسائل السلمية لفض المنازعات في القانون الدولي المعاصر
مر القانون الدولي بمراحل متعددة، حيث أنبثق من الاديان المختلفة، كما وجد في فكر الفلاسفة والاصلاحيين الى أن بدأ يتقنن من خلال المعاهدات، والاتفاقات الدولية. ومن المعروف أن تسمية (القانون الدولي العام) ترجع إلى الفيلسوف الإنجليزي (بنتام)، الذي أطلق على مجموعة القواعد التي تحكم علاقات الدول اسم. القانون الدولي، وبذلك يمكن تعريف القانون الدولي بانه "مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول وتحدد حقوق كل منها وواجباتها". ويذهب (شتروب) إلى وصف القانون الدولي العام بأنه: "مجموعة القواعد القانونية، التي تتضمن حقوق الدول وواجباتها وحقوق وواجبات غيرها من أشخاص القانون الدولي". في حين يذهب (شارل روسو) إلى أن: "القانون الدولي العام هو ذلك الفرع من القانون الذي يحكم الدول في علاقاتها المتبادلة" .
ويعتبر منظرو السياسة الدولية ان اعلى منافع البشرية وخيرها يوجد في سيادة القانون: القانون الدولي، والقانون الخاص، وضرورة تطبيق القوانين التي اتفق عليها ، هذا بالرغم مما تثيره قواعد القانون الدولي من تساؤلات حول طبيعتها القانونية، بسبب عدم وجود مشرع وسلطة قضائية تنفيذية، وعدم وجود جزاء يترتب على مخالفتها . وهنا يرى كثير من فقهاء القانون الدولي أن عدم وجود مشرع، وقضاء دولي، وجزاء لا ينفي الصفة القانونية عن القواعد الدولية، ولكن مع ذلك فإن القوانين الدولية تختلف عن القوانين الداخلية في كونها تنشأ عن طريق التراضي بين الدول، خصوصاً وأن العالم بدأ يشعر بحاجته للقواعد الدولية، وحاجته للمنظمات الدولية، (بسبب تزايد إيمان الدول بأهمية التضامن بينها لأجل أمن وتعاون دولي في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية) .
فقد ظلت فكرة حماية العالم من ويلات الحروب عالقة لدى جميع الشعوب منذ العصورالقديمة، إلا أن إضفاء طابع السلمية على النزاعات الدولية، شهد تطورًا هائلاً في القرن العشرين، وكان الحدث الحاسم في ذلك هو مؤتمري السلام عامي 1899 و1907 في لاهاي. فمع انتشار ظاهرة التنظيم الدولي خلال الفترة الموالية للمؤتمرين سالفي الذكر اكتسبت قضايا المحافظة على السلام والأمن والتسوية السلمية للمنازعات أهمية خاصة، إذ أصبحت من بين المقاصد الأولى لأية منظمة دولية، كما توفرت القناعة لدى المهتمين بأمور التنظيم الدولي بأن وجود أي نظام قوي وفعال يختص بوظيفة التسوية السلمية للمنازعات يعتبر أحد المقومات الموضوعية المهمة التي تستند إليها المنظمات الدولية عموما في مجال الاضطلاع بالمهام المنوطة بها . ولهذا فقد بدأ منذ أكثر من خمسين عاماً عقل جمعي دولي لإقرار قواعد (القانون الدولي العام)، التي تحث الدول على نبذ الحرب، والالتجاء إلى الطرق السلمية لفض المنازعات، والحفاظ على السلم والأمن الدوليين ، مع إقرار حق الدول في الدفاع الشرعي لرد العدوان، واستعمال العنف كوسيلة لدفع الخطر إذا لم تنجح الوسائل السلمية لحل النزاعات بين الدول .
تسوية المنازعات الدولية
إن الوسائل الدولية لإدارة الأزمات متعددة ومتباينة وتتنوع إلى وسائل ديبلوماسية (المفاوضات، المساعي الحميدة والوساطة، التحقيق، التوفيق، عرض المنازعات على المنظمات الدولية والإقليمية…) وقانونية (التحكيم الدولي والقضاء الدولي) وزجرية (الضغوطات الاقتصادية من حظر وحصار ومقاطعة وتجميد للأموال أو حجزها في الخارج، أو سياسية وديبلوماسية أو اللجوء إلى القوة العسكرية كخيار أخير…)، ولقد عددت المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة في فقرتها الثانية مختلف هذه الوسائل ، كما نص الميثاق في مواضع أخرى منه على وجوب عرض النزاع إذا استعصى حله بإحدى هذه الوسائل المذكورة سابقا، على الهيئة الدولية لتوصي بما تراه مناسبا بشأنه، كما بينت الاتفاقيات الدولية الكبرى التي أبرمت منذ مؤتمر لاهاي لإقرار السلام الكثير من هذه الوسائل وما يتصل بها من إجراءات وأحكام، فتكلمت اتفاقية لاهاي الأولى سنة 1907 عن الوساطة والمساعي الحميدة والتحقيق والتحكيم ، وسرد النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية كل ما يتصل بالسبل القضائية, وعالجت معاهدة التحكيم العامة المبرمة في جنيف سنة 1928 موضوع التوفيق، كما تعرضت أيضا للقضاء والتحكيم.
التسوية السلمية للمنازعات الدولية
يصل عدد الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة حوالي (190) دولة وهناك دول أخرى وإن كانت قليلة ليست أعضاءً في المنظمة الدولية، وبسبب كثرة عدد الدول في العالم وتضارب مصالحها وأهدافها فإن النزاع بين دولة وأخرى أوبين عدد من الدول أمر وارد في كل وقت وذلك أن العلاقات بين الدول ليست دائماً مستقرة وهادئة وكثيراً ما يؤدي تعارض المصالح والتوجهات إلى قيام النزاع، والحكمة المتوخاة حسب الشرائع السماوية والمواثيق الدولية عند قيام النزاع بين دولتين أو أكثر هو اللجوء إلى لغة العقل بأن تسعى هذه الدول المتنازعة إلى حل النزاع بالطرق الودية أو السلمية وألا يتم اللجوء إلى أسلوب العنف أو الحرب في حل النزاع إلا في حالات الضرورة القصوى.
وقد حرص المجتمع الدولي على ضرورة الأخذ بالخيار الأول وهو السعي لحل الخلافات والنزاعات بالطرق السلمية حيث تم تأكيد ذلك في مؤتمر (لاهاي) الذي عُقد سنة 1899م، الذي حضره محبو السلام من ساسة العالم حيث أسفر هذا المؤتمر عن مجموعة من المبادئ لتسوية المنازعات الدولية إضافة إلى ما ورد فيما بعد في عهد عصبة الأمم التي أنشئت سنة 1919م وما ورد في ميثاق هيئة الأمم المتحدة التي أُنشئت سنة 1945م. ويستخلص مما ورد في هذه المواثيق الدولية أن حل الخلافات والمنازعات الدولية بالطرق السلمية يتم حسب الخطوات الآتية :
• استخدام طرق التسوية الودية ذات الصبغة الدبلوماسية (المفاوضة والمساعي الحميدة والوساطة والتحقيق)
• اللجوء إلى الطرق القضائية (بواسطة هيئات التحكيم أو محكمة العدل الدولية).
• فرض ميثاق الأمم المتحدة على الدول الأعضاء عرض كل نزاع أخفقت الدول في حله على مجلس الأمن، ونصت المادة الثانية (فقرة 3) من ميثاق الأمم المتحدة على أنه يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية، على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر .
ويبدو من ذلك أن هناك العديد من الوسائل التي يمكن اللجوء إليها لتسوية المنازعات، فهناك:
اولاً: وسائل التسوية السياسية والدبلوماسية .
ثانياً: وسائل ذات الصبغة القانونية أو القضائية.
كما انه هذه الوسائل يمكن تقسيمهما الى عدة انواع بحسب الاطراف التى تشارك فيها وهي :
• الوسائل التي تقتصر على أطراف النزاع: التفاوض
• الوسائل التي تتضمن تدخل الغير الذي لا يملك حسم النزاع: المساعي الحميدة - الوساطة-التحقيق-المصالحة أو التوفيق.
• الوسائل التي تنطوي على تدخل الغير الذي يملك حسم النزاع (مثال محكمة العدل الدولية)
• اللجوء إلى المنظمات الدولية (مثال مجلس الأمن)
اولاً: وسائل التسوية السياسية والدبلوماسية
1- المفاوضة
إن التفاوض عملية قديمة قدم التاريخ، ولقد عرفت الحضارات البشرية التفاوض بقصد تحقيق الأهداف السياسية، والمنافع الاقتصادية، وأحياناً، الغايات العقائدية. فاستخدمت الأقوام التفاوض في تنظيم العلاقات فيما بينها، ومع غيرها. كما أن المفاوضات العسكرية كانت أسلوباً شائعاً، نتيجة كثرة الصدامات المسلحة التي كانت تنشب، فيما بين القبائل، أو المدن، أو الدول أو الشعوب، أو الأمم. وهكذا شاع أسلوب المفاوضة في السلم، وفي الحرب. وهي تقوم على تلاقي مسؤولين من الجهتين المتنازعتين لبحث اسباب النزاع وعناصره، بقصد التوصل ‏الى حله. وقد تجري المفاوضة عن طريق مؤتمر دولي يجمع الجبهتين المتنازعين مع غيرهما.
المفاوضة، وهي تبادل الرأي بين دولتين متنازعتين بقصد الوصول إلى تسوية للنزاع القائم بينهما. ويقوم بالمفاوضة عادة المبعوثون الدبلوماسيون للدول الاطراف في النزاع عن طريق اتصال كل منهم بوزير خارجية الدولة الاخرى . أو عن طريق مندوبين مخصصين لهذا الغرض إذا كان النزاع ذا أهمية خاصة ويكون تبادل الآراء بين المفاوضات شفهياً أو كتابياً، وقد يتطلب الأمر إضافة فنيين لكلا الفريقين المتفاوضين إذا كان النزاع مثلاً يتعلق بالخلاف حول الحدود ومن أمثلة القضايا التي حُلت عن طريق المفاوضات انسحاب إسرائيل من صحراء سيناء الذي تم بعد مفاوضات طويلة بين مصر وإسرائيل.
ويستعمل مصطلح المفاوضة ليعني، في اللغة العربية، مفهوم (المراوضة) والمراوضة (لغة) مصطلح ازدهر استعماله في المجال التجاري، وتحديداً في معاملات البيع والشراء، وفي عمليات المزايدة والمناقصة وكان المعنى يفيد أن يسعى كل طرف إلى ترويض الآخر، أي غلبته. أما القاموس الدبلوماسي، فيرى في التفاوض أنه : لا يمثل - فحسب - سبب وجود الممثل الدبلوماسي بصفته رئيساً للبعثة الدبلوماسية. وإنما يمثل جوهر الدبلوماسية كلها، وكل أشكال وجوانب الدبلوماسية خاضعة لعملية التفاوض وهنا اقترب مفهوم التفاوض من معنى الدبلوماسية وذلك لارتباط المسألة بآليات العمل الخارجي للدولة، وهذا مادفع بهنري كيسجنر إلى القول بأن الدبلوماسية بالمعنى المتعارف عليه، هي عملية التقريب بين وجهات النظر المتعارضة من خلال المفاوضات .
ويقصد بالمفاوضة (قانوناً) تبادل وجهات النظر فيما بين ممثلي شخصين من أشخاص القانون الدولي العام، أو المنظمة الدولية وما في حكمها. فالعلاقات ما بين أشخاص القانون الدولي العام إنما تتم من خلال، وعبر أشخاص طبيعيين مخولين حق تمثيل تلك الوحدات القانونية ويقتصر حق مباشرة هذه المهمة - وبشكل واضح - على الأجهزة التنفيذية، وممثليهم المفوضين قانوناً وهو أمر من شأنه أن يبوأ المتفاوضين مكانة سامية في مسارات عملية التفاوض .
طبيعة التفاوض :
أكد القضاء الدولي على أن المفاوضات هى إحدى سمات وسائل فض المنازعات بالطرق السلمية، بل إنه قد بوأها مكانة تتقدم على الحلول القضائية وذكرت المحكمة الدائمة للعدل الدوليه بأنه لا يجب أن يعرض عليها إلا القضايا التي لا يمكن حلها عن طريق المفاوضات. لذلك، فإن القانون الدولي العام يقر آلية التفاوض، ويدعو إليها وينظمها، سواء كان هذا التفاوض ما بين طرفين، أو ما بين عدة أطراف، أو في إطار منظمة دولية إقليمية أو عالمية. وقد تجري هذه المفاوضات الإشراف المباشر لإحدى المنظمات الدولية (العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966، العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966، اتفاقية قيينا للعلاقات الدبلوماسية 1961، اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية 1963، اتفاقية قانون البحار لعام 1982، اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية الدولية 1998 .. إلخ )، أو قد تجري خارج هذه المنظمات الدولية استجابة لمعطيات سياسية أو قانونية ( اتفاق دايتون بولاية أو هايو الأمريكية، نوفمبر 1995) والذي جرى ما بين ممثلين عن الصرب، والبوسنة والهرسك، أو قمة واشنطون في 1995، والتي ضمت الأردن، وفلسطين، وإسرائيل، تحت إشراف الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وقد تجري المفاوضات داخل أجهزة المنظمة ذاتها .
وقد تأخذه هذه المفاوضات مسارات لقاء القمة، سواء كانت ثنائية ( القمم الأمريكية السوفيتية والروسية، أو القمة الفرنسية – الألمانية). وقد تكون مفاوضات القمة متعددة الأطراف ( الملوك والرؤساء العرب في الجامعة العربية، أو جماعية (قمة عدم الانحياز )، أو استراتيجية (قمة الدول الثماني الصناعية) حتى وإن كانت لقاءات القمة - عادة ما تسفر مفاوضاتها عن إصدار بيان وليس معاهدة دولية .
ولا يوجد زمن للمفاوضات، فهى قد تبدأ وتنتهي في زمن قصير جداً وقد تطول لتستمر سنوات ( اتفاقيات قانون البحار 1973-1982 ) وهى كما تكون علنية، فإنها يمكن أن تكون سرية ( مباحثات أو سلو1993) والمفاوضات ( في القانون الدولي العام ) كما يتصور أن تجري ما بين أطراف متنازعة فإنها قد تجرى ما بين أطراف متوافقة، وحيث أنها قد تزدهر في حالات السلم .وأخيراً، فإن المفاوضات لا يشترط أن تتم ما بين أطراف متساوية في المركز القانوني، أو الوضع الدولي، أو في الثقل الاقتصادي، أو في الكثافة السكانية، فهى يمكن أن تجري ما بين أشخاص قانونية دولية غير متكافئة .
والأكثر من ذلك، فإن المفاوضات قد تصاحبها وسائل إكراه تستهدف النيل من قدرة أحد الأطراف، أو حتى إرغامه على التفاوض وتأخذ هذه الوسائل أشكالا عدة تبدأ من ممارسة الضغوطات السياسية، أو الأخلاقية ، أو الاقتصادية وسواء تمت ممارسة هذه الضغوطات أثناء عملية التفاوض (الضغط على إيران عام 2006 من أجل التفاوض مع الوكالة الدولية للطاقة النووية في موضوع البرنامج النووي الإيراني)، أو قبلها بقصد الإجبار على التفاوض، فإن الدفع بها قانوناً لإبطال النتائج أمر تكتنفه العديد من الصعوبات، خاصة وأن بعض هذه الضغوطات لا تباشر بشكل واضح، علني، ومقنن، أو أن من يمارسها يملك من أدوات القوة، والتقنية، وحق الاعتراض في مجلس الأن ما يمكنه من تحقيق نتائج عملية .
وإجمالاً .. فإن جميع القضايا التي يمكن أن تطرحها علاقات المجتمع الدولي أو تفرضها طبيعته المتغيرة، تصلح لأن تكون مجالاً خصباً للمفاوضات، وقد تأخذ المفاوضات الطابع النوعي، فيتم التفاوض حول مسألة بذاتها، ولكن بجميع تشعباتها، مثل المؤتمر الدولي للمياه والبيئة ( دبلن(1992، أو المفاوضات الجماعية المتعلقة بإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة (روما 1998).
2- الوساطة :
هي الخطوة الثانية لحل النزاع الناشب بين الدول في حال فشل المفاوضات المباشرة بين الدولتين المتنازعتين، وفي هذه الخطوات تقوم إحدى الدول وخاصة إذا كانت ترتبط بعلاقة صداقة بين الدولتين المتنازعتين بالتوسط بينهما إما من أجل العودة للمفاوضات بينهما ويطلق على هذا الأسلوب (الخدمات الودية) أو أن تشترك الدولة الوسيطة في المفاوضات بصورة فعلية ومباشرة ويعرف هذا الأسلوب (بالوساطة) حيث تقوم الدولة الوسيطة حسب هذا الأسلوب بالتوفيق بين المطالب المتعارضة للدول المتنازعة والتخفيف من حدة الجفاء بينهما وبدون صفة ملزمة، وتنتهي مهمة الدولة الوسيطة في هذه الحالة إذا تبين لها أن وساطتها غير مقبولة من كلا الطرفين المتنازعين أو أحدهما، أو إذا قرر أحد الطرفين المتنازعين عدم قبول هذه الوساطة، ومن أمثلة القضايا التي حلت بالوساطة رفع الحظر الاقتصادي عن ليبيا الذي استمر لمدة سبع سنوات بسبب وساطة الملك عبدالله بن عبدالعزيز ورئيس جنوب أفريقيا السابق نيسلون مانديلا.
الوساطة المزدوجة: وهي أسلوب آخر للوساطة لحل المنازعات الدولية وهي خاصة بالمنازعات الخطيرة التي تهدد السلم العالمي وفيها تقوم إحدى الدولتين المتنازعتين باختيار دولة أجنبية لتتولى عنها المفاوضة بشأن النزاع القائم حيث تعمل الدولتان المختارتان في البداية على عدم قطع العلاقات السلمية بين طرفي النزاع، ثم تقومان بالمفاوضات لتسوية النزاع وفي حدود (30) يوماً يمتنع خلالها طرفا النزاع من الحديث حوله، فإذا لم تنجح المساعي حول ذلك وتوتر الوضع بين الدولتين المتنازعتين بقطع العلاقات السلمية بينهما فإنه مطلوب من الدولة الوسيطة في هذه الحالة استغلال الفرصة المناسبة للعمل على إعادة السلم بين طرفي النزاع.
دبلوماسية المكوك
وهي نوع من الوساطة حيث يقوم الوسيط بإجراء المفاوضات بين طرفين متحاربين يتعذر لقاؤهما المباشر؛ فيناقش المقترحات ويجري الحوار حول الردود عليها، مع كل من الطرفين المتنازعين بالتوالي، بهدف التوصل إلى تسويات مؤقتة وجزئية، تقود في النهاية إلى توفير شروط التوصل إلى مراحل متقدمة في التسويات السياسية بين الأطراف المعنية. ويعتمد هذا الأسلوب على سرعة الحركة، وشرح المواقف للطرف الآخر وظروفه، وكذلك إلى امتلاك وسائل الترغيب أو التهديد، الخفية والمعلنة، المساعدة على الدفع في اتجاه تذليل العقبات، والتوصل إلى نتائج عملية محددة. وقد اقترن هذا الأسلوب بهنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي، في التوسط في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، من طريق دبلوماسية الخطوة خطوة، على إثر اندلاع حرب أكتوبر 1973 .
3-المساعي الحميدة: وتقوم على التقريب بين مواقف الجهتين المتنازعتين لاستئناف المفاوضات او البدء بها. وقد وضعت اتفاقية لاهاي لسنة 1907 المتعلقة بتسوية النزاعات الدولية بالوسائل السلمية، القواعد الخاصة بالمساعي‏الحميدة والوساطة في الفصل الثاني (المادة 2 - 8). وقد اصبح هذا الاسلوب شائع في عصرنا الحاضر حيث تلجأ اليه كثير من المنظمات الدولية وبالذات منظمات الامم المتحدة من خلال استخدام شخصيات عالمية مرموقه ولها شعبية واحترام دولي للقيام ببعض المهام السلمية او في بؤر الصراعات.
4-التحقيق
ويتم بواسطة لجان دولية يعرض عليها النزاع، حيث يلجأ إليها طرفا النزاع إذا كان الخلاف بينهما على وقائع معينة حيث تقوم هذه اللجان بإيضاح حقيقة الوقائع المختلف عليها حتى تكون المناقشة فيما بعد لحل النزاع مستندة إلى وقائع صحيحة، وتقوم لجان التحقيق بأعمالها في جلسات سرية وتتخذ قراراتها بأغلبية الآراء وتعلن تقاريرها في جلسات علنية إلا أن الرجوع للجان التحقيق لحل المنازعات بين الدول ليس ملزماً بل يتم باتفاق الأطراف المتنازعة. وقد نظمت اتفاقية لاهاي طرق التحقيق في‏الباب الثالث (الماد 9 - 36)، ثم طورت معاهدات بريان (1913 - 1915) هذه الطرق بشكل واسع. ويهدف التحقيق عادة ‏الى جلاء بعض النقاط في الخلاف بشكل موضوعي.
معايير دولية للجان تقصي الحقائق
اصبحت لجان التحقيق ظاهرة عالمية، حيث شهدت الفترة من عام 1974 إلى عام 2007 إنشاء ما لا يقل عن 32 لجنة تحقيق في 28 بلداً. وقد شُكل أكثر من نصف هذه اللجان خلال السنوات العشر الماضية. ويجري حالياً النظر في إنشاء لجان أخرى للتحقيق .ولهذا بدلت الامم المتحدة وغيرها من المنظات الاقليمية جهود كبيره لوضع قواعد دولية لتقصي الحقائق، وكانت أول عملية دولية لجمع وتصنيف لإجراءات تقصي الحقائق هي اتفاقية لاهاي لتسوية المنازعات بالوسائل السلمية لعام 1907. وفي عام 1970 أصدر الأمين العام مشروع قواعد نموذجية لإجراءات تقصي الحقائق الخاصة بهيئات الأمم المتحدة، تغطي الانطباق ودستور الهيئة المخصصة وجدول أعمال الاجتماعات والموظفين والأمانة واللغات والتصويت وسير العمل والتعاون مع الدول الأعضاء والشهادات الشفوية والتحريرية ومصادر المعلومات الأخرى والسجلات والتقارير. وتتيح القواعد لأي لجنة وضع توصيات وإصدار تقرير. كما تتيح للدولة المعنية تقديم أدلة وتعيين ممثل وطرح أسئلة على الشهود، ولكنها لا تسمح للدولة بوضع توصيات لجدول الأعمال أو إعاقة حضور الشهود. وموافقة الدولة المعنية مطلوبة لدخول الهيئة المخصصة إلى الدولة. وتقبل جميع الأدلة بالرغم من أن استعمالها يخضع لرأي اللجنة. ويحلف الشهود ويقسم أعضاء اللجنة على أداء واجباتهم "بشرف وبصدق وبحيادية وبإخلاص." ويجوز قيام عضو أو أكثر بعقد جلسة استماع.
5- التوفيق
وهو وسيلة تقع بين الوساطة وبين الطرق القضائية، ويقوم على التحقيق في المسائل التي يقوم حولها النزاع،واقتراح الحلول التي يمكن ان يرضى بها الطرفان، وتقوم بالتوفيق لجان يطلق عليها تسمية (لجان التوفيق) وهي تشبه لجان التحقيق في السعي لحل النزاع بين الدول إلا أن لجان التوفيق يكون من مهامها أيضاً اقتراح حل للنزاع يمكن أن يقبله الطرفان المتنازعان.
و"التوفيق" طريقة حديثة لتسوية المنازعات الدولية، دخلت التعامل الدولي بعد عام 1919 بواسطة عدة معاهدات ثنائية وجماعية. وتتألف لجان التوفيق بموجب اتفاق يعقد بين الطرفين المتنازعين، أو بقرار صادر من الأمم المتحدة، أو إحدى المنظمات الدولية أو الإقليمية. وتتولى هذه اللجان دراسة النزاع القائم وتقديم تقرير وافٍ عنه إلى الطرفين، أو إلى المنظمة، يتضمن عدة اقتراحات، أو حلول، لتسوية النِّزاع. ومن امثلة ذلك قرار الامم المتحدة 194 الخاص بالتقسيم، حيث تضمن البند الثالث من القرار فقرة خاصة أنشئت بموجبها لجنة التوفيق الدولية وأنيطت بها مهمة تسهيل إعادة اللاجئين إلى ديارهم، الأمر الذي رفضته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وما زالت تصر على مواقفها هذه.
ثانياً: وسائل ذات صبغة قانونية أو قضائية
التحكيم
يعتبر التحكيم وسيلة فعالة وسريعة لحل المنازعات التي تثار بين الخصوم وتقترن احكام المحكمين وقراراتهم بالعدالة وحرية الرأي. والتحكيم قديم في نشؤه حيث عرفه القدماء في جميع الحقب الحضارية المتعاقبة حتى قال عنه (ارسطو) ان الاطراف المتنازعة يستطيعون تفضيل التحكيم على القضاء ذلك لأن المحكم يرى العدالة بينما لا يعتد القاضي الا بالتشريع) وازدهر التحكيم قبل الاسلام عند العرب وبرز عديد من المحكمين حيث ان كل قبيلة لها محكميها وكانت ابرز قضية قبل الاسلام حكم فيها رسولنا العظيم عليه الصلاة والسلام في رفع الصخرة المشرفة الى مكانها عندما اختلفت قبائل قريش عليها في حينه وجاء الاسلام ليضع التحكيم في اهم موقع في الحياة وهو العلاقة الزوجية (فان خفتم شقاقا بينهما فابعثوا بحكم من اهله وحكما من اهلها ان يريدا اصلاحاً يوفق الله بينهما). وكذلك في العلاقات الاخرى حتى وصلنا الى معركة صفين التي حكم فيها عمر بن العاص وابو موسى الاشعري بين سيدنا علي ومعاوية بن ابى سفيان.
والتحكيم هو البت في النزاع من طريق شخص او هيئة يكلفها المتنازعون بذلك، ويخضعون لقرارها، لان له ‏صفة الالزام. وقد نظمت التحكيم مؤتمرات لاهاي (1899 - 1907) وافردت له الاتفاقية الخاصة بتسوية المنازعات‏السلمية الفصل الرابع (المادة 27 - 90). ويعرف التحكيم بالتسوية القضائية للمنازعات الدولية وهو يتصف بالإلزام لأطراف النزاع حول ما يصل إليه من قرارات إلا أنه لا يلجأ إليه إلا باتفاق الأطراف المتنازعة، وقد يتم التحكيم عن طريق:
1- لجان تحكيم خاصة، وتتألف لجنة التحكيم الخاصة من خمسة محكمين يعين اثنان منهم من قبل الدولتين المتنازعتين ويعين الثلاثة الباقون بمَنْ فيهم رئيس اللجنة باتفاق الطرفين على أن يكونوا من دول أجنبية.
2- قد يتم التحكيم بلجوء الطرفين المتنازعين الى (محكمة العدل الدولية) التي كرس انشاءها ميثاق‏الامم المتحدة، وكانت سبقتها (المحكمة الدائمة للعدل الدولي) في ظل عصبة الامم. والمحكمة تبت بالامور بالطريقة ‏القضائية، معتمدة على القوانين والاعراف الدولية والمبادئ العامة للقانون. وقد فصلت المحكمة في كثير من المنازعات الدولية، وهي تتألف من خمسة عشر قاضياً معينين بمعرفة الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة وهي تتميز عن لجان التحكيم بأن أطراف النزاع لا يتدخلون بتعيين قضاتهم لحل النزاع بينهم، وتنظر هذه المحكمة في القضايا المعروضة أمامها في جلسات سرية إلا أن الحكم يُتلى في جلسة علنية وتفصل المحكمة في قضايا المنازعات برأي الأكثرية من قضاتها وإذا تساوت الأصوات رجح الجانب الذي فيه رئيس المحكمة، أما القضاة الذين يخالفون رأي الأغلبية فيوضح رأيهم في بيان مستقل، وحكم محكمة العدل الدولية نهائي وغير قابل للاستئناف إلا أنه يمكن إعادة النظر فيه في حالة ظهور وقائع تؤثر وبشكل حاسم في الدعوى وكانت هذه الوقائع غير معلومة لدى المحكمة وقت إصدار الحكم ولا الدولة التي طلبت إعادة النظر في الحكم، وألا يكون جهلها بهذه الوقائع نتيجة إهمال منها، وأن يكون طلب إعادة النظر في الحكم خلال مدة ستة أشهر من تاريخ اكتشاف الوقائع وبشرط ألا يكون قد مضى على صدور الحكم عشر سنوات، ومن أمثلة القضايا التي حلت عن طريق محكمة العدل الدولية الخلاف الحدودي بين البحرين وقطر
ولمحكمة العدل الدولية نشاط قضائي واسع، وتعد الأحكام الصادرة عن المحكمة قليلة نسبياً، لكنها شهدت بعض النشاط ابتداء من مطلع الثمانينيات، ومنذ العام 1946 أصدرت محكمة العدل الدولية 78 في نزاعات تتعلق من بين أشياء أخرى بالحدود البرية والحدود البحرية والسيادة الإقليمية وعدم استخدام القوة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والعلاقات الدبلوماسية والرهائن وحق اللجوء السياسي والجنسية والوصاية وحقوق المرور المائي والحقوق الاقتصادية. وقد شككت الولايات المتحدة بنزاهة القضاة إبان قضية نيكاراغوا، عندما ادعت أنها تمتنع عن تقديم أدلة حساسة بسبب وجود قضاة في المحكمة ينتمون إلى دول الكتلة الشرقية. وقد سحبت الولايات المتحدة الأمريكية اعترافها بالسلطة القضائية الإلزامية لهذه المحكمة، مما يعني بأنها تلتزم بما تقبله من قرارات المحكمة وتتحلل مما لا تقبله منها!



الفصل الرابع
دور المنظمات الدولية فى حل النزاعات بالطرق السلمية التسوية
يعد مبدأ التسوية السلمية للمنازعات أحد المبادئ الأساسية التي انبنى عليها التنظيم الدولي الحديث، وعلى وجه التحديد منذ انعقاد مؤتمري السلام عامي 1899 و1907، فمع انتشار ظاهرة التنظيم الدولي خلال الفترة الموالية للمؤتمرين سالفي الذكر اكتسبت قضايا المحافظة على السلام والأمن والتسوية السلمية للمنازعات أهمية خاصة، إذ أصبحت من بين المقاصد الأولى لأية منظمة دولية، كما توفرت القناعة لدى المهتمين بأمور التنظيم الدولي بأن وجود أي نظام قوي وفعال يختص بوظيفة التسوية السلمية للمنازعات يعتبر أحد المقومات الموضوعية المهمة التي تستند إليها المنظمات الدولية عموما في مجال الاضطلاع بالمهام المنوطة بها . ويقصد بالتنظيم الدولي مجموعة القواعد التى تحكم نشأة وعمل المنظمات الدولية، وتتمثل اهدافه في امرين:
اولا : تحقيق الامن والسلم الدوليين
ثانياً : تحقيق الرفاهية والرخاء لصالح الشعوب .
والتنظيم الدولي يعمل على تحقيق الامن والسلم الدوليين من خلال الامور التالية :
1- منع استخدام القوة في العلاقات الدولية
2- تسوية المنازعات بالطرق السلمية
3- الدفاع عن امن وسلام الدول من خلال انشاء الاحلاف التى تسعى الى ايجاد توازن بين الدول
وفي دراستنا لدور المنظمات الدولية في تسوية المنازعات بالطرق السلمية سنتناول الدور الذي تقوم به كلا من الامم المتحدة كمنظمة دولية، وجامعة الدول العربية كمنظمة اقليمية .
الامم المتحدة
مر العالم بأزمات وحروب خلفت وراءها ضحايا وخسائر جسيمة، وهكذا كان السلام- ومنذ القدم- يشكل هدفا للإنسانية، وقد كان لمأساة الحرب العالمية الثانية أثر كبير نحو إصرار المجتمع الدولي - وخصوصا صانعي القرار الدولي- لإقامة الأمم المتحدة والتأكيد على هدفها الرئيسي المتمحور حول تحقيق السلم والأمن الدوليين، خصوصا مع بروز أسلحة أكثر تدميرا للحياة الإنسانية. غير أن هذا المفهوم لايرتبط فقط بعناصر عسكرية، ولكن هناك عناصر أخرى غير عسكرية يمكن أن تسهم في تحقيقه في حالة توافرها أو المس به في حالة غيابها .
وتختلف وتتطور السبل الدولية لتحقيق السلم والأمن الدوليين بتطور العلاقات الدولية. فالأستاذ "دانييل كولار" يرى أن المجتمع الدولي نهج سبلا عديدة لتحقيق السلم والأمن الدوليين إبان فترة الحرب الباردة: فهناك السلام بواسطة الردع ومراقبة التسلح، والسلام بواسطة الانفراج الذي أعقب أزمة كوبا وموت ستالين وتجسد بإرادة العظميين عبر الدخول في عصر التعايش السلمي ثم هناك السلام بواسطة عدم الانحياز في ظل اشتداد الحرب الباردة وخطورة السلام النووي على البشرية وأخيرا السلام بواسطة التنمية على اعتبار أن معظم النزاعات والأزمات الدولية مصدرها اقتصادي واجتماعي .
ولو اننا حاولنا القاء نظرة سريعة على دور الامم المتحدة من هذا المنطلق فإننا سنلاحظ انها سعت الى تحقيق هذا الهدف من خلال المبادئ والاهداف التى وردت في الميثاق.
مبادئ الأمم المتحدة مستوحاة من ميثاقها
تقوم هيئة الأمم المتحدة على عدد من المبادئ الهامة والمذكـورة في الميثاق (الملحق الرقم 1). وتلتزم بهذه المبادئ كل من: الهيئة، والدول الأعضاء في علاقاتها بعضها ببعض، وهذه المبادئ هي:
1 - مبدأ المساواة في السيادة: تنص ديباجة ميثاق الأمم المتحدة على المساواة بين جميع الدول، بغض النظر عن التفاوت في إمكاناتها، من حيث الثروات الطبيعية، والبشرية، والتقدم.
2 - مبدأ فض المنازعات الدولية بالطرق السلمية: ويطبق هذا المبدأ فقط في حالة النزاعات التي تنشب بين الدول الأعضاء، حيث لا تتدخل الأمم المتحدة في المنازعات التي تحدث داخل الدولة.
3 - مبدأ حسن النية في أداء الالتزامات الدولية: نصت المادة (2) الفقرة (2) من الميثاق على أنه "لكي يكفل أعضاء الهيئة لأنفسهم جميعاً الحقوق والمزايا المترتبة على صفة العضوية، يقومون في حسن نية بالالتزامات التي أخذوها على أنفسهم بهذا الميثاق".
4 - مبدأ منع استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية: ورد هذا المبدأ الهام في ديباجة الميثاق، ونصه "نحن شعوب العالم ...، اعتزمنا ...، ألا تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة". كما نصت المادة (2) الفقرة (4) من الميثاق على أن: "يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة، أو استخدامها ضد سلامة الأراضي، أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة".
5 - مبدأ معاونة الأمم المتحدة في الأعمال التي تقوم بها، والامتناع عن مساعدة الدول التي تعاقبها:
6 - مبدأ التزام الدول غير الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة بالعمل وفقاً لمبادئها. بقدر ما تقتضيه ضرورة حفظ السلم والأمن الدولييْن".
7 - مبدأ عدم تدخل الأمم المتحدة في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
أهداف هيئة الأمم المتحدة ومقاصدها من الميثاق
تسعى الأمم المتحدة إلى تحقيق عديد من الأهداف السامية، من أهمها:
فض النزاعات التي قد تشكل خطراً على السلم والأمن الدولييْن، ومنع استخدام القوة، وتحقيق السلام العادل بين دول العالم. وقد جاء ذكر مقاصد الأمم المتحدة في أماكن متعددة من الميثاق على النحو التالي:
1 - حفظ السلم والأمن الدولييْن: ورد هذا المقصد في عديد من الفقرات من الميثاق، لما له من أهمية خاصة، فقد ورد ذكره في الفقرة الأولى من الديباجة "نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف". كما ذكرت كذلك الديباجة "وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولييْن".
كما نصت المادة (1) الفقرة (1) من الميثاق على "حفظ السلم والأمن الدولييْن، وتحقيقـاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، ولقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرع بالوسائل السلمية وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها". وقد خَصَّت الهيئة مجلس الأمن بسلطة تحقيق السلم والأمن الدولييْن، لما يملكه من سلطات وفعاليات واسعة، وعهدت الهيئة لمجلس الأمن بتحقيقه، سواء بالطرق السلمية، أم باستخدام القوة. وعلى هذا نجد أن المجلس ينفرد بسلطة كبيرة في فرض التسويات.
2 - تنمية العلاقات الودية بين الدول: وهو مقصد ورد في ديباجة الميثاق الذي نص على "أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار". كما ورد ذكره في المادة (1) الفقرة (2) من الميثاق التي حثت على "إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الملائمة لتعزيز السلم العام".
3 - تحقيق التعاون الدولي في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية:
4 - اتخاذ هيئة الأمم المتحدة مرجعاً لتنسيق أعمال الدول الأعضاء، وتوجيهها نحو إدراك الغايات المشتركة
دور هيئات الامم المتحدة في تسوية المنازعات الدولية:
منذ تأسيس هيئة الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم عام 1945 جعلت هذه المنظمة من حفظ السلم والأمن الدوليين وتحقيقه هدفا رئيسا لها وهذا ما تبلور بوضوح في الفقرة الأولى من المادة الأولى لميثاقها، خصوصا وقد عانت الإنسانية من ويلات حروب مدمرة أتت على الإنسان والعتاد والطبيعة والمعمار.
ولما كانت التسوية السلمية للمنازعات وعدم استخدام القوة والتهديد بها، أو استخدامها أصبحت من الأمور المستقرة في فقه القانون الدولي العام، ومن المبادئ الأساسية الراسخة التي تحكم العلاقات الدولية، فإن اضطلاع المنظمات الدولية بتسوية المنازعات التي قد تحدث بين الدول المنخرطة في عضويتها أمر منطقي وضروري، بل يعد ذلك وظيفة جوهرية لعمل هذه المنظمات.
عرض النزاع على مجلس الأمن الدولي،
تتمحور فلسفة ميثاق الأمم المتحدة حول المحافظة على السلم والأمن الدوليين، حيث شكل هذا المبتغى هدفا رئيسيا لواضعي الميثاق وهو ما تبلور بالفعل في ديباجة الميثاق حيث تعاهدت شعوب الأمم المتحدة بأن تعمل على اتقاء الأجيال المقبلة من ويلات الحروب. ولقد احتل مجلس الأمن مكانة الريادة في نظام المحافظة على السلم والأمن الدوليين وذلك طبقا للمادة 24 من الميثاق وحتى يتمكن من تحقيق هذا الهدف خوله الميثاق مجموعة من الوسائل والسلطات سواء فيما يخص تكييف الحالات المهددة أو المخلة بالسلم والأمن الدولي أو اتخاذ ما يلزم من إجراءات مختلفة لردع الدول المعتدية، في حالة فشل الوسائل السلمية في حسم المشكل واحتواء الأزمة وتتنوع هذه الوسائل بدورها بين الضغوطات والعقوبات الاقتصادية والإعلامية والديبلوماسية والعسكرية. وضمن هذه الوسائل يحتل مجلس الأمن مكانة بارزة في هذا الصدد خولها له الميثاق الأممي بالنظر إلى القيمة القانونية لقراراته والحاسمة وكذا الدور الذي يحظى به في إقرار الحالات المهددة أو المخلة بالسلم والأمن الدوليين أو وقوع حالة العدوان, واحتكاره لوسائل استعمال القوة والإجراءات الزجرية الأخرى في مواجهة الدول المعتدية.
يعتبر قيام مجلس الأمن الدولي بنظر النزاع الذي يحصل بين دولتين أو أكثر هو الخطوة الأخيرة لحل النزاع، إذ يحق لمجلس الأمن الدولي في البداية دعوة الأطراف المتنازعة إلى حل الخلاف بينهما بالطرق السلمية (سالفة الذكر) فإذا أخفقت في ذلك وجب عليها عرض الأمر على المجلس الذي له أن يوصي بما يراه مناسباً لحل النزاع، ويتخذ مجلس الأمن الدولي قراراته بأكثرية تسعة من أعضائه الخمسة عشر بشرط أن يكون الخمسة الأعضاء الدائمون (أصحاب حق النقض) من بينهم، وقرارات مجلس الأمن الدولي لحل المنازعات هي مجرد توصيات لأطراف النزاع، يمكنهم أن يأخذوا بها أو يتحولوا عنها لطرق التسوية السلمية إلا أنه في حالة استمرار النزاع وأصبح مهدداً للسلم والأمن الدوليين، فإن من حق مجلس الأمن الدولي أن يقرر ما يراه لازماً لحفظ السلم والأمن الدوليين ويكون قراره في هذه الحالة ملزماً لأطراف النزاع وغيرهم من الدول الأعضاء في الهيئة الدولية.
وقد ترك الميثاق لمجلس الأمن أن يقرر استخدام القوة في حل المنازعات الدولية، طبقاً للظروف والملابسات المحيطة بكل حالة على حدة، كما أعطت المادة (41) لمجلس الأمن الحق في "أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء "الأمم المتحدة" تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً وقطع العلاقات الدبلوماسية". وفي حالة التأكد من أن التدابير التي نصت عليها المادة (41) لم تف بالغرض، فإن المادة (42) قد أجازت لمجلس الأمن أن يتخذ إجراءات عسكرية عن طريق القوات الجوية والبحرية والبرية، كما يجوز لمجلس الأمن كذلك اتخاذ إجراءات أخرى تتضمن المظاهرات والحصار.
وعلى الرغم من أن مبدأ منع استخدام القوة قد جاء ذكره في الديباجة، أباح ميثاق الأمم المتحدة استخدام القوة في حالات معينة منها:
أولاً: في حالة قيام المجلس بإجراءات القمع والقهر لحفظ الأمن والسلم الدولييْن
ثانياً: عند رفض إحدى الدول قبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها
ثالثاً: في حالة استخدام الدول الأعضاء القوة ضد دولة كانت أثناء الحرب العالمية الثانية من الدول المعادية لإحدى الدول الموقعة على الميثاق .
رابعاً: في حالة الدفاع الشرعي.
وبالرغم من المهمة الكبيرة والخطيرة التى يقوم بها، الا إن مباشرة مجلس الأمن لمهامه المرتبطة بحفظ السلم والأمن الدوليين تقتضي منه - نظريا- الالتزام والخضوع لمجموعة من الضوابط القانونية التي يعكسها الميثاق الأممي، وإذا كان هذا الأخير يشكل إطارا عاما ودستورا لجميع أجهزة الأمم المتحدة فإن ظروف الحرب الباردة وما تولد عنها من صراعات إيديولوجية بين الشرق والغرب كان لها الأثر السلبي الكبير على مدى إنضباط المجلس لمبادئ ومقتضيات هذا الميثاق في جانبه المتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين مما نتج عنه ضعف حصيلة المجلس وهزالتها في هذا الشأن، كما ان انهيار المعسكر الشرقي وتحول النظام الدولى الى نظام احادي القطبية، فتح المجال على مصراعية لامريكا للاستفراد بدول العالم ضاربه عرض الحائط بميثاق الامم المتحدة، مما يمثل اكبر تهدي للسلم والامن الدوليين.
عرض النزاع على الجمعية العامة للأمم المتحدة:
تحتل الجمعية العامة مركزاً متميزاً بين بقية أجهزة الأمم المتحدة الرئيسية، حتى أن الساسة أطلقوا عليها "البرلمان العالمي"، إذ تتكون من مندوبين عن كل الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة، وعددها 192 دولة حتى الآن (1998). وقد أقر ميثاق هيئة الأمم المتحدة لهذه الهيئة الدولية الحق في مناقشة أية قضية تتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين عندما يطلب منها ذلك من إحدى الدول أو من مجلس الأمن الدولي وتصدر الجمعية العامة للأمم المتحدة توصياتها بشأن النزاع المعروض أمامها بأغلبية ثلثي الأعضاء إذا كان النزاع يمس السلم والأمن الدوليين وبالأغلبية العادية في المنازعات الأخرى، وتوصيات الجمعية العامة ليست ملزمة إلا أنه يجدر بالدول المتنازعة وقد التزمت بأهداف الهيئة الدولية أن تجعل هذه التوصيات محل اعتبار لديها.
قرار الاتحاد من أجل السلم
يعتبر من القرارات المهمة في تاريخ الأمم المتحدة، أصدرته الجمعية العامة في 1950 بناءً على اقتراح امريكي، وذلك نتيجة عجز مجلس الأمن عن اتخاذ خطوات إيجابية بشأن المشكلة الكورية، بسبب استخدام الاتحاد السوفيتي لحق الفيتو. ويقضي هذا القرار بأنه "إذا أخفق مجلس الأمن، بسبب عدم توافر الإجماع بين أعضائه الدائمين، في القيام بمسؤولياته الأساسية الخاصة بحفظ الأمن الدولي، في الحالات التي يلوح فيها تهديد للسلم أو إخلال به أو عمل عدواني، تبحث الجمعية العامة الموضوع فوراً لإصدار التوصيات اللازمة للأعضاء لاتخاذ التدابير الجماعية المناسبة، بما في ذلك استخدام القوات المسلحة للمحافظة على السلم أو إعادته إلى نصابه". كما قضى القرار بتعديل إجراءات دعوة الجمعية العامة، ليصبح للجمعية حق الانعقاد في دورة انعقاد استثنائية طارئة خلال 24 ساعة، إذا تلقى الأمين العام للأمم المتحدة طلباً في هذا الشأن من مجلس الأمن بأغلبية تسعة أعضاء، ليس من بينها بالضرورة أصوات الأعضاء الدائمين، أو بناء على طلب من الجمعية العامة، بموافقة أغلبية أعضائها.
عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام عمليات حفظ السلام
حفظ السلام وسيلة لمساعدة البلدان التي يمزقها صراع على خلق ظروف لتحقيق السلام المستدام. فأفراد عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام، يرصدون ويراقبون عمليات السلام التي تنشأ عن حالات ما بعد الصراع ويساعدون المحاربين السابقين على تنفيذ اتفاقيات السلام التي وقعوا عليها.
يمنح ميثاق الأمم المتحدة مجلس الأمن صلاحية اتخاذ تدابير جماعية والاضطلاع بها لحفظ السلام والأمن الدوليين. لهذا السبب، يتطلع المجتمع الدولي عادة إلى مجلس الأمن لكي يصدر تكليفا بإطلاق عمليات حفظ السلام. ويجيز مجلس الأمن المنظمات الإقليمية من قبيل منظمة حلف شمال الأطلسي، والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا أو تحالفات البلدان الراغبة، تأدية وظائف محددة لحفظ السلام أو إحلاله.
تعود بدايات عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام إلى عصر الحرب الباردة يوم كانت وسيلة لحل النزاعات بين الدول عبر نشر أفراد عسكريين من عدد من البلدان، غير مسلحين أو يحملون أسلحة خفيفة ويعملون بقيادة الأمم المتحدة، بين القوات المسلحة التابعة للأطراف المتنازعة سابقا. وهذا يمنح الوقت ويفسح في المجال أمام الجهود الديبلوماسية لمعالجة الأسباب الكامنة وراء النزاع.
وفي مذكرة اعلامية بتاريخ 30 نيسان/أبريل 2007 صادره عن ادارة عمليات حفظ السلام التابعه للامم المتحدة وضحت ان عمليات الامم المتحدة قامت بـ 61 عملية سلام منذ 1948 وان العمليات الجارية الآن يبلغ عددها 15، اماعمليات السلام الحالية الموجهة والمدعومة من قبل إدارة عمليات حفظ السلام فعددها 18.




اصلاح الأمم المتحدة
على مدى خمسين عام أو قل قليلاً-أي على مدى مرحلة السلام الطويلة سلام الحرب الباردة-كان منطقياً ألا تحظى الأمم المتحدة بالأهتمام المناسب من جانب الدول العظمى والكبرى, إذ وضعت الحرب الباردة لنفسها القواعد والآليات اللازمة لمنع الأنفجار. ولم تكن الأمم المتحدة مؤهلة أو مفوضة للقيام بدور أساسي, أو بأي دور آخر في مجالات الردع المتبادل والأحلاف العسكرية وتوازن القوى. وفور الوصول الى النهايتين! نهاية الحرب الباردة, ونهاية السلام الطويل, عاد الأهتمام بالمنظمة الدولية يتجدد. وأحتلت الأمم المتحدة مكانة مهمة في الجدل حول حجم الصلاحيات التي يجوز أو لايجوز منحها للأمم المتحدة, وحول حدود الدعم الأمريكي لها.
أن تحليل الأفكار المتداولة بشأن تطوير الأمم المتحدة وأصلاحها يشير الى أنها تركز على أحد أتجاهين:
الأتجاه الأول يتعلق بالمهمة الرئيسية للأمم المتحدة, وذلك في ضوء التغيرات التي حدثت في المجتمع الدولي.
الأتجاه الثاني فيركز على تنظيم الأمم المتحدة وتركيبها الأمر الذي من شأنه رفع كفاءتها.
وقد ركزت المقترحات والإصلاح على مجلس الأمن, فأقترح بعضهم مثلاً ضرورة توسيع عضوية المجلس. وأقترح آخرون ضرورة إعادة النظر في تركيب المجلس بما يجعله أكثر تعبيراً عن حقيقة الوضع العالمي الراهن والكثرة العددية لدول الجنوب, وهناك بعض الأفكار مثالية, والتي ترى أهمية إعادة النظر في حق الفيتو, ومدى سلامة أستمرار أحتكاره بواسطة عدد محدود من الدول, ورأى بعضهم الآخر ضرورة تقييد هذا الحق.
أن مجلس الأمن المفروض أن يكون مرآة لبنية السلطة في النظام الدولي وهو الجسر بين-أسمى المبادئ والقيم المتصلة بالمساواة والعدالة- في المجتمع العالمي من ناحية, وبين الواقع القبيح للسياسة في عالمنا من ناحية آخرى. ومع ذلك فأن بوسعنا أن نجعل المجلس أكثر ديمقراطية, فيغدو جهازاً تنفيذياً عالمياً أكثر شرعية, خصوصاً أنه من المفروض أن يتحدث ويتصرف نيابة عن المجتمع العالمي, متى ما أنصبت عنايتنا على قضايا التمثيل, وأستخدام حق الفيتو, والشفافية وقد طرحت أقتراحات عديدة ونوقشت في إطار فريق العمل غير المحدد المهام حول مسألة التمثيل العادل والزيادة في عضوية مجلس الأمن التي تمت في كانون أول 1993.
وهناك مجال آخر للإصلاح الا وهو الجمعية العامة وأعطائها دوراً أكثر فاعلية وعملية, فقد صار من الضروري إعادة التوازن بين الهيئة ذات الأختصاص العام, والتي تمثل هموم القطاع الأكبر من البشرية من ناحية, تلك التي ينعقد لها الأختصاص الرئيسي في حفظ السلام والتطبيق الإلزامي لقرارات الأمم المتحدة من ناحية آخرى.
أن القضايا والمشكلات التي تتجاوز حدود الإقليم تتطلب أستجابة جماعية لايمكن لأحد غير الأمم المتحدة أن يوفرها. وعلى كل الأطراف المستفيدة من تلك الأستجابة أن تسهم بنصيبها من أجل ضمان النجاح لها. وهذا هو جوهر المشاركة في العائدات والمسؤوليات, وفي توفير قدر أكبر من الأمن والأستقرار للمجمتع العالمي. والأهم بين كل ما تبقى هو الأمم المتحدة, وهذه حقيقة يجب أن يعيها دعاة الإصلاح وتكون الأساس الذي تبنى عليه محاولات إصلاح المنظمة الدولية إذ أنه حين تقف الأمم المتحدة وحيدة بعد أن فقدت معظم أفراد عائلتها من جراء معاناتها آثار الحرب العالمية الثانية, مثل الصراع بين القطبين الأعظمين, ونظام الحلفين, ونهاية الأستعمار وفكرة عدم الأنحياز, فأنها تستحق من الإصلاحيين ما هو أكثر من أقتراحات متناثرة, تستحق إطاراً عاماً وشاملاً كالإطار الذي نشأت في ظله فكرة الأمم المتحدة ووضع على اساسه ميثاق المنظمة الدولية.

الفصل الخامس
دور المنظمات الاقليمية في حل النزاعات بالطرق السلمية
خص ميثاق الامم المتحدة المنظمات الاقليمية بنصيب في مهمة المحافظة على السلم والامن الدولي، فقررت المادة 52 من الميثاق انه على مجلس الامن ان يشجع الاستثكتار على الحل السلمي للمنازعات المحلية بطريق هذه المنظمات بناء على طلب الدول التى يعنيها الامر واما بالاحالة عليها من جانب مجلس الامن (مادة 53) . كذلك فرضت نفس المادة على الدول الاعضاء في الامم المتحدة الداخلة في مثل هذه المنظمات ان تبدل كل جهودها لتدبير الحل السلمي للمنازعات المحلية عن طريق المنظمات التى هي عضو فيها وذلك قبل عرضها على مجلس الامن (فقرة 2) .
والمنظمات الاقليمية الموجودة في العالم عديده مثل الاتحاد الاوروبي ومنظمة الوحدة الافريقية ومنظمة المؤتمر الاسلامي ومنظمة دول امريكا اللاتينة وجامعة الدول العربية، حيث نص ميثاق كل هذه المنظمات الاقليمية على مبدأ تسوية المنازعات بالطرق السلمية وان اختلفت التفاصيل من منظمة لاخرى في الوسائل وآلية التنفيذ. و سنعرض لجامعة الدول العربية باعتبارها احد المنظمات الدولية الاقليمية، والوسائل السلمية التى تأخذ بها لفض المنازعات بين اعضائها وايضا آلية عملها .
جامعة الدول العربية
جامعة الدول العربية هي إحدى المنظمات الدولية الإقليمية التي أكدت في ميثاقها على عدم استخدام القوة لفض المنازعات بين دولتين أو أكثر من دول الجامعة، وقد تقرر هذا التوجه أيضا في معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي التي صادق عليها مجلس الجامعة في أبريل 1950، ودخلت حيز التنفيذ سنة 1952 في مادتها الأولى بالحرص على دوام الأمن والاستقرار وفض المنازعات بين الأعضاء بالطرق السلمية .
والملاحظ أنه عند إنشاء جامعة الدول العربية تباينت الآراء ما بين الداعي للالتزام بالأحكام القضائية من خلال التحكيم (العراق ومصر)، وبين المطالبين بالحفاظ على سيادة الدول الأعضاء وعدم المساس بهذه السيادة (لبنان)، لذا جاء الميثاق كحالة توفيقية لهذا الاختلاف، بل يمكن القول أنه انحاز للرؤية الثانية . ولذلك جاءت المادة الخامسة من الميثاق متناولة مسألة حل الخلافات بين الدول الأعضاء وسبل تسويتها سلميا مع تأكيدها على عدم الالتجاء للقوة لفض المنازعات بين دول الجامعة، أكثر تواضعا من نص المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة ومن منظمة الوحدة الإفريقية. فقد اقتصرت هذه المادة على ذكر وسيلتين هما الوساطة والتحكيم، مع الإشارة إلى أن الجامعة قد استحدثت وسائل أخرى للتسوية السلمية للمنازعات.
الوسائل المنصوص عليها في الميثاق
اقتصر الميثاق على ذكر وسيلتين هما الوساطة والتحكيم، كما أن معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي لم تتلافى النقص المشار إليه في الميثاق
1- الوساطة: اقتصر ميثاق جامعة الدول العربية على ذكر وسيلة سياسية ودبلوماسية واحدة تتيح تدخل مجلس الجامعة في فض المنازعات بطريقة سلمية متمثلة في الوساطة، مع ملاحظة أن الميثاق قد ربط مسألة إجراء الوساطة بالخلافات التي يمكن أن تتطور وتؤدي إلى نزاع مسلح أو يستشف منها إمكانية أن تؤدي إلى نشوب حرب بين الأطراف المتنازعة . وهذا يعنى، أن أي وساطة في أي نزاع عربي تقع من خارج المجلس لا تعتبر من قبيل الوساطة التي تقوم بها الجامعة، و إنما هي وساطة عربية. وقد اشترط الميثاق في الوساطة التي تقوم بها الجامعة أن تكون مقتصرة على المنازعات التي يخشى منها وقوع حرب بين دولتين عربيتين، وهذا أمر يمكن أن يؤخد ـ بطبيعة الحال ـ على واضعي الميثاق، إذ أن المفترض في وظيفة المنظمة الدولية أنها " وظيفة وقائية"، بمعنى أنها لا يجب أن تنتظر حتى يخشى من تصاعد نزاع ما ثم يتحول إلى حرب. ناهيك على أن الوساطة التي تحدث عنها الميثاق تتسم بسمة أساسية، وهي أن النتيجة التي تصل إليها ليست بالضرورة ملزمة.
فالوساطة تظل في النهاية مبادرة ودية يقوم بها المجلس بغية الوصول إلى حلول مرضية للأطراف المتنازعة، وفي أمور لا تخص مسألة استقلال الدول أو سلامة أراضيها أو سيادتها . وهذا بدوره يطرح تساؤلا عريضا، ماذا لو قبلت الأطراف المتنازعة اللجوء إلى مجلس الجامعة العربية في أمور يحق للمجلس بموجبها اتخاذ قرار ملزم ولم يطبق أحد الأطراف نتائج الوساطة ؟ خاصة في ظل غياب نص صريح يعالج مثل هذه الأمور.
إن ذلك ولا شك يساهم في إضعاف فعالية نظام التسوية السلمية للمنازعات التي تقوم بها الجامعة العربية، وقد بحث مجلس الجامعة في العديد من الخلافات العربية/ العربية، وخاصة في مسألة الحدود، فقد نظر في النزاع العراقي الكويتي سنة 1961، النزاع المصري السوداني، النزاع بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي، والنزاع الحدودي بين المغرب والجزائر. وعموما، يمكن القول أن الوساطة ( كوسيلة سياسية ودبلوماسية) يتوقف نجاحها على العديد من الاعتبارات أهمها: موقف الأطراف المتنازعة، رغبتها في تدخل مجلس الجامعة ، طبيعة النزاع ودرجة خطورته، التأثيرات الخارجية وغيرها.
2- التحكيم : يظهر من خلال قراءة نص المادة الخامسة من ميثاق جامعة الدول العربية أنها أشارت إلى جانب الوساطة كوسيلة سياسية، إلى التحكيم كوسيلة قضائية مع تأكيدها على التحكيم الاختياري وليس الإجباري، وهذا يعني أن المسألة تظل مرهونة برغبة وإرادة الأطراف المتنازعة، فلا يحق لمجلس الجامعة القيام بمهمة التحكيم بدون رضى الأطراف المعنية بنزاع أو خلاف ما بغض النظر عن درجة خطورة هذا النزاع و طبيعته.
إن تحديد الإطار السابق يساهم في إضعاف دور الجامعة العربية في هذا المجال، كما أن غياب أية إشارة في الميثاق إلى طبيعة الجزاء الذي يمكن أن يترتب على الأطراف التي قبلت التحكيم ثم رفضت الالتزام بقراراته . ولذلك يعد الطابع الاختياري الذي تمسكت به الدول العربية عند تأسيسها للجامعة العربية خوفا على استقلالها وسيادتها الوطنية (الموقف اللبناني) من جهة، ثم تخويل جهاز سياسي-مجلس الجامعة- القيام بمهمة التحكيم وليس جهازا قضائيا، دفع بالبعض إلى رفض فكرة التحكيم الإلزامي (الموقف العراقي) معتبرا أن القيام بهذه المهمة من قبل مجلس الجامعة سيخلق وضعا خطيرا يهدد تركيب الجامعة بصفة شاملة.
الوسائل الغير المنصوص عليها في الميثاق
شهد مجلس جامعة الدول العربية تطورا بالنسبة لدوره في مجال تسوية المنازعات العربية، وذلك على مستوى استخدام أساليب جديدة خارج الإطار الضيق الذي حدده الميثاق في الوسيلتين السابقتين أي الوساطة والتحكيم الاختياري، فقد استعان المجلس بالعديد من الوسائل و"التكتيكات"، فلجأ في المنازعات المختلفة التي عرضت عليه إلى المساعي الحميدة والمصالحة والتحقيق وبعثات تقصي الحقائق. كما اعتمد المجلس أسلوب الفصل بين الأطراف المتنازعة من خلال إرسال قوات عربية مشتركة، وقد حدث ذلك مرتين في تاريخ الجامعة: الأولى كانت أثناء النزاع العراقي الكويتي سنة 1961، والمرة الثانية كانت أثناء أزمة الحرب الأهلية اللبنانية . إلا أن أهم وسائل تسوية المنازعات العربية غير الواردة في الميثاق تتمحور حول جهازين رئيسيين: الأمين العام، ودور دبلوماسية مؤتمرات القمة.
1- الدور السياسي للأمين العام في تسوية المنازعات العربية.
و قد استند الأمين العام في قيامه بدور سياسي رئيسي في مجال تسوية المنازعات العربية والوساطة بين الأطراف العربية المتنازعة إلى تزايد اهتمام الجامعة - وبصفة خاصة المجلس ـ بمنصب الأمين العام ، والاقتناع بأهمية هذا المنصب ، باعتباره أحد العوامل الفاعلة في إدارة مختلف المنازعات العربية المحلية بشكل إيجابي. كما استند الأمين العام إلى مجموعة النصوص الواردة في النظام الداخلي لكل من مجلس الجامعة والأمانة العامة وفي مقدمتها المادتين 20 و21 من نظام المجلس الداخلي .
وقد تزايد دور الأمين العام بدرجة ملحوظة مما أدى إلى اعتماد المجلس عليه في القيام بمهام الوساطة والتوفيق وبدل المساعي الحميدة ، وقد بلغ هذا الاعتماد من طرف المجلس على الأمين العام حدا كبيرا ، إذ كان يعهد إليه كليا بالقيام بدور الوسيط في الكثير من الحالات ، كما أن الأمين العام كثيرا ما يقوم بجهوده التوفيقية بين أطراف النزاع حتى قبل تكليف المجلس له ، وقيام الأمين العام بذلك يمثل ضرورة تفرضها مقتضيات وظيفته ، فلكي يتسنى له مثلا توجيه نظر مجلس الجامعة أو الدول الأعضاء إلى أية مسألة تسيء إلى العلاقات القائمة بينها ، يتعين عليه بادئ ذي بدء أن يلم بالقدر الكافي بحقائق الموقف موضوع النزاع . ولم يتردد مجلس الجامعة في الترحيب في دوراته العادية بالجهود التي يقوم بها الأمين العام بالوساطة بين أطراف نزاع ما على امتداد الساحة العربية ، وكثيرا ما كان يطلب منه الاستمرار في بدل تلك الجهود .
وقد حدث ذلك على سبيل المثال بالنسبة لأزمة الحدود بين اليمن الشمالية واليمن الجنوبية سنة 1972 ، حيث أصدر المجلس قرارا بأن يستمر الأمين العام في مجهوداته من أجل تحقيق مصالحة الدولتين وبمساعدة لجنة خاصة مكونة من ممثلي بعض الدول الأعضاء . وفي الحرب الأهلية اللبنانية لم يتردد الأمين العام في بدل مساعيه لدى الأطراف المتنازعة منذ اللحظة الأولى لنشوب القتال ، و قد رحب المجلس في دورته العادية الثالثة و الستين بالجهود التي كان يبذلها الأمين العام في هذا الشأن. كذلك من الأدوار الرئيسية التي اضطلع بها الأمين العام بتكليف من المجلس دوره في أزمة الكويت عام 1961 ، فقد قام الأمين العام ( عبد الخالق حسونة ) بدور ملحوظ في تلك الأزمة و بصفة خاصة فيما كان يتصل بإنشاء و إرسال قوات حفظ السلام العربية التي صدر بشأنها قرار المجلس .
على أن تعاظم دور الأمين العام في مجال تسوية المنازعات العربية المحلية قد برز بوضوح شديد في حالة نزاع الحدود بين المغرب والجزائر سنة 1963 ، فبعدما تدهور الموقف بين الطرفين بادر الأمين العام بدعوة مجلس الجامعة للإنعقاد في دورة غير عادية لبحث هذا النزاع.
ولا شك أنه إذا كانت مبادرة الأمين العام بدعوة مجلس الجامعة للإنعقاد في دورة استثنائية لبحث النزاع المغربي الجزائري ، قد جاءت بالأساس انطلاقا من النص الذي تقرره المادة 20 من النظام الداخلي للمجلس، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يلجأ فيها الأمين العام لاستخدام حقه بمقتضى هذه المادة ، إلا أن ما يميز مبادرة الأمين العام هذه استحداث أسلوب تدخل على النحو الذي تم به وإن كان لم يحقق النجاح المرجو، وكانت هذه سابقة تبنتها الأمانة العامة لنفسها توسيعا لإمكاناتها لدعوة المجلس للانعقاد .
وعلى العموم لعبت شخصية الأمين العام دورا سياسيا في تطوير كفاءة الجامعة في التعامل مع المنازعات العربية، ففي كثير من الحالات قام الأمين العام بدور الوساطة والتحقيق والاتصال بأطراف النزاع حتى قبل صدور تكليف رسمي من المجلس. وهذه النتيجة تؤيدها الدراسة السلوكية التي قدمها الأستاذ "ارنيس هاس" وزملاؤه حول إدارة الصراع في المنظمات الإقليمية ومنها جامعة الدول العربية، وقد انتهت هذه الدراسة إلى أن الجامعة تتميز بمركزية دور الأمين العام في تسوية المنازعات، حيث تمت تسوية حالة واحدة فقط بدون تدخل فعال للأمين العام وهي حالة النزاع بين لبنان والجمهورية العربية المتحدة سنة 1958، كما أن الأمانة العامة قامت بمجهودات توفيقية في تسوية بعض المنازعات العربية في مهدها قبل أن تنفجر وتعلن على الملأ .
وعلى الرغم من الظروف الموضوعية التي كانت وراء تعاظم الدور السياسي للأمين العام على صعيد تسوية الخلافات و المنازعات العربية، فان هذا الدور المتعاظم كثيرا ما يتعرض للنقد من جانب بعض الدول الأعضاء و هي ظاهرة تعود في الواقع إلى السنوات الأولى لقيام الجامعة، كما أنها ليست مقتصرة على أمين عام جامعة الدول العربية، بل نكاد نجدها في أغلب المنظمات الدولية .
2- دور دبلوماسية مؤتمرات القمة العربية في تسوية المنازعات العربية :
إن الاجتماعات الدورية لرؤساء الدول والحكومات العربية لها فائدتها في التسوية السلمية للمنازعات التي قد تنشأ بين الدول العربية لأن في ذلك فرصة للقاء الزعماء والقيادات العربية، ويعني حضور الأطراف المتنازعة جلسات مؤتمر القمة أنه قد تتاح الفرصة المناسبة للمساعدة عن طريق طرف ثالث مستعد لتقريب وجهتي نظر الأطراف المتنازعة ، حيث إن مناخ عقد مؤتمرات القمة قد تتهيأ فيه الفرصة لمباشرة الدبلوماسية الشخصية لرؤساء الدول ، ولذلك نجد أن لمؤتمر القمة دوره الفاعل في التسوية السلمية للمنازعات ، خاصة إذا كان طرفا النزاع حاضرين في المؤتمر، و في حالة تعذر جمع طرفي النزاع يحتاج الأمر إلى طرف ثالث لمحاولة الوصول إلى تسوية .
وهكذا فجامعة الدول العربية استحدثت دبلوماسية القمة العربية كإحدى أدوات تسوية المنازعات العربية، معبرة بذلك عن قدرة الجامعة على التكيف مع الظروف الجديدة ، وقد لعبت اجتماعات رؤساء وملوك الدول العربية دورا محوريا في تسوية المنازعات من خلال صورتين :
ـ الصورة الأولى : أن تخلق اجتماعات القمة المناخ المناسب للتفاهم بين رؤساء الدول الأطراف المتنازعة، حتى وإن لم يكن الهدف من الاجتماع هو تسوية النزاع ،وعلى سبيل المثال فقد مهد اجتماع القمة العربية الأول عام 1964 إلى لقاء مصري سعودي لتسوية الأزمة اليمنية ، ولقاء جزائري مغربي لتسوية الأزمة بين الدولتين . و بعبارة أخرى فإن جامعة الدول العربية تقوم بوظيفة " اتصالية" بين القيادات العربية تمهد بالتالي لتسوية المنازعات.
الصورة الثانية : هي اجتماع رؤساء و ملوك الدول العربية في إطار الجامعة من أجل تسوية نزاع عربي ، و من أمثلة هذه الصورة اجتماع القمة العربية في أكتوبر 1976 للنظر في الحرب الأهلية في لبنان، و هو الاجتماع الذي أسفر عن وضع التشكيل النهائي لقوات الردع العربية في لبنان.
و بالإضافة إلى مؤتمرات القمة العربية ، تلعب اجتماعات مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية دورا مؤثرا في دراسة الملفات العالقة تمهيدا لعرضها على مؤتمر القمة بهدف إيجاد تسوية سلمية للمنازعات العربية.

تاريخ النزاع أطرافه طبيعته الأنظمة المتنازعة دور الجامعة تسويته
1948 حرب أهلية يمنية داخلي -- محدود انتصار أحد الأطراف
1949 سوريا- لبنان -- وسط- وسط لم تتدخل الجامعة وساطة مصرية سعودية
1958 مصر- السودان حدودي تقدمي –وسط لم تتدخل الجامعة الأمم المتحدة
1961 العراق- الكويت حدودي تقدمي- محافظ إرسال قوات طوارئ عربية لم تقم بأي دور يذكر إنشاء لجنة مختلطة لترسيم الحدود
1963 المغرب-الجزائر حدودي محافظ- تقدمي الدعوة إلى تكوين لجنة وساطة اتفاق ثنائي
1972 اليمن ش-اليمن ج حدودي وسط- تقدمي دور الأمين العام في إنشاء لجنة وساطة اتفاق ثنائي
1975 حرب أهلية لبنانية -- -- لعب الأمين العام دور التوصل لاتفاق الأطراف اتفاق ميثاق الطائف
1990 العراق- الكويت حدودي تقدمي- محافظ لم تتدخل الجامعة الأمم المتحدة
المصدر
مشروع آلية جامعة الدول العربية للوقاية من النزاعات وإدارتها وتسويتها عام 2000
اتفق مجلس جامعة الدول العربية على ما يلى:
1- إنشاء آلية تسمى "آلية جامعة الدول العربية للوقاية من النزاعات وإدارتها وتسويتها"، تعمل تحت إشراف مجلس الجامعة، وفى إطار مباشرته لمهام التسوية السلمية للمنازعات ووفقاً لتوجيهاته.
2- تهدف هذه الآلية فى الوقاية من النزاعات بين الدول العربية. وفى حال حدوث مثل هذه النزاعات، تعمل على تطويقها والحد من آثارها وتسويتها، والتعاون مع المنظمات الاقليمية والدولية عند الاقتضاء.
3- التزام الآلية بالمبادئ المنصوص عليها فى ميثاق جامعة الدول العربية، ومعاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى بين دول الجامعة العربية ، وبصفة خاصة مبادئ احترام سيادة جميع الدول الأعضاء وسلامة أراضيها، وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، وحل النزاعات بالطرق السلمية.
4 - لايجوز الالتجاء الى القوة لفض المنازعات بين دولتين أو أكثر من دول الجامعة، فإذا نشب بينهما خلاف لا يتعلق باستقلال الدولة أو سيادتها أو سلامة أراضيها، ولجأ المتنازعون الى المجلس لفض هذا الخلاف، كان قراره عندئذ نافذاً وملزماً. وفى هذه الحالة لا يكون للدول التى وقع بينها الخلاف الاشتراك فى مداولات المجلس وقراراته. ويتوسط المجلس فى الخلاف الذى يخشى منه وقوع حرب بين دولة من دول الجامعة، وبين أية دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها، للتوفيق بينهما. وتصدر قرارات التحكيم والقرارات الخاصة بالتوسط بأغلبية الآراء.
5- إذا وقع اعتداء من دولة على دولة من أعضاء الجامعة، أو خشى وقوعه فللدولة المعتدى عليها، أو المهددة بالاعتداء، أن تطلب دعوة المجلس للانعقاد فوراً. ويقرر المجلس التدابير اللازمة لدفع هذا الاعتداء، ويصدر القرار بالإجماع، فإذا كان الاعتداء من إحدى دول الجامعة، لايدخل فى حساب الإجماع رأى الدولة المعتدية. وإذا وقع الاعتداء بحيث يجعل حكومة الدولة المعتدى عليها عاجزة عن الاتصال بالمجلس، فلممثل تلك الدولة فيه، أن يطلب انعقاده للغاية المبينة فىالفقرة السابقة. وإذا تعذر على الممثل الاتصال بمجلس الجامعة، حق لأى دولة من أعضائها أن تطلب انعقاده
وبالرغم من هذه الالية الجديدة يظل دور الجامعة العربية في تسوية المنازعات محدودا ومحكوما بتوجهات الدول الاعضاء وحالة الاستقطاب في الصف العربي، والاهم من ذلك تدخلات القوى الكبرى ذات المصالح وبالذات امريكا التى اصبحت تفرض حلول تتماشى مع مصالحها بعيدا عن مصالح هذه الدول، ويكفى ان نلقى نظرة الى النزاعات في لبنان والصحراء الغربية والعراق والسودان، والتى لم تستطع الجامعة العربية تحقيق ايه تقدم في هذه النزاعات، بل يبدو موقفها وكأنه يتماهى في بعض الاحيان مع الموقف الامريكي من النزاع وما يحدث فى لبنان خير مثال على ذلك.