الثلاثاء، 19 فبراير 2008

الدين والدولة في امريكا
أمريكا دوله لها روح كنيسة
بقلم / يوسف العاصي الطويل
مقدمه
قد يبدو القول بوجود دور قوى وفعال للدين في العملية السياسة ، وفى الحياة العملية في بلد صناعي متقدم كالولايات المتحدة ، في أواخر القرن العشرين، في أسوأ الحالات، كتقول وادعاء، وفى أقلها سوءاً، كإسقاط لأفكار مسبقة عن تأثير الغيبيات ...
"غير أن ذلك يسقط من الاعتبار الحقيقة الماثلة في أن قادة المجتمع الأمريكي السياسيين والروحانيين على السواء ، عنوا بأن يتخذوا مواقفهم منذ نشأة جمهوريتهم وحتى الآن ، على قمة متاحة من الأرض الأخلاقية العالية، مستمدين باستمرار السند والمبرر لكل تصرف أمريكي في شؤون أمريكا والعالم من الدين والأخلاقيات العليا ، ومن المصطلحات ذات الرنين الأخلاقي القوى ، كـ "الحقوق الإنسانية"، "والقانون الدولي"، و"الحضارة" وما أشبه، ومسبغين على أنفسهم وعلى بلدهم عباءة الاضطلاع بعبء رسالة حملت العناية الإلهية ذاتها لا أقل، الأمة الأمريكية بها لصالح البشر جميعاً"(مقار، 1992، ص 323).
وعندما قمت في عام 1993م بنشر دراسة بعنوان (الصليبيون الجدد .. الحملة الثامنة) في جريدة القدس في فلسطين، والتي تحولت فيما بعد إلى كتاب يحمل نفس العنوان ـ نشر في كل من فلسطين ومصر، محاولاً إبراز الأبعاد الدينية للتحيز الأمريكي البريطاني لإسرائيل ـ استغرب في حينه كثير من الأصدقاء هذه التسمية ، اعتقاداً منهم أن العصر الذي نعيش فيه لم يعد به مجال للحروب الصليبية ، والعداوات الدينية، ولكنهم بعد قراءة الكتاب والأمثلة العديدة التي وردت فيه لتأكيد هذا البعد، هالهم ضخامة الدور الذي يلعبه الدين في رسم سياسة وتوجهات أكبر دولة في العالم ، تجاه المنطقة العربية والعالم الإسلامي.
وبالرغم من إدراكي، أن الحديث حروب صليبية وعن دور للدين في تشكيل فكر وثقافة اكبر قوة في العالم وبالذات في هذا العصر، عصر الفضاء والذره، سيعتبر أمراً مستهجناً لدى البعض، على اعتبار ان الدين التقليدي شأنه في ذلك شأن الطب البدائي والمحراث الذي يجره الحصان سيختفي حتماً مع تقدم الثقافة والتعليم الحديثين، إلا أن ذلك لا يعنى اغفال الدور الذي لعبه الدين في الحياة الأمريكية، والذى برز بقوه في ظل قيادة بوش والمحافظون الجدد. فكما يقول المؤرخ الإغريقي (بلوكارل) : قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور... ومدن بلا مدارس ... ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد.

الفصل الاول
الدين ودوره في نشأة الامه الامريكية
تمهيد
تشير المعطيات التاريخية إلى أن الهنود الحمر كانوا أول من سكن القارة الأمريكية منذ القدم (حوالى 10000)، حيث كانت لهم ثقافة مزدهرة، عاشت في ظلها القبائل الهندية المختلفة بسلام ووئام، وظلوا بعيدين عن التأثر بالعالم الخارجي بسبب وجودهم على الطرف الآخر من المحيط . ولكن ذلك لا يعنى أنهم كانوا بمعزل كامل عن العالم كما يعتقد البعض، وكما يروج الغرب لذلك لأسباب استعمارية ليعطي نفسه الحق في نهب هذه البلاد لأنها من اكتشافه هو ـ أي الغرب. وهنا تجدر الإشارة إلى أن العرب المسلمين قد وصلوا إلى أميركا، قبل كولومبوس بخمسمائة سنة، حيث وصل الملاح (خشخاش بن سعيد القرطبي) إلى جزر البحر الكاريبي عام 889 م ، ثم وصل بعده (الملاح بن فروخ الأندلسي) إلى جزيرة جامايكا عام 999 م. وعندما وصل كولومبوس إلى ميناء بالوس في كوبا عام 1492م لم يجرؤ على النزول في تلك المنطقة ، عندما شاهد قبة مسجد بالقرب من الشاطئ فحول اتجاهه إلى جزيرة صغيرة، وقد كان يظن نفسه متجها إلى الهند في طريق التفافي لا يسيطر عليه العرب والمسلمون.
وكولومبوس نفسه كان عام 1467م بحارا مغمورا في سفينة عربية أبحرت على سواحل أفريقية ، ثم وصلت البرازيل دون أن يعرف أنه وصل إلى قارة جديدة، وعندما أبحر بعد ذلك بربع قرن بتمويل وتشجيع من الملكة (إيزابيلا) ملكة أسبانيا ، كان ثلث بحارته من العرب ويعتمد على خرائط وأدوات عربية، أما أول من وصل إلى القارة الأمريكية فهو الملاح الفينيقي (ماتو عشتروت) عام 508 ق.م ، ثم الملاح القرطاجي (روتان) عام 504 ق.م. وتدل الآثار المتبقية والدراسات على اندماج وتأثر واضح لسكان أميركا بالعرب دون أن تطمسهم الحضارة العربية أو تفنيهم" (هلباتش، ب، ت).
وفي كتابه عن الهنود الحمر، قام الكاتب التشيكي فلاديمير هلباتش بجمع حكايات الهنود الأميركيين وأساطيرهم متيحاً نافذة نادرة لمعرفة ثقافة أمة لم يعد لها وجود إلا في كتب التاريخ ، ومراجع الأنثروبولوجيا. فقد كان للهنود الأمريكيين ثقافة مزدهرة ، مفعمة بالمعاني الإنسانية الراسخة، وكان وصول الأوروبيين بداية لانحسارهم ، بل وانقراضهم . فمن أبرز ما محاه تاريخ المنتصر إعجاب الغزاة بروعة ما شاهدوه لدى الهنود من أفكار وتقنيات وشرائع وعادات وفنون وفلسفه حياة وأساليب بلاغيه وفصاحة لسان. "ولكن تاريخ المنتصر وحش لا يسمن ويقوى إلا بلحم الفرائس الآدمية، لقد محا الحسنات وأباد أهلها المحسنين، ولم يترك منهم إلا تلك الصورة الهوليووديه المشوهة لكائنات عراة متوحشين ، ينبت في رؤوسهم الريش ، ويعوون في البراري كما تعوي الضباع"(العكش، 2002، ص174).
بداية الاستعمار الاوروبي لامريكا
عندما وصل الأوروبيون إلى أمريكا، وجدوا فيها شعوبا ذات حضارات عريقة، كونوا فوق أرض القارة ممالك وإمارات منذ آلاف السنين ، ولهم عاداتهم الخاصة بهم وأديانهم وأزيائهم، وكان هؤلاء السكان الذين سماهم الأوروبيون هنودا حمرا يعيشون في رغد من العيش ، ويمارسون الأنشطة الحضارية من زراعة وصناعة وتعدين، يرتادون البلاد شرقا وغربا ، ويكتشفون المناجم ويستغلونها. كما أقام حكام هذه البلاد من الهنود الحمر الهياكل والمعابد والقصور الشاهقة ، ومنها أهرمات تشبه أهرمات الجيزة إلى حد ما ، وان لم تكن في ضخامتها، وكان هؤلاء السكان يعرفون الفنون المتطورة من حفر ونقش وإقامة للنصب والتماثيل، كما كان لهم باع طويل في أساليب الزراعة ،واستغلال الأرض، واستئناس وتربية المواشي، وكان من هذه الشعوب ـ أيضا بدو رحل وظيفتهم الصيد والترحال (عبد السلام، 2005، ص 39).
وصل كريستوفر كولومبوس (1451-1506) ( الرحالة الايطالي المشهور) إلى جزء من امريكا بتمويل من الملكة الاسبانية (ازبيلا) بهدف ايجاد مستعمرات جديدة للامبراطورية الاسبانية وبهذا كان أول من أنشأ ارتباطات دائمة بين أمريكا والقارات الأخرى، حيث أسس الاسبان مدينة فلوريدا عام 1513، وحاولوا تأسيس مدن جديدة في شمال أمريكا، ولكنهم لم ينجحوا بدرجة كبيره، ولكن جاء الانجليز وكانوا اول من نجح في ذلك، حيث تم تأسيس مدينه على شاطئ ولاية فيرجينيا الحالية عام 1607 ، سميت (جيمس تاون)، وقام بعد ذلك بعض المهاجرون من المتديين الانجليز الذين فروا من الاضطهاد الديني في انجلترا بأسسيس ولاية ماساتشوستس عام 1620.
وهكذا "أقدم نوعان من الناس على اقتحام العالم الجديد لبناء المستعمرات أوائل القرن السابع عشر الميلادي ، كانا، كلاهما، يبحثان عن مصيريهما. إلى فرجينيا مع الكابتن جون سميت ذهب المغامرون والحرفيون سعياً وراء الثروة. وإلى ماساتشوستش مع حاكم الولاية (جون ونثروب) ذهب الحجاج والطهريون (البيوريتانيون) بحثاً عن الفردوس. هذان الدافعان ظلا يحركان عملية التوسع الأمريكية منذ ذلك التاريخ"(برستوفتز، 2003، ص43).
حركة الاصلح الديني وهجرة البروتستانت الى امريكا
اظهر القرن الخامس عشر الميلادي تحولات عميقة في النفس المسيحيةـ الغربية على الأقل ـ مع بزوغ ما عرف بحركة الإصلاح، وما استتبعه ذلك من انشقاق سياسي وعقائدي داخل الديانة المسيحية بشكل عام، والكاثوليكية الغربية بشكل خاص، ولم يكن الانشقاق داخل الكنيسة ـ رغم الطابع الأيديولوجي الذي اصطبغ به ـ بعيداً عن صراعات السيادة بين الأمم الأوروبية يومها، خصوصاً بين فرنسا وإنجلترا وألمانيا، فقد انحازت الكنيسة الكاثوليكية إلى جانب فرنسا، مما جعل الشعبين الإنجليزي والألماني يميلان إلى اعتناق المذهب البروتستانتي الذي يدعو للتحرر من سلطة الكنيسة.
والمعروف ان التراث الديني في كُلٍّ من بريطانيا وأمريكيا، يستمد أصوله من المذهب البروتستانتي السائد في هاتين الدولتين، والذي نشأ مع حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر في القرن السادس عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية في روما . حيث دعا إليه لوثر من وجوب إقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصي دون الخضوع لفهم رجال الدين لها. فأصبح كل بروتستانتي حر في دراسة الكتاب المقدس وتفسيره ، واستنتاج معنى النصوص بشكل فردى مع عدم الاعتراف بأن فهم الكتاب المقدس وفقاً على رجال الكنيسة وحدهم . وهذا الوضع أدى إلى فتح الباب على مصراعيه أمام أصحاب البدع والأضاليل، مما أدى إلى تعدد الفرق البروتستانتية نفسها حتى وصل عددها الآن إلى أكثر من 200 فرقة في مذهب لم يتعدَ وجوده أكثر من أربعة قرون!( مظهر، 1984، ص 231).
كما أنه في ظل هذا المذهب ازداد الاهتمام بالعهد القديم (التوراة) تحت شعار العودة إلى الكتاب المقدس باعتباره مصدر العقيدة النقية، مع عدم الاعتراف بالإلهامات والتعاليم غير المكتوبة التي يتناقلها الباباوات الواحد عن الآخر، والتي تعتبر مصدراً مهماً من مصادر العقيدة المسيحية. وهكذا أصبح العهد القديم يشكل جزءاً مهماً من مصادر العقيدة البروتستانتية، فأصبح هو المرجع الأعلى للسلوك والاعتقاد، ومصدراً للتعاليم الخلقية والمعلومات التاريخية أيضاً، حيث أن العهد القديم يتكون من 39 سفراً يذهب أغلب الباحثين إلى أنه لا يمكن نسبة إلا خمسة أسفارـ تجاوزاً ـ إلى سيدنا موسى، أما الباقية فهي عبارة عن سجل لتاريخ بنى إسرائيل في فلسطين، بالإضافة إلى بعض الأسفار والنبوءات التي كتبها حاخامات اليهود على فترات متفاوتة من الزمن.
ويمكن القول أن جمع الكتابين(العهد القديم والعهد الجديد) في مجلد واحد هو من التحولات البارزة في عالم الأفكار والأديان، حيث إنه مع عصر النهضة وحركة الإصلاح الديني، أخذت التفسيرات الحرفية والشخصية للعهد القديم تنتشر وتسود، وذهب أتباع هذه الحركة إلى الاقتناع بأن ما ورد في العهد القديم هو نبوءة حرفية عن المستقبل . وخرجت من بطن هذه الحركة وتفسيراتها عقائد عبرت عن المدى الذي وصلت إليه عملية تهويد المسيحية، من بينها العقيدة الألفية، وهى عقيدة تعود في جذورها إلى اليهودية، لكن البروتستانتية أحيتها وجعلتها فكرة مركزية في عقيدتها، وتدور حول عودة المسيح المخلص الذي سيحكم العالم لمدة ألف عام، حيث يسود خلالها السلام والعدل في مجتمع الإنسان والحيوان. وعلى الرغم من أن العهد القديم لم يذكر نصاً حول هذه العقيدة التي تتحدث عن نهاية الأزمنة، فإن عناصر يهودية روجت لهذه العقيدة في عدد من المؤلفات والكتب، تعبيراً عن تطلع يهودي لفكرة الملك المقدس في المستقبل، والذي يأتي علي هيئة ماشيح عبراني، في حين رأت المسيحية التقليدية في هذه العقيدة نوعاً من الهرطقة والكفر، واعتبرت الكنيسة الكاثوليكية هي مملكة المسيح (الحسن، 2003، 9، مارس) .
العهد القديم بين الكاثوليك والبروتستانت
بالرغم من ان المسيحية تشترك مع اليهودية في ما يسمى بالعهد القديم، الا المسيحية أضافت إليه العهد الجديد الذي تحدث عنه السيد المسيح، حيث تختلف المسيحية عن اليهودية في تفسير هذا الجزء المشترك المسمى بالعهد القديم، ولكل من الطرفين تفسير لاهوتي مختلف، وإن بقيت الكثير من طقوس العبادة والحياة المسيحية، لكن الخلاف الجوهري والفاصل في ما بينهما هو على هوية يسوع الناصري (صبرا، 2003، 15، فبراير) وتفسير العهد القديم . ولهذا فقد كان العهد القديم (التوراة) مهملاً قبل حركة الإصلاح الديني ، حيث كان الاعتماد الأساسي على العهد الجديد ، ورسائل الرسل ، والإلهامات غير المكتوبة للباباوات، وكانت اللغة العبرية لغة ميتة، حيث كانت الأساطير الكاثوليكية ترى أن دراسة اللغة العبرية تسلية الهراطقة، وأن تعلمها بدعة يهودية.
فالكنيسة الكاثوليكية عملت على تطوير الكنيسة عبر العصور، وخلصتها من الكثير من العناصر الوثنية العالقة بها، وخصوصاً العهد القديم ؛ بل إنه كان هناك اتجاه في بدايات العهد المسيحي لإلغاء العهد القديم، وعدم اعتباره ضمن الكتب القانونية الدينية، لكن اتجاهاً آخر رأى في حذفه خسارة للمسيحية، إذ يعني ذلك حرمان الكنيسة من حقها في وراثة اليهودية . لكن هذا الأمر تطلب من الكنيسة المسيحية محاصرة العناصر الوثنية في العهد القديم، وتقديم تفسيرات مجازية ورمزية لكل ما جاء فيه. فكلمات : القدس ، أو أورشليم أو صهيون أو الأرض الموعودة .. الخ عند الكاثوليكية، تحمل معاني روحية، وتقع في السماء، وليست أسماء لأمكنة حقيقية على الأرض . كما رأت في مسألة عودة اليهود إلى فلسطين أنها عودة تمت قبل ميلاد المسيح حينما عاد بعض اليهود من سبي بابل في القرن الخامس قبل الميلاد، وان أمر اليهود انتهى كشعب يحفظ وديعة ويسلمها للمسيحيين، وأن الشعب المختار هو كل من يؤمن بالله.
وبناء على هذا التفسير الجديد للعهد القديم اعتبرت المسيحية التقليدية أن ما ورد في العهد القديم هو أحداث وقعت في الماضي ، أو نبوءات تم تحقيقها، وان ما جاء في العهد الجديد هو ثورة على العهد القديم، وفقاً لما جاء في إنجيل يوحنا " لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم" ورأت أن كل القصص التي رواها العهد القديم هي رموز لحالات روحية وأخلاقية . ذلك إن إسرائيل الجديدة مثلاً هي الكنيسة.
كما تؤمن الكاثوليكية التقليدية أن إبراهيم عليه السلام عندما اخذ الوعد من الله بالأرض لم يفهمه على انه تصريح له من الله بسرقة الأرض من مالكها، حتى لو كانت الأرض هبة من الله فهي مشروطة بطاعة الواهب . كما ترى ـ أيضا ـ أن العهد مرتبط بتحقيق وصايا الله وطاعته لا رفض حكمه، وان ارض الميعاد الحقيقية عند المسيح هي الأرض كلها، وكل ارض يتحقق فيها وعد الله .
"فمن المحقق للمسيحي الحق ان (الوعد) الذي أنجز بمجئ يسوع المسيح لا يمكن أن يكون وعداً بأرض. فقد رفض يسوع المسيح في ثلاثة مواقف من الإنجيل رفضاً قاطعاً أن يربط رسالته بموضوع امتلاك أرض أو سلطة. وهكذا فالعهد الجديد الذي يعد البشرية كلها بالخلاص الأبدي يجعل من العهد القديم (عهداً) عفى عليه الزمن لأنه يعد شعباً مخصوصاً بأرض مخصوصه" (جارودي، (1991) ص151، 152).
وبالنسبة للقدس ـ المدينة التي لم تتجاوب مع دعوة السيد المسيح ورسالته والتي حوكم فيها ـ لا ترى الكنيسة الكاثوليكية فيها علامة من علامات المجيء الثاني للمسيح . ولعل هذه التفسيرات، وهذا الإيمان، ما أبقى كتاب العهد الجديد منفصلاً عن كتاب العهد القديم، ولم يجمعا معاً في كتاب واحد أطلق عليه الكتاب المقدس، إلا مع ولادة حركة الإصلاح الديني (البروتستانتية) على يد الملك هنري الثامن عام 1538، عندما تمت ترجمته إلى الإنجليزية وإتاحته للناس للقراءة، وقد تم ذلك عندما رفض البابا طلاق هنري من زوجته آنبولين مما دفعه إلى تبنى حركة الإصلاح الديني (الحسن، 2003، 9، مارس) .
بريطانيا والاصلاح الديني
وطدت حركة الإصلاح الديني أقدامها في إنجلترا منذ أن أنفصل الملك (هنري الثامن) عن كنيسة روما في القرن السادس عشر، حيث لعب الخلاف بينه وبين كنيسة روما حول طلبه الموافقة على طلاق زوجته دوراً رئيسياً في انتشار البروتستانتية في إنجلترا، مما دفع الملك هنري إلى إصدار أمره الملكي سنة 1538م إلى كنائس إنجلترا بإنهاء الوصاية الكهنوتية على الكتاب المقدس وتفسيره، وتمكين كل فرد من المؤمنين من الإطلاع على نصوص الأسفار المقدسة وتفسيرها التفسير الذي يمليه عليه عقله وضميره (بينتون، (ب. ت) .
كما ساهمت طموحات الطبقة الرأسمالية الناشئة في حدوث هذا الانفصال، حيث كان التجار الأثرياء كارهين أشد الكره لسطوة الكنيسة الكاثوليكية وقيودها على التجارة والمعاملات المالية، وبخاصة فيما يتعلق بمسألة الفوائد على رؤوس الأموال (الربا) . حيث كانوا ضائقين أشد الضيق بما رأوه تدخلاً غير مشروع من جانب بيروقراطية كهنوتية أجنبية في أنشطتهم التجارية ومعاملاتهم المالية ومتضررين مما كانت تفرضه على تلك الأنشطة من ضرائب، فكان دعمهم وترحيبهم بحركة الإصلاح الديني للتخلص من نفوذ الكنيسة الكاثوليكية" (مقار، 1992، ص 66) .
ثم وصلت حركة الإصلاح الديني إلى ذروتها في إنجلترا في القرن السابع عشر، في عهد ما يسمى بالثورة البيوريتانية، عندما تولى أولفرت كروميل السلطة وأعلن الجمهورية, حيث شهدت نهاية الحرب الأهلية ظهور محاولة البيوريتانيين أصحاب المذهب الطهراني في الاستفادة من التسوية الثورية لغرض استكمال الإصلاح الديني ، وإقامة مؤسسة دينية جديدة تستند إلى "البروتستانتية الربانية" ألحقة، تعم كلمتها المملكة وتستبعد الكثلكة مرة وإلى الأبد من الجسم السياسي البريطاني. حيث تم ذلك عند الإطاحة بالملك (جيمس الثاني) الكاثوليكي المذهب ، وهربه من البلاد وما تبع ذلك من وضع "لائحة الحقوق" عام 1688م ، ووضع الإطار الديني الذي توج في فترة لاحقة بإقرار التسامح الديني التام بين جميع المذاهب (دون، ب، ت).
وفي عهد البيوريتاريين ازداد الاهتمام بالعهد القديم بشكل كبير، وأصبح كتابهم الوحيد الذي يستمدون منه فلسفتهم وأفكارهم ومعتقداتهم وطريقة سلوكهم. كما ازداد في عهدهم الاهتمام باللغة العبرية بشكل كبير جداً.
"حتى جعلها بعضهم اللغة الوحيدة للصلاة وتلاوة الكتاب المقدس، وأقترح بعضهم أن يتضمن منهج التعليم العام في المدارس الثانوية دراسة العبرية، وظهرت لديهم نزعة التخلي عن المبادئ الخلقية المسيحية واستعاضوا عنها بالعادات والأخلاق اليهودية، بل إن إحدى مجموعاتهم المتطرفة دعت الحكومة الإنجليزية لإعلان التوراة دستوراً للقانون، وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فأعتنق اليهودية، أما الذين بقوا على مسيحيتهم فقد أخذوا ينظرون بعطف متزايد إلى أولئك الذين أطلقوا عليهم أسم شعب الله القديم "اليهود"(الشريف، 1985، ص 53) .
البيوريتانيون و تشكيل الفكر الامريكي
عندما بدأ الاستيطان الأوروبي لأمريكا كان معظم المهاجرين الجدد من البروتستانت، الذين فروا من الاضطهاد الديني الذي ساد أوروبا في ذلك الوقت، حيث هاجر إلي أمريكيا كثير من البيوريتان المتدينين، فراراً من الاضطهاد الديني الذي ساد إنجلترا أثناء حكم آل ستيوارت (النيرب، 1997، ص33)، حيث كانوا ينظرون إلى أنفسهم من منطلق خاص بهم .
"فعلى غرار الخروج الجماعي المذكور في العهد القديم والذي هرب فيه اليهود من مصر ورحلوا إلى ارض جديدة وعدهم الرب بها، نظر البيوريتانيون لأنفسهم على أنهم الشعب المختار الجديد، ونظروا إلى العالم الجديد على انه إسرائيل الجديدة . أما العالم القديم بالنسبة لهم، فكان هو مصر التي فروا منها . لقد عقدوا عهداً مع الرب : انه إذا أمن الرب ذهابهم إلى العالم الجديد، فإنهم سيؤسسون مجتمعاً تحكمه القوانين الإلهية" (كوربت، 2002، ص 44).
وهكذا كان هؤلاء المستوطنون الجدد يحملون معهم تراثهم الديني المستمد من العهد القديم، والذي أخذ يلعب دوراً رئيساً في تشكيل الفكر الأمريكي منذ ذلك الوقت. ومما قوى من أهمية هذا الدور، هو ربط هؤلاء المستوطنين بين تجاربهم التي مروا بها منذ رحيلهم من أوروبا وإنجلترا بالذات، وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء عندما فروا من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين (الحسن، 1986، ص 119). خيث اعتبروا أمريكا هي (أورشليم الجديدة) أو (كنعان الجديدة) وشبهوا أنفسهم بالعبرانيين القدماء حين فروا من ظلم فرعون (الملك الإنجليزي جيمس الأول) وهربوا من ارض مصر (إنجلترا) بحثا عن ارض الميعاد (الجديدة) (مكدوجال، 2001، ص 5) .
"فقد رأى البيوريتانيين في تجربتهم الخاصة المتمثلة "بالهروب إلى البراري" من أوروبا المنحوسة مساوية لتجربة اليهود الذين قادهم موسى من مصر، غير أنها كانت أكثر بكثير من تجربة مساوية . لقد آمنوا بأن تجربتهم لم تكن في الحقيقة إلا تجسيداً حياً لتجربة الخروج . وقد فسروا تجربتهم على أنها تكرار للتاريخ الذي شكل شعب الرب القديم" (مركلي، 2003، ص 105).
فهم مثلهم مثل اليهود فروا من الظلم بحثاً عن الأرض الموعودة التي تدر لبناً وعسلاً، وجابهوا الصعاب في رحلتهم عبر المحيط، كما حدث لليهود في صحراء سيناء عند خروجهم من مصر . كما أنهم جوبهوا بمقاومة السكان الأصليين كما جوبه اليهود بمقاومة أهل فلسطين، وعندما كانوا يعلنون الحرب على أصحاب البلاد الأصليين، كانوا يستحضرون العهد القديم، حيث ثمة تشابه بين تجاربهم في حربهم مع الهنود الحمر، وتجربة اليهود في حربهم ضد الفلسطينيين في الماضي . لقد عانوا من الانقسام ومن تجارب الحرب الأهلية المرة بين الشمال والجنوب، كما حدث مع اليهود القدماء عندما انقسمت مملكتهم إلى مملكتين إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب.
لقد كان هؤلاء المستوطنون يعلمون أن الأرض التي استولوا عليها من سكانها الأصليين ليست أرضهم، كما أنهم يعلمون أن ما يقومون به من عمليات اضطهاد وقتل وتشريد للسكان الأصليين، يتنافى مع أبسط المبادئ الأخلاقية، فكانوا لذلك بحاجة إلى شيء يبرر لهم أفعالهم هذه ويضفي عليها نوعاً من الشرعية والأخلاقية ولو مزيفة، فلم يجدوا هذا التبرير إلا في العهد القديم. فكما أن اليهود القدماء برروا احتلالهم لفلسطين بالإدعاء بأنها الأرض الموعودة التي وهبها الله لشعبه المختار ـ كما يقولون فإن هؤلاء المستوطنون الجدد فعلوا نفس الشيء بالإدعاء بأن الله أختار العنصر الأنجلوسكسونى البروتستانتي الأبيض لقيادة العالم ، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك عندما شبهوا الشعب الأمريكي بالشعب اليهودي الذي يسعى إلى دخول الأرض الموعودة.
ولأن زعم هؤلاء المهاجرين الأوائل بأنهم شعب الله المختار، لا وجود له في أي كتاب مقدس، فإن بعضهم سعى إلى إيجاد رابطة بينهم وبين اليهود الذين يدعون أنهم شعب مختار . لهذا فقد زعم أحد الكتاب ويدعى ريتشارد بروترز في كتابه (المعرفة المنزلة للنبوءات والأزمنة) بأن الإنجليز السكسون هم من أصل يهودي، على أساس أنهم ينحدرون من سلالات الأسباط التي أدعى اليهود أن أفرادها فقدوا بعد اجتياح الآشوريين لمملكة إسرائيل عام 721 قبل الميلاد (ربيع، (ب. ت) ص46). وربما يفسر هذا الادعاء ما كتبه هيرمان ملفيل في بداية القرن التاسع عشر متحدثاً عن الشعب الأمريكي حيث قال : "نحن الأمريكيون شعب خاص، شعب مختار وإسرائيل العصر الحاضر" (جوليان، (1970) ص 19) . يقول القس البروتستانتي صموئيل ويكمان في موعظته الشهيرة على ظهر السفينة (أرابلا) التي حملت أول مجموعه من البروتستانت البيورتانيين (التطهيريين) إلى خليج ماساشوستس:
"أن أورشليم كانت لكن نيوانجلاند (المستعمرة الأولى) هي الموجودة الآن، وأن اليهود كانوا لكنكم انتم (البروتستانت التطهيريون) شعب الله المختار ، وعهد الله معكم فضعوا اسم نيوانجلاند مكان اسم أورشليم). وعندما وصلت المجموعة الثانية من المستوطنين إلى شاطئ نيو انجلاند على ظهر السفينة (ماي فلاور) عام 1620 م وقعوا فيما بينهم (عهد ماي فلاور) الذي حددوا فيه طريقة الحياة التي يرغبونها وأسس المجتمع المثالي في أورشليم الجديدة أو إسرائيل الجديدة (أمريكا)... وذلك تمجيداً لاسمه تعالى، وترويجاً للدين المسيحي ..." (رافيتش، (1998) ص27) .
مما تقدم يتضح لنا أهمية الدور الذي لعبه التراث الديني المستمد من العهد القديم في تشكيل الفكر الأمريكي منذ بداياته الأولى، وهذا ما دفع والتر ماكدوجال في كتابه "أرض الميعاد والدولة الصليبية" إلى القول :
"أن نشأة أمريكيا كانت نتيجة اندفاعية دينيه، بل أن مغامرة كولمبوس لم تكن إلا مغامرة دينيه وبكلمات كولمبوس فإن الرب جعله رسولا للجنة الجديدة والأرض الجديدة بعد أن حدثه بها يوحنا المقدس في سفر الرؤيا وأراه النقطة التي يجدها عندها، أن اكتشاف أمريكا قبل أي شيء آخر كان نهاية حج عظيم ونهاية للبحث الروحي العظيم" (مكدوجال، 2001، ص 6) .
الأصولية المسيحية وعلمانية الغرب
من الأخطاء الشائعة لدى معظم المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين، اعتقادهم بلادينية الحضارة الغربية ، قياساً على الإفرازات الأخلاقية والفكرية لهذه الحضارة ، التي تفصل بين الدين والدولة. وهذا الاعتقاد خاطئ وربما يصدق على بعض الدول الغربية ، ولكنه لا يصدق عليها كلها. فهو يصدق على الدول الكاثوليكية مثل إيطاليا وفرنسا وأسبانيا، ولكنه لا يصدق على الدول البروتستانية مثل بريطانيا وأمريكيا .
الدول الكاثوليكية والعلمانية
الدول الكاثوليكية قبل أن تأخذ بمبدأ فصل الدين عن الدولة، كانت تخضع لسلطة البابا، وكان لزاماً عليها إطاعة أوامره، حيث بلغت سلطة البابا في ذلك الحين شأواً عظيماً. فقد كان البابا يدعى حق السيطرة الدينية والدنيوية على كل شيء ، وكانت الكنيسة تفرض ضريبة الأعشار على إتباعها وتجمع التبرعات وتضمها لمواردها الخاصة، فضلاً عن إعفاء أملاكها من الضرائب. وكان للبابا نواب يمثلونه لدى كافة الملوك والأمراء في أوروبا (الخشاب، ب. ت، ص 212) . ولكن عندما تأثرت هذه الدول بأفكار عصر التنوير وبحركة الإصلاح الديني ، قامت بفصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، بحيث لم يعد للبابا أي سلطان عليها. ولكن هذا الدول عندما فعلت ذلك فإنها خالفت قرارات المجامع المسكونية، التي اعتبرت كل المسيحيين بمن فيهم الحكام خاضعين للبابا وملزمين بطاعة أوامره، لأنه رئيس الكنيسة التي تحمل سلطان الله على الأرض (شلبي، 1979، ص 252 ، 253).
وهذا الوضع الجديد الذى نشأ فى هذه الدول، نتيجة فصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية ، يجعل الحديث عن علمانية هذه الدول له ما يبرره، وربما هذا ما يفسر قوة الأحزاب الشيوعية في البلدان الأرتوذكسية والكاثوليكية ، في حين أنها غير قوية في البلدان الأخرى، وعلى الأخص في البلدان البروتستانتية . فمن بين الأعمال المبكرة لماركس, والتي لم تحظ بالكثير من الشهرة, تعليق كتبه على إنجيل يوحنا. يجزم ماركس فيه بأن "المسيحية, بصيغتها البروتستانتية على وجه الخصوص, هي الشيء الوحيد القادر على إعادة صنع حياة دمرتها الخطيئة (كارفر، 2003)، لأن العامل عندما وجد انه مبعد عن مجتمع تدعمه الأوساط الكاثوليكية، انضم إلى اكليروس آخر مستكمل التكوين (دلماس، (1982)، ص 83) ، وهذا يعنى أن الدين الذي وصفه ماركس بأنه افيون الشعوب، هو الدين المسيحي بشقه الكاثوليكي والارثوذكسي، وليس الدين المسيحيى بشقه البروتستانتي ، الذي مدحه ماركس وغيره من مفكري التنوير كما سنلاحظ، بسبب فصله بين الدين والدولة .

الدول البروتستانتية والعلمانية
أن الدول البروتستانتية مثل بريطانيا وأمريكيا ، بتبنيها للمذهب البروتستانتي، قبلت بمبدأ فصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية ، الذي نادى به (لوثر) خلال محاولته تحجيم سلطة الكنيسة الكاثوليكية، كما وضحنا ذلك سابقاً.
فإلى جانب الإصلاحات الدينية الكاسحة التي قام بها (مارتن لوثر) و(جون كالفن) ، فإنهما ربما اقترحا إلغاء الصلة التي تربط بين الكنبسة والدولة ، والتي كانت تمثل جزءا أساسيا في الكاثوليكية في ذلك الوقت. ولكن في الحقيقة أيد كل من (مارتن لوثر) و(جون كالفن) إضفاء الطابع الرسمي على الكنائس التي أسهما في تأسيسها" (كوربت، 2002، ص 15).
وقد جاءت بعد لوثر فرق بروتستانتية متعددة مثل المعمدانيين لتؤكد هذا المبدأ، حيث كانوا أول من نادى بمبدأ فصل الدين عن الدولة ، لأسباب دينية أصولية أدعوا خلالها بأن الكنيسة في بدايتها الأولى لم يكن لها أي علاقة بالدولة. لهذا فإن الدول البروتستانتية مثل بريطانيا وأمريكيا عندما قامت بفصل الدين عن الدولة ، فإنها فعلت ذلك استجابة لعقيدة دينية، وليس استجابة لأفكار ونظريات فلسفية علمانية كما حدث في الدول الكاثوليكية والأرثوذكسية .
فنتيجة للثورة على الكنيسة الكاثوليكية خلال عصر الإصلاح ، رأي الغرب في العلمانية، كما قال الفيلسوف الإنجليزي البروتستانتي "جون لوك"( )، الطريقة الجديدة والأفضل ليكون المرء متديناً، معتبرا أن الخلاص الروحي ينبغي أن يقوم على ترك الأفراد ليقرروا بأنفسهم في نهاية المطاف، الطريقة التي يرشدهم بها الكتاب المقدس لتحقيق ذلك الخلاص, سواء كان ذلك عن طريق العمل الصالح أم برحمة من الله (دون، ب، ت). وهذه الطريقة الجديدة التي عرفت فيما بعد بالعلمانية، لم تكن تعني الابتعاد عن الدين، بل الاقتراب منه أكثر ولكن بدون وساطة من رجال الكنيسة، لهذا فإن الدين ظل يلعب دوراً رئيساً في حياة هذه الدول، بالرغم من أنها تفصل بين السلطتين الزمنية والدينية، لأن هذا الفصل لم يأتِ نتيجة لنزعة الحادية تنكرت للدين، بل جاء تلبية لمعتقد ديني.
وهذا الوضع الجديد للدين في هذه الدول يتمشى مع رأى (كالفن) في علاقة الكنيسة بالدولة، حيث كان يقول : إن الكنيسة والدولة مقدستان، وقد خلقهما الله لكي يعملا في انسجام كالروح والجسد لمجتمع مسيحي واحد. فعلى الكنيسة أن تضع القواعد التي تنظم التفاصيل الخاصة بالعقيدة والعبادة والأخلاق، وعلى الدولة أن تدعم هذه القواعد باعتبارها ذراع الكنيسة الطبيعي (ديورانت، (1988) ص 215). وهكذا أصبح لفصل الدين عن الدولة معنى جديد في ظل المذهب البروتستانتي... أنه توزيع للمهام أو تقسيم للعمل حسب تقاليد النظام الرأسمالي.
رأى فولتير في الدين
من المفكرين الذين هاجموا نشاط المنظمات والمؤسسات الدينية الكاثوليكية، الفيلسوف الفرنسي ( فولتير) الذي تربى في مدارس الآباء اليسوعيين ، فوقف عن كثب على أساليب جماعة الجزويت الدينية، وكان لهذا أثره في مهاجمته الكنيسة الكاثوليكية ، إذا أنه كان يعتقد أن هذه الجماعات وأمثالها من الهيئات الدينية ، تقوم بممارسة نواحٍ تدميرية سرية ، وتشترك في المؤامرات والاغتيالات السياسية، كما أنهم يتسترون وراء المظهر الديني والهدف الثقافي ليسيطروا على عقول النشء، ويستغلونهم لتحقيق أغراضهم ، التي تتنافى مع طبيعة وظيفتهم الاجتماعية كهيئة دينية. ويبدو أن وقوفه على مثل تلك الممارسة الخطيرة ، والأحداث الجسيمة التي ألصقت بالقساوسة، قد كان من أهم العوامل المحفزة له على الشك في رجال الدين ، ونقمته على المذهب الكاثوليكي وكنيسته. ويبدو أنه لم يتخذ موقفاً خاصاً إزاء الدين ذاته، لأنه عالج الموضوع من زاويته الشخصية. ففي الوقت الذي هاجم وانتقد رجال الكنيسة الكاثوليكية، امتدح المذهب المسيحي البروتستانتي ورجال كنيسته، زاعماً أن هذا المذهب لا يخرج عن حدود طبيعته الدينية إلى الأغراض الاجتماعية الملتوية التي تقصد إلى تحقيق أغراض سياسية واقتصادية تجارية ومالية.
"والواقع أن آراء فولتير، تعتبر امتداداً طبيعياً للنزعة التحررية من ربقة السلطة الكنسية والبابوية التي كانت تمارس منظماتها ألواناً من النشاط التدميري، لتحقيق أهدافها النفعية بما يحفظ لها السطوة والسيطرة في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يبدو لنا أن فولتير يندد بفكرة الاضطهاد الديني أكثر من تنديده بالوظيفة الاجتماعية للهيئات الدينية، ومعنى ذلك أن حملاته ضد الكنيسة الكاثوليكية كان مرجعها إلى تعصبها ضد الطوائف الدينية الأخرى كالبروتستانتية. وآية ذلك أنه يشير في فلسفة التاريخ إلى أن الدين مظهر فطرى للمجتمع الإنساني عن طريقه يتحقق السلام والوفاق بين الأفراد والجماعات. فإذا حاد عن وظيفته الاجتماعية الطبيعية أصبح معول هدم، وأساس اضطهاد ، وعامل تفرقة ومشاحنات"(الخشاب، ب. ت، ص 113) .
وانطلاقاً من فهم (فولتير) السابق للدين، لم يكن مستغرباً أن يبدى إعجابه بالمذهب البروتستانتي في رسائله عن الانجليز:
"فقد إثارة دهشته الحرية التي كان يعمل في ظلها الكتاب الانجليز. فقد كتب (بولينج بروك) و(بوب واديسون) و(سويفت) كل ما أرادوا في جو من الحرية التامة. هنا شعب له آراؤه الخاصة به، شعب أصلح دينه وشنق ملكه، واستورد ملكا آخر، وأنشأ مجلسا نيابيا أقوى من أي حاكم في أوروبا. ولا وجود لسجن الباستيل هنا، وهنا ثلاثون مذهباً دينيا بغير قسيس واحد . هنا أشجع المذاهب الدينية جميعا، مذهب الأصحاب (الكويكرز) ، الذين أثاروا دهشة العالم المسيحي بأخلاقهم المسيحية"(راسل، (1983) ص258) .
رأى كانط في الدين
سار الفيلسوف الالماني (عمانوئيل كانط) على نفس النهج في موقفه من الدين، وانتقد ممارسات رجال الكنيسة الكاثوليكية والكثير من طقوسها ، حيث قال :
"إن قيمة الكنائس والمعتقدات الدينية تكون بمقدار ما تعاون الجنس البشرى على التطور والرقي الأخلاقي، أما إذا تحول الدين إلى مجموعة من المراسيم والعقائد والطقوس الشكلية ، وعلق الناس أهمية بالغة على هذه الطقوس والمراسيم وفضلوها على الناحية الأخلاقية ، التي جاء بها الدين ، وجعلوا المراسيم والطقوس امتحانا تقاس به الفضيلة، فان هذا يعنى انتهاء أمر الدين وزواله. إن الكنيسة الحقيقية هي جماعة من الناس، مهما بلغ تفرقهم وانقسامهم يجمعهم ويوحدهم ولائهم لقانون أخلاقي مشترك. وقد عاش المسيح ومات لتأسيس مثل هذه الجماعة. لقد أسس المسيح الكنيسة الحقيقية للقضاء على نفاق ورياء رجال الدين ومراسيمهم ، وطقوسهم الشكلية، ولكن ظهر بيننا طبقة كهنوتية من رجال الدين والقساوسة بطقوسهم ومراسيمهم التي طغت على فكرة الديانة المسيحية الأصيلة النبيلة. لقد قرب المسيح ما بين ملكوت الله والأرض، ولكن أخطأنا في فهمه فاستبدلنا مملكة الله بمملكة الرهبان والقسيسين، التي نشأت بيننا" (راسل، (1983) ص356) .
هذا هو رأي (فولتير) و(كانط) وغيرهم من مفكري عصر التنوير في فرنسا وألمانيا، والذين أصبحوا في نظر كثير من المفكرين العرب والمسلمين مثالاً يحتدي في قضايا الدين والحرية، حيث دعا هؤلاء الى الانقضاض على الدين وتحييده من حياتنا، والاقتداء بالغرب والأخذ بالعلمانية. وليتهم فهموا مقاصد هؤلاء المفكرين جيداً ودوافعها، ولكنه التقليد غير الواعي للغرب فقط لاغير. فكما لاحظنا فإن (فولتير) يمجد الدين في شقه البروتستانتي وينقم على الدين المسيحي في شقه الكاثوليكي . فهي ليست رؤية ـ أحادية للدين ترفضه رفضاً تاماً كما يريد بعض مفكرينا ومثقفينا، بل هي دعوة إصلاحية للدين تلتقي في النهاية مع ـ أفكار قادة الإصلاح الديني البروتستانتي التي فصلت الدين عن الدولة ، ولكن بدون إلغاء دور الدين في الحياة العامة والخاصة، بل ألغت سلطة رجال الكنيسة فقط، أو بالأحرى نزعت السلطة من يد البابا والكنيسة الكاثوليكية ومنحتها لكافة أفراد الشعب .

الفصل الثاني
دور الدين في نشأة الرأسمالية والسير على خطى يهوه
هذا الدور الجديد للدين، في الدول البروتستانتية، ربما يفسر لنا كيف أن بعض الباحثين يذهبون إلى أن النظام الرأسمالي بأسره ـ والسائد في هذه الدول ـ هو وليد منظومة القيم الدينية ، التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني وبالذات القيم الكالفينة ، لأن الإصلاح الذي وضعه كلفن طمس إصلاح( لوثر) وتفوق عليه في مكان تلاقيهما(دلماس، (1982)، ص 51، 62) . كما أن الدكتور (غيات بوفلجه) يؤكد في كتابه "بين حضارة القوة وقوة الحضارة" أن الحضارة الغربية المعاصرة هي نتيجة لتطور المذهب البروتستانتي في أوروبا، وتطور الفلسفات المادية وازدهار التقنية الحديثة بها، إذ ربط التطور العلمي بمدى قدرة الإنسان على الطبيعة، وعلى أخيه الإنسان (بوفلجة، ب، ت).
نسق الدين ونشأة النظام الرأسمالي عند ماكس فيبر
اعتبر (ماكس فيبر) البروتستانتية وخاصة في أفكارها الكالفنية مصدر الإلهام الحقيقي لنشأة النظام الرأسمالي، إذ يؤكد أنها شكلت نسقاٌ ثيولوجياً له معناه، حيث أحتوى هذا النسق على عدد من القضايا التي شكلت في مجموعها نسقاً منطقياً له تماسكه واتساقه وهذه القضايا هي :
1ـ أن هناك إلهاً واحداً ترانسندنتالياً (متعالياً) ومطلقاً ، هو خالق الكون ومالكه، حيث خصائص ومجالات فعله بدون الوحي بعيدة تماماً عن الفهم البشرى .
2ـ أن هذا الإله قادر على كل الأرواح الإنسانية لأسباب بعيدة تماماً عن الإدراك البشرى، أما (الخلاص النهائي أو الموت والخطيئة الكاملة) فتمثل اعتقادات ثابتة من الأزل إلى الأبد، وليس للإيمان أو الإرادة البشرية تأثير عليه.
3ـ أن الله لأسباب غامضة تتعلق به، خلق العالم، ووضع الإنسان بمفرده بداخله ، وذلك لمضاعفة مجده .
4ـ ولهذه الغاية فلقد قرر الله أن على الإنسان، دون اعتبار إلى أنه قد قدر الخلاص عليه أم الإدانة ، أن يعمل لتأسيس مملكة الله على الأرض، وأنه سوف يخضع أثناء ذلك للقانون الإلهي .
5ـ ترك مسائل هذا العالم ذات الطبيعة البشرية والجسدية لذاتها ، بحيث تذهب إلى غير رجعة (إلى الموت أو الخطيئة) حيث لا مهرب منها إلا باللجوء إلى تحقيق مجد الله" (ليله،1981، ص 507، 508) .
العوامل ذات الصلة بالنظام الرأسمالي
شكلت العناصر السابقة في مجموعها كما يذهب (فيبر) نسقاً قيمياً يحكم ويضبط حركة التفاعل فى النسق الرأسمالي . كما أن النسق الاجتماعي شهد هو الآخر ظهور عوامل ذات صلة بنشأة الرأسمالية تتصل بنشأة البروتستانتية ذاتها مثل :
1ـ سيادة النزعة التقشفية : يرى (فيبر) أنه نظراً للتعالي الكامل لله ، والانفصال بين المسائل الدنيوية والسماوية، فإن هذا الوضع استبعد تماماً الاتجاه الصوفي للاتحاد بروح السماء والاستغراق في إطارها، بل أصبح على الإنسان أن يوجه طاقاته الدينية نحو الاتجاه الايجابي التقشفي ، بدلاً من الاتجاه الصوفي السلبي. فالله لا يمكن الاقتراب منه كلية، وإنما يمكن خدمته فقط . ووفقاً لذلك فخدمة الله لا يمكن أن تكون في اتجاه الاستغراق الكامل في المسائل الحسية لهذا العالم أو التكيف معها، ولكنها تكمن في السيطرة على كل ما هو حي ، وفى الخضوع للنظام من أجل مجد الله، وهذا ما يعنيه (فيبر) بالنزعة التقشفية. ويرتبط بذلك أن العمل من ناحية (وهو قيمة كالفنية) والتقشف ، وعدم إنفاق المال فيما هو دنيوي من ناحية أخرى يؤدى إلى التراكم العقلاني لرأس المال. (الخشاب، ب. ت، ص 100) .
2ـ ازدهار العلم الحديث : يعتبر ازدهار العلم الحديث من العوامل الهامة لازدهار الرأسمالية، حيث يعتبر (فيبر) ذلك من نتائج الاعتقاد بصيغة الإله المتعالي. فما دام العالم اللامتناهي هو من خلق الله، فأفضل السبل لمعرفة الله هو أن ندرس أعماله .
3ـ ازدهار التكنولوجيا : يرى فيبر أن ازدهار التكنولوجيا جاء نتيجة لرفض المنطق التقليدي لانجاز الأعمال، فهي تنطوي على أداء أكثر كفاءة لتحقيق مجد الله ، كما تملى ذلك القيم البروتستانتية فى مذهبها الكالفنى .
4ـ تقسيم العمل : تعتبر ظاهرة تقسيم العمل والمهن في المجتمع عند (فيبر) كنتيجة مباشرة للتطور الإلهي للأشياء. فتباين البشر إلى الطبقات والمهن يعتبر بالنسبة (لمارتن لوثر) نتيجة مباشرة لإرادة السماء. فمواظبة الفرد ومثابرته في موقعه في إطار الحدود التي عينها الله له ، تعتبر بالنسبة له واجباً دينياً .
5ـ تقديس العمل : يرى (فيبر) أن الكالفنية، دعت إلى تقديس العمل ؛ لأن هناك اعتراض أخلاقي على الركود إلى الدعة ، استناداً إلى ما قد يملكه الشخص. لأن الإنسان على الأرض ينبغي لكي يتأكد من تحقيق مجد الله أن ينجز أعمال الله الذي خلقه في يومها. فلا فراغ ولا متعة، ولكن عليه أن يبدل النشاط فقط ؛ لمضاعفة مجد الله وإظهار إرادته الواضحة. ويفسر "ماكس فيبر" ذلك في "كتاب البروتستانتية والرأسمالية"، حيث يرى أن الكالفني غير المطمئن إلى انتخابه، كان يفتش عن ازدهار أشغاله المثمرة، وحيث أنه لم يكن واثقاً من نجاحه لينصرف إلى الراحة، عمد إلى تشغيل أمواله مرات عديدة، وجنى أرباح عظيمة بطريقة حسابية دقيقة (دلماس، (1982)، ص 63) .
6ـ إضاعة الوقت : يعتبر إضاعة الوقت ذنباً دينياً، لأن حياة الإنسان قصيرة جداً وقيمة، ومن تم فإضاعة الوقت من خلال الفراغ والترف أو النوم بأكثر مما تحتاجه الصحة ، يجلب الإدانة الأخلاقية. فضياع ساعة وقت تعنى ضياع ساعة عمل في تأكيد مجد الله. وعلى ذلك فالتأمل السلبي لا قيمة له، ويستحق الإدانة إذا كان على حساب العمل اليومي. فليس اسعد لله من الانجاز الايجابي لإرادته .
7ـ التبرير الديني لتخفيض الأجور واستغلال العامل : يؤكد (فيبر) أن رفع اجر العامل يعنى أنه سوف يجد لديه أكثر مما يحتاجه لإشباع حاجاته التقليدية وبالتالي سوف يدفعه ذلك إلى التقليل من كم العمل. ولما كان الإنسان الذي لا ينتج مادامت لديه الصحة والقدرة ، هو الإنسان الذي يغفل مسئولياته الأخلاقية، فإن تخفيض اجر العامل تكون له مبرراته الدينية. فيجب علينا كما يقول (فيبر) أن نأخذ بالحكمة الكالفنية التي تقول : أن البشر يعملون فقط ماداموا فقراء (ليله،1981، ص 507).
هكذا شكلت العناصر السابقة المستمدة من المذهب البروتستانتي في مجموعها كما يذهب فيبر نسقاً قيمياً، كان مصدر الإلهام لنشأة النظام الرأسمالي. فالديانة التي استصلحت أصلحت بدورها الخلق الاقتصادي. لقد كانت تخشى تراكم الثروات، ولكنها كانت تحارب سوء استعمال الثروة لا تجميعها، وحكماء انكلترا المجددون، حاولوا الجمع بين روح الأعمال ومقتضيات العقل، ومن هنا نشأ مبدأ المنافسة والصراع (دلماس، (1982)، ص 62) .
السير على هدى وصايا يهوه
قرنت نصوص التوراة والعهد القديم باستمرار وبإلحاح لافت للنظر، بين الثراء والوفرة المادية لدى الفرد ولدى الجماعة، وبين "السير على هدى وصايا يهوه"، باعتبار الثراء والوفرة نعمة ، ينعم بها يهوه على من يطع أوامره ويلتزم بنواهيه، وباعتبار الفقر والجوع والشقاء الدنيوي عقاباً ، يعاقب به يهوه ممن يعصِ أوامره ولا يلتزم بنواهيه (مقار، 1992، ص 78) ، وهذا ما يوضحه بجلاء بالغ هذا النص:
"فإذا سمعتم لوصاياي أعطي مطركم في حينه المبكر والمتأخر. فتجمع حنطتك وخمرك وزيتك .. فتأكل وتشبع. فاحترزوا لئلا يحمى غضب يهوه عليكم ويغلق السماء فلا يكون مطر ولا تعطى الأرض غلتها. فتبيدون سريعاً.. انظر.. أنا واضع أمامك اليوم بركه ولعنه. فالبركة إذا سمعتم لوصايا يهوه إلهكم ..واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا الرب يهوه" (التثنية11:11ـ15 و 26ـ28).
ولما كان المتطهرون هم ورثة الصلاح البروتستانتي، لذلك كانوا يعلمون أنها كانت غلطة رومانية كاثوليكية، أن يظن بأن الأعمال الطيبة والصدقات يمكنها أن تمحوا وشم الخطيئة، لان هدف الدين هو تمجيد الرب ذي الجلال والإكرام. وحيث أن أوامره ـ جل جلاله ـ ليست سهلة التنفيذ لذلك فإن رحمته لا تحل إلا بالمؤمن (بيري، (1990) ص 71) .
وعندما أخذت البروتستانتية ذلك الكلام من عجزه، فقالت : إن كل من لم يتصف بالمبادأة، ولم يجد لديه القدرة على أن يقوم بأمر نفسه اقتصادياً، مثلما تعين عليه القيام بأمر نفسه دينياً، فابتلى بالفقر والجهل والمرض وداسته الأقدام، لا حق له في أن يلوم أحداً إلا نفسه، لأنه شرير وسيئ وخاطيء ورديء وإلا لما كان جلب على نفسه فراغ خزانته ، والخيبة في كل ما يفعل ، وما تمتد إليه يده، كانت البروتستانتية بذلك مستنده بظهرها الورع بقوة وتمكن إلى أخلاقيات العهد القديم ، الذي زودها بكل ما افتقدته من سند إلهي في التعاليم المتسامحة للسيد المسيح، الذي لم يكتف بأن دعا إلى الرحمة والتراحم وصنع السلام، بل تمادى في نقضه للناموس ، الذي ادعى أنه جاء ليكمله وقال: "ما أعسر دخول ذوى الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جمل من ثقب إبره أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله. (لوقا 18 :24) " (مقار، 1992، ص 79).
هكذا قدمت البروتستانتية الكثير من الأفكار، التي حملها الأوروبيون إلى العالم الجديد، حتى أن بعض المؤرخين اعتبروها المكون الرئيس في حوافز المستوطنين الجدد في أميركا، حيث كانت حملات الدعاية لمعظم المشروعات الإنجليزية الاستعمارية، عبارة عن فقرات تناشد أوائل المستعمرين بتقديم العون السياسي أو المالي، أو مواعظ كنسية تدعو للمسافرين بالتوفيق من الله، أو قصص تفاؤل عن مغامرات البحار ـ كانت تؤكد عظمة العناية الإلهية أكثر من أمجاد البشر. كذلك تعكس تلك المقتطفات أن رجال الإنجليز في القرن السابع عشر الميلادي كانوا يحبون تبرير أعمالهم بعبارات فضفاضة من علم الكونيات الديني.
"كما كان واضحاً بأن هناك توجها للعناية الإلهية يسري في سائر كتابات أصحاب ذلك المشروع الاستعماري، فهم يتكلمون عن أنه رغم كون الجميع من الناس مشاركين في خطيئة آدم، إلا أنهم يحتفظون بموهبة العقل ، التي تمكنهم من استغلال الحيوان والنبات وممالك المعادن. وهم بأعمالهم الأنانية كانوا ينفذون خطة مقدسة تفضي إلى الوفاق النهائي، وهكذا فإن الله تعالى ـ على حسب ما يراه الكتاب الإنجليز ـ قد أخر استعمار العالم الجديد إلى ما بعد الإصلاح الديني البروتستانتي لكيلا تقع أميركا بغير منازع في حضن الظلام البابوي" (بيري، (1990) ص 12) .
هذه الخلفية الدينية المستمدة من العهد القديم، والتي تمسك بها المسيحيون البروتستانت، باعتبارهم رسل العناية الإلهية، التي يجب أن يلتزموا بحرفية تعاليمها، لكي يحصلوا على البركة والرخاء، ولكي لا تحل عليهم النقمة، هي التي يمكن أن توضح لنا سبب الجشع والطمع وحب المال الذي يتمتع به الأمريكان، باعتبار أن ذلك هو إطاعة لأوامر الله .
وقد اكتشف (توكفيل) هذه الحقيقة، وكان أول محلل ومراقب ثاقب البصيرة للولايات المتحدة منذ عام 1840م في كتابه الأساسي عن هذه الدول ، وكانت ـ لا تزال ـ وليدة حين قال: "لم أعرف شعباً مثل هذا الشعب استولى فيه حب المال على قلوب البشر، انه شعب من شراذم المغامرين والمضاربين" واليوم ـ أيضا نستطيع أن نتعرف في تاريخ هذا الشعب على أسس انحطاط ثقافته" (جارودي، 2002، ص 48).
التباين في الثروات
لم يكن غريباً أن (مارتن لوثر) مؤسس المذهب البروتستانتي ، اعتبر الملكية معيارا للتفريق بين الإنسان والحيوان، ولهذا اتهم القديس الاسيزي بأنه مختل العقل، طائش أحمق شرير لمجرد أنه كان يطلب من أتباعه إن يتخلوا عما لديهم للفقراء. ومنذ نزولهم في جيمس تاون عام 1607م ، لم يستطع القديسون أن يميزوا بين السماء وعجل الذهب (لقد وجدنا أرضا واعدة أكثر من أرض الميعاد فبدلا من اللبن وجدنا اللؤلؤ وبدلا من العسل وجدنا الذهب) (العكش، 2002، ص117).
فمنذ وطأت أقدام المستعمرين الأوربيين أمريكا ، ودخلوا في صراع دموي مرير مع الهنود الحمر سكان ـ القارة الأصليين ـ وجد رجال الدين أنفسهم في خدمة الحرب الجديدة . وعندما انطلقت دعوة الدارونية الاجتماعية ـ وجدت الكنيسة فيها مبرراً لهذه الخدمة العسكرية. وكان من بين رجال الدين الأمريكيين الذين اعتنقوا الدارونية الاجتماعية عدد غير قليل، منهم الكاهن "جوسيان سترونج" ، الذي قال:
"إنه طبقا لصراع وتفوق النوع الانجلو ـ سكسوني، يظهر في أمريكا نوع من الناس كبار الأجسام أقوياء فارعو الطول. وقال: أن العنصر الأمريكي سوف يملأ القارة ، ويزحف نحو الأقطار الأخرى في أمريكا الجنوبية وإفريقيا ، وما ورائها وستكون نتيجة هذا الزحف تفوقه والقضاء على الأجناس الأخرى لان البقاء للأصلح" (عماد، 2003، ص 19) .
ولما كانت الحيوانات ـ في نظرية دارون ـ غير متساوية وأن أفضلها هو أقواها واقدرها على التكيف مع متطلبات البيئة، فكذلك أفراد الجنس البشري ، هم مختلفو القدرات، وأفضلهم هم أقدرهم على التكيف خلال عملية (الصراع من أجل البقاء) ، ولذلك فإن المساواة فكرة خاطئة تكرس التخلف والمرض في المجتمع أما (حرية الصراع) فإنها تولد الشجاعة والتدريب والذكاء والعمل . وهكذا لعبت القيم الدينية المستمدة من التوراة دوراً رئيساً في تبرير الطبقية والغنى والفقر، والذي انعكس بدوره على القيم التى يقوم عليها النظام الرأسمالي برمته.
"ومن أبرز الناطقين بلسان هذا الاتجاه (وليم جراها صومنر William G Sumner) الذي كانت آراؤه الاقتصادية تطبيقات لنظرية الانتقاء والبقاء للأصلح، وخلاصة آرائه في هذا المجال ما يلي:
1ـ التنافس المطلق الذي لا تقيده قيود أساس الحياة الاقتصادية، والذين ينجحون في جمع الثروة هم أفضل العناصر في المجتمع، والذين يفشلون هم العناصر السيئة، ولذلك لا تجوز الصدقة على الفقراء لان معنـاه تكريس الضعف في المجتمع.
2ـ إن تنافس بني البشر في ميادين الثروة ، كتنافس الحيوان في جمع الغذاء ، ولذلك لا داعي للفقراء أن يلوموا الأغنياء، وإنما هم مسئولون عن عجزهم عن التكيف والنجاح في ميدان الصراع، لأن الحقيقة الأولى في الحياة هي الصراع من أجل البقاء، وأعظم مظاهر هذا الصراع هو توفير رأس المال والثروة .
3ـ إن أصحاب الملايين هم حصيلة الانتقاء الطبيعي ، الذي يعمل في المجموعة البشرية كلها لانتقاء أولئك الذين لديهم قدرات الإنجاز" (عماد، 2003، ص 7، 8) .
وبالرغم من ما أحدثه الإيمان بهذه الأفكار، من تفاوت متزايد في الثروات وبالتالي في السلطات، داخل أمريكا ، والذي كان أحد أسباب ظهور الطبقية، وتجمع الثروة في أيدي حفنة قليلة من الأفراد، أفقرت الآخرين ثقافياً ومادياً، الا ان الأمريكيون الأصوليين يعتقدون أن ما تتمتع به أمريكا من رخاء وثراء وتفوق دليلاً لا يدحض على أن الله ذاته يوافق الأمريكيين على إيمانهم بأنهم هم العالم، وأنهم المكلفون بتنفيذ مشيئته والقيام بعمله على الأرض، ويكافئهم على ذلك بالرخاء والثراء والقوة (مقار، 1992، ص 414) .
"كما أن الرئيس المؤمن (رونالد ريجان) أعلن أن ثراء ورخاء الولايات المتحدة يرجع إلى كونها (أمة مباركة من الله)، ولكن أحد رجال الدين الأسبان تجرأ على استهجان ما قاله (ريجان) واصفاً إياه بأنه (تجديف وهرطقة) ؛ لأن ثروة وقوة الولايات المتحدة لا تأتي من مباركة الله، ولكنها ترجع إلى استغلال العالم وبخاصة العالم الثالث، عبر التبادلات غير المتوازنة وغير المتعادلة، وفرض استيراد المنتجات الأمريكية بالقوة وغزو رؤوس الأموال الأمريكية للدول التي تنخفض بها المرتبات ، وعبر الفوائد الاستغلالية للقروض" (جارودي، 2002، ص 109) .
وهكذا أوجد الإيمان بهذه الأفكار تبايناً صارخاً في الثروات ، جعلت واحداً في المئة فقط من الشعب الأمريكي يهيمنون علي ثروات تزيد أضعاف المرات علي ما يمتلكه ثمانون في المئة من الشعب مجتمعين . ويمتلك (بيل غيتس) من الثروة ما يعادل ثروة مدينة أمريكية تعداد سكانها نصف مليون نسمة. ومع ذلك، فقد صنّف المكتب الأمريكي العام للإحصاء في مطلع القرن الواحد والعشرين حوالي 40 مليون أمريكي كفقراء كثير منهم مشردون دون مأوي. وفي كل مدينة أمريكية كبيرة توجد أحياء فيها فقر مدقع، وبذلك توجد عوالم ثالثة في أمريكا نفسها. وقد وصف (روبرت إي دافولي) المدير التنفيذي لإحدى الشركات الأمريكية العملاقة، النظام الأمريكي بقوله:
"إن الرأسمالية هي انحراف وتضليل. لدينا أعلي معدلات الجريمة في العالم، ولدينا أناس يعيشون علي قارعة الطريق دون أن يلقي أحد لهم بالاً. فقد أفرز نظام الرأسمالية الاستعمارية المستمد من القيم الدينية البروتستانتية، تفاوتاً وعدم مساواة بين الأمم علي صعيد العالم كله، وهو أمر آخذ في التزايد. وهناك 358 مليارديرا يتربعون علي ثروة مجمعة تعادل إجمالي ما يملكه أفقر 2.5 مليار إنسان علي ظهر الأرض" (زلوم، 2003) .
التبرير الديني للنهب والسلب والإبادة
"في كتابه عن نظريات الاستعمار الإنكليزية يعتقد كلاوس كنور : إن الإنكليز أكثر القوى الاستعمارية الأوروبية ممارسة وتعمدا للإبادة وان هدفهم النهائي في العالم الجديد كما في استراليا ونيوزيلانده وكثير من المناطق التي يحتاجونها هو إفراغ الأرض من أهلها ، وتملكها ، ووضع اليد على ثرواتها. فخلال هذه المسيرة التي بدأت بايرلندا ولن تنته بعد، تحكمت عقدة الاختيار الإلهي والتفوق العرقي بسلوكهم وبنادقهم، واستحوذت على أخلاقهم وعقولهم .. وهذا ما أوهمهم بأنهم يملكون حق تقرير الحياة والموت لكل من عداهم، وأنهم أيضا في حل من أي التزام إنساني قانوني تجاه الشعوب ، التي يستعمرونها لا باعتبار أنها أعراق منحطة وحسب ، بل لأنها في الغالب مخلوقات متوحشة لا تنتمي للنوع الإنساني"(العكش، 2002، ص58) .
ولم ينج من هذا التصنيف البيولوجي أقرب الناس إليهم وجيرانهم في الجزيرة وشركاؤهم في البياض والنضارة ، فلطالما لازمت الايرلنديين صفة التوحش wild Irish وقالوا عنهم إنهم يعبدون الشيطان، وأنهم أجلاف عراة أحلاس الغابات والمستنقعات، يعيشون على نوع من لحم البشر ، أو من لحم أمهاتهم اللواتي كانت لهن أذناب طويلة، وكن متوحشات يأكلن أطفالهن.
"وعندما نزلت أول دفعة من المستوطنين الإنجليز من سفنهم الثلاث عام 1607م إلى اليابسة على شاطئ فرجينا في أمريكا الشمالية ، فإنهم لم يقوموا فقط ببناء مستوطنة تقوى مركز إنجلترا في مواجهة جارتها الأوربيات، بل جلبوا معهم أفكاراً وعادات شكلت الأساس ، الذي قامت عليه ممارساتهم العرقية في المجتمع الأمريكي. وأول ما جلبوه معهم إحساسهم كإنجليز بالتفوق العرقي والثقافي ، واعتقادهم بأن البروتستانتية هي التعبير الحقيقي عن الإيمان المسيحي، وإيمانهم بأن التطهيريين (البيوريتان) هم خير من يمارسها في شكلها الصحيح. واعتبر الإنجليز كل من يختلف عنهم بأنه من مرتبة أدنى منهم. وقد ساد هذا الموقف وترك أثره على كل التفاعلات التي حدثت في المجتمع الأمريكي" (عناية، 2002، ص 24).
لقد أعطى الأميركيون البيض معركتهم من الهنود الطابع الديني وكأنهم يخوضونها بالنيابة عن الله والمسيح، ليبرروا اضطهادهم سكان البلاد الأصليين وسرقة أرضهم. فعندما زحف (أبناء الرب) من جزيرة روانوك في اتجاه الغرب لم تكن حروب الإبادة والتطهير العرقي وحرق المحاصيل، ومصادرة الأراضي، وإطعام الأطفال الهنود للكلاب إلا مظاهر(إرادة الله ـ يهوه) في العهد القديم (العكش، 2002، ص 152).
وهذه العقلية المتعالية - التي لم تر في الآخرين (وهم الهنود في هذه الحالة) سوى وثنيين مجردين من إنسانيتهم، ومن حقوقهم ، ولا يستحقون المواطنيه ، لأنهم بكل بساطة تحت (قبضة الشيطان) ، ويتربصون بالولايات المتحدة شرا ، ويريدون لها أن تصير أرضا نظيرة للجحيم - هذه العقلية المتعالية، ليست بعيدة عن فكرة (شعب الله المختار) ، وهي رؤيا كانت كافيه لاستعباد السود والدعوة إلى استحالة دمجهم في الأمة الأميركية ، لذلك تركوا على هامش الحياة وتم التعامل معهم كأدوات خادمه للآلة الاقتصادية الأميركية. ولقد استند التطهيريون الإنكليز لتبرير مطاردتهم للهنود وسرقة أراضيهم إلى سفر يشوع ومنطق الإبادة المقدسة في العهد القديم ، وكتب أحدهم يقول :
"بديهي أن الرب يدعو المستوطنين إلى الحرب ، فالهنود اعتمدوا على عددهم وأسلحتهم كما فعلت قبائل النقب القديمة : العمالقة والفلسطينيون متحالفين مع غيرهم ضد شعب إسرائيل). هكذا وفي ظل هذه الذهنية مورست الإبادة الجماعية ضد الهنود ، وكأن هؤلاء الهنود هم الذين غزوا أراضى المستوطنين ، فيما كان المهاجرون ينهبون أراضيهم ويدمرون حياتهم" (عماد، 2003، ص 74، 75).
يقول (ميشال بوغنون) في كتابه "أميركا التوتاليتارية":
"إن استيطان أميركا كان يجري في الأصل في سياق أيديولوجي ثنائي القطب، أولا: الاغتناء المادي ، وثانيا: تمجيد الإنجاز الإلهي. فالأمة الأميركية ورجال الكنيسة والمثقفون الأوائل هم شعب الله المميز ، الذي جاء على قدر، فوليام مستوغتون (1631ـ1701م) يرى أن الله اختار مواطني أميركا بعناية، فغربلهم كما تغربل الحبوب لفصل البذرة الصالحة عن غيرها. وجون وينثروب حاكم مستوطنة ماساشوستس عام 1629 م حتى وفاته في العام نفسه، ذهب إلى وصف نفسه وأصحابه بأنهم في خدمة المسيح وأنهم يرتبطون معه بميثاق، وأنهم أعضاء جسم فريد موحد، وهم شعب الله المختار وإله إسرائيل بينهم" بوغنون، ب، ت).
وكان هؤلاء الغزاة الأوائل يسمون بالحجاج أو القديسين ، وكانوا يعتبرون هذا العالم الجديد بديلا عن (أورشليم) ، والأراضي المقدسة، ولهذا فقد سموه بكل الأسماء التي أطلقها العبرانيون على بلاد كنعان ، وما يزال التاريخ الأميركي إلى الآن يضفي على هؤلاء الحجاج قداسة طوباوية ، ويعتبرهم أول نموذج للاستثناء الأميركي الذي فضله الله على العالمين ، وأورثه ما أورث بني إسرائيل من قبل، وجعل العهد الذي عقدوه مع الله على متن سفينتهم الأسطوريةMayflower من اللحظات النادرة الخالدة في التاريخ الإنساني ، كما يقول الرئيس الأميركي (جون آدامس) .
"فعهدهم مع الله جب عهد الإسرائيليين القدامى ، وتأسيس مستعمرتهم على صخرة بليموث ضاهي تأسيس الكنيسة على صخرة بطرس . قضية هؤلاء (الحجاج) هي الأصل الأسطوري، لكل التاريخ الأميركي ومركزيته العنصرية وما يزال كل بيت أميركي يحتفل سنويا في (عيد الشكر) بتلك النهاية السعيدة ، التي ختمت قصة نجاتهم من ظلم فرعون البريطاني و (خروجهم) من أرضه و (تيههم) في البحر و (عهدهم) الذي أبرموه على ظهر سفينتهم مع يهوه ووصولهم في النهاية إلى ارض الميعاد". (عبد الحكيم، 2005، ص 37).
ويعتبر هذا العيد الطقسي ـ الذي يبجله الأميركيون ـ وطنيا ودينيا أكثر من أي عيد آخر (بما في ذلك عيد الاستقلال)، من أكثر أعياد أميركا قدسية، في هذا العشاء الطقسي الذي يذبحون فيه سنويا بين عشرين وثلاثين مليون (ذبيحة) قربانا لله الذي وقف منذ اللحظات الأولى لاستعمار أميركا إلى جانب شعبه الإنكليزي المختار، يستعيد الأميركيون أسطورة تاريخهم بكل ما يعنيه طقسية الاحتفال بالاسطوره، فهو طقس يتضمن تقديس فتح الاستعمار الاستيطاني ، والتأكيد على التفوق الطبيعي والأخلاقي للمستعمرين ، وهو تأكيد على صدق الأسطورة وحياتها المتجددة، وهو احتفال برعاية الله لكل عناصر أسطورة الولادة المقدسة للتاريخ الأميركي، وهو من خلال هذا الطقس الاحتفالي ـ يؤكد على التسامي بالأسطورة ومعايشتها كدين (العكش، 2002، ص 39).
فأمريكا تعزو بشكل جزئي هويتها الوطنية إلى انتشار مثل هذه الأساطير القوية التي انبثقت في أوائل تاريخها، حيث يرتبط كثير من هذه الأساطير (بالآباء المؤسسين) ، الذين أسسوا هذه البلاد، بينما يرتبط بعضها الآخر بخبرات بناء الأمة، وقد تكون أقوى هذه الأساطير ، تلك التي تطورت من جراء خبرة الرياديين وانبثاق الأمة وأن بيان المصير ـ كما يسميه علماء التاريخ ـ هو الاعتقاد بأن الاستيطان في تلك الأراضي الشاسعة غير المسكونة وترويضها من قبل المستوطنين الأوروبيين ، كان حدثا تم بموجب مقاصد إلهيه، فالله اصطفى الأمة الأمريكية من بين الأمم والشعوب وفضلها عليهم ، وجعلها شعبه المختار وذلك من أجل قيادة العالم وتخليصه من الشرور (العكش، 2002، ص 149) . وقصة هذا الاصطفاء يمكن روايتها كالآتي: هرب أناس رياديون شجعان من الاضطهاد الديني والسياسي في أوروبا، وواجهوا عقبات كبيرة في تحقيق أحلامهم بوجود سكان أصليين (متوحشين) استخدموا وسائل إرهابيه لإحباط مقاصد الرياديين ، ولكن بمعونة الله استطاع هؤلاء المستوطنين الشجعان أن يهزموا (المتوحشين) ، ويطردوهم خارج تلك الأراضي، على الأقل تلك الأراضي الجيدة، هكذا مهدوا الطريق لهؤلاء الذين كانوا قادرين على استغلال المصادر ، التي أعطاهم إياها الله في تلك الأراضي بشكل أفضل.
ولكن هذه القصة غير المحبوكة فضحتها العلوم والمعارف الحديثة، عندما ركزت على وحشية هذا التطهير العرقي القديم وعواقبه السلبية. غير أن بعض العناصر الأساسية في هذه القصة والمتعلقة بالأسطورة ـ أي الرياديين الشجعان الذين هربوا من الاضطهاد وعملوا على إنشاء دولة حره ـ لا تزال تشكل الهوية الذاتية الأمريكية ، ويبدو هذا واضحاً في الطريقة السهلة التي يستطيع بها السياسيون ومن بينهم الرئيس (جورج بوش) في هذه الأيام أن يبحثوا عن الدعم لمغامرات سياساتهم الخارجية باقتباسهم عناصر رئيسة من هذه الأسطورة (أن أي هجوم على أمريكا هو هجوم على الحرية" (هيوبرز، 2003، 15، فبراير).
"ففي التعابير التي كانت تدور على السنة سكان المراحل الأولى من تاريخ فيرجينيا على سبيل المثال ، أعلن أوائل المستوطنين عن أنفسهم بجرأة أنهم على حد قول (جون رولف) John Rolfe بأنهم "شعب له خصوصيته ، أشار إليه واختاره إصبع الله لامتلاك تلك الأرض لأنه معنا دون شك". والواقع أن مستعمرة فرجينيا في أقدم سنواتها كانت أشبه شيء بمدينة أسستها شركة ، وتشبه قاعدة أمامية أو مركزاً متقدماً في أقاصي حدود الاسكا. وقد حافظ المؤسسون بدقة على الشكليات الدينية المعروفة آنذاك بما فيها القوانين التي تتطلب التردد على الكنيسة" (مارسدن، 2001، ص 25) .
ولكن هذا الورع الزائد للمؤسسين الأوائل، باعتبارهم شعب له خصوصية، كان يعكس عنصرية بشعة، ونظره دونية للآخرين باعتبارهم أقل درجه منهم، حتى لا يجوز هدايتهم. وهنا يقول القس (كوتون ماذر) (1663ـ1728م) وهو أحد أهم الآباء المؤسسين لأمريكا: "من الكفر بالله والمسيح أن يحاول أحد هداية أهل البلاد الأصليين، الهنود الحمر، لأنه وجدهم مخلوقات بشعة لا يجوز أن تدخل في ديانته المقدسة(مقار، 1992، ص 314) .
وقال كوتون ماذر أيضاً :إن أميركا كانت قبل مجيء الحجاج الأوائل أرض الشيطان، وإنه ـ أي الشيطان ـ سيستعمل كل حيله للحول دون استيطان المستوطنين. وبهذا تكونت صورة الهندي الشرير والبربري المسكون بالشيطان، في مقابل الرجل الأبيض المختار المسكون بالخير المتصف بالتحضر. وأيضا في مقابل الأسود الجاهل الذي لا يجيد التمتع بالحرية "كما هي في الولايات المتحدة" (بوغنون، ب، ت).
فهؤلاء المهاجرون المتدينون الهاربون من النظام الطبقي البغيض، ومن كل سلطة دنيوية أو دينيه بحثا عن حياة جديدة اغفلوا ضمائرهم ، أو استطاعوا أن يوفقوا بين معتقداتهم وبين إبادة الهنود الحمر مسترشدين في ذلك ببعض الأساطير التوراتية ، التي أباحت لغزاة فلسطين الأول من اليهود إبادة سكان أرض الميعاد ليحلوا محلهم (عبد السلام، 2005، ص 52).
"لقد كانت قصص اجتياح كنعان في العهد القديم تمدهم بالأسس الأخلاقية اللازمة لتماسك هذه السيكولوجية الاستعلائية، ولتبرير عنصريتها وعنفها المميت، ولم يكونوا واثقين إلا من شيء واحد: إن الله فضلهم واصطفاهم على العالمين، وأعطاهم الأرض وحق تقرير الحياة والموت والرزق لكل من يعيش فوق هذه الأرض، هكذا حمل شعب الله سيف(الجلاد المقدس) ، ولم يساوره الشك في إن الإبادات لم تكن إلا تدبيرا إلهيا مباركا ورسالة في المجاهل عهدها الله إليهم (العكش، 2002، ص 59) .
وهنا يلاحظ الدكتور (عبد الوهاب المسيري) أن ثمة عناصر تسم التشكيل الحضاري الغربي الحديث جعلت الإبادة كامنا فيه وليست مسألة عرضية، وقد قام الإنسان الغربي بكثير من عمليات الإبادة لا على الرغم من حضارته الغربية وإنما بسببها!!. فقد طورت الرؤية الغربية الحديثة للكون رؤية للبشر بحسبانهم مادة بشرية يمكن توظيفها، أما من لا يمكن توظيفه فكان يشار إليه بحسبانه مادة بشرية فائضة وأحيانا غير نافعة، ولا بد من معالجتها, فهي إما تصدر وإما أن تعاد صياغتها وإما أن تباد إن فشلت معها كل الحلول السابقة(المسيري، 2003).
وهكذا فإن أي قراءة في العقل الأميركي ورؤيته المتعالية للأمة الأميركية، تبين بوضوح من خلال استعادة آراء منظري الكيان الأميركي ، الذين يرون أن أحداث التاريخ وإنشاء الولايات المتحدة أمر صادر عن إرادة قوة، وعن قناعة بأن القدرة الربانية كلفت هذا الكيان الوليد والجديد برسالة تسيير شؤون العالم وإدارته وان عليهم أداء هذه الرسالة والقيام بواجباتها. إنه إذا عقل مسكون بيقين تجسيده لأمر الهي، إنها صورة يؤكدها العشرات من المفكرين والمؤرخين الأميركيين، ويرون من خلالها أنهم ملزمون في التبشير بها بل أن مؤرخا أميركيا مثل (دانيال مورستين) وصل في مغالاته إلى القول : "أن شعبا في العالم لم يكن أكثر يقينا في سيره على الصراط المستقيم كالشعب الأمريكي. هذه الرؤية وهذا اليقين والوهم بأداء (رسالة ربانية) هما محرك السياسة الأميركية باتجاه فرض سيطرتها على العالم" (عماد، 2003، ص 72، 73).
وبناء على هذا الموقف العنصري المتعالي، المغلف بالمعاني الدينية المستمدة من التوراة اليهودية، لم يجد المؤسسون الأوائل لأمريكا أية حرج، في إبادة الهنود الحمر واستعباد الزنوج ماداموا أجناس اقل مرتبه ومتوحشون، وهو نفس الموقف الذي لجأ لاستخدامه اليهود قديماً وحديثاً مع الفلسطينيين والشعوب المجاورة.
لقد صارت هذه الأخلاق الإبادية بنفاقها وبسماتها الانكليزية المسمومة عقيدة وأيديولوجيا، بل صارت النواة الصلبة للقومية الأميركية التي ما تزال تخصب الأدب والفن والسينما وصناعة الجريمة والموت وتعطي أوضح صوره لمفهوم الأميركي عن نفسه وعن العالم، هذه الأخلاق التي ضربت جذورها في عقدة الاختيار وكراهية الكنعانيين، ورافقت بناء أميركا لحظة لحظه وجبهة بعد جبهة هي التي جعلت (الأميركيين يعتقدون اليوم، كما كان أجدادهم المستعمرين الأوائل يعتقدون قبلهم بأن لهم الحق المطلق في إن يقتحموا أي غرب) في أي مكان من الأرض (العكش، 2002، ص 138، 139) .
وإذا كان قساوسة الإمبراطورية الرومانية قد وفروا الفتاوى ذات المسوح والمبررات الأخلاقية اللازمة لحكام نظام العبودية الروماني لشن حروبهم العدوانية واللاأخلاقية، فان أباطرة روما الجدد من ممثلي اللاهوت البروتستانتي الأمريكي المتهود وبعض ممثلي المشيخة الفكرية الأمريكية (من أمثال صموئيل هنتنجتون ومن هم على شاكلته) المندمجة المصالح مع رأس المال ، ومراكز السطوة والنفوذ في المجتمع الأمريكي، قد وفروا فتاوى العصر الراهن لحكام بلادهم لتنهض مبررات ومسوغات أخلاقية وحضارية ودينيه لشن حروبهم التوسعية العدوانية ضد البلدان والشعوب الآمنة المغلوبة على أمرها (الصياد، 2003، 15، فبراير). وهكذا فقد كان التبرير الديني للسلب والنهب والقتل، حاضراً على الدوام في التاريخ الأمريكي، حيث استهل الأمريكيون وجودهم كأمه بعملية إبادة جماعية لشعب بأكمله، كان شعب الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين، باعتبار أن تلك الإبادة كانت من "اجل المسيح" وقياماً بعمل الله على الأرض (مقار، 1992، ص 409) . وهنا يجب أن نشير إلى أن ما أمرت به القصص الكتابية وفقاً للمعايير العصرية للقانون الدولي وحقوق الإنسان هو (جرائم حرب) ، و (جرائم ضد الإنسانية). وهنا على المرء أن يعترف بأن أجزاء كثيرة من التوراة، ومن سفر التثنية بشكل خاص، تحتوى على عقائد مخيفة وميولاً عنصرية وكراهية للغرباء ودعماً للقوة العسكرية (برير، 2004، ص 22) .
أمريكيا ولاهوت الاستعمار العبراني
ألقى القس (ونثروب)، موعظة في الحجاج على متن السفينة الاسطوريه (اربيلا) ، أكد فيها على العهد الجديد بين الإسرائيليين الجدد وبين يهوه، وعلى الرسالة التي يحملونها إلى مجاهل ارض كنعان الجديدة قائلاً:
"إننا سنجد رب إسرائيل بيننا عندما سيتمكن العشرة منا من منازلة ألف من أعدائنا ، وعندما سيعطينا مجده وأبهته ، وعندما يتوجب علينا أن نجعل من (نيوانغلاند) مدينة على تل (city upon a hill ) وهذا التعبير رمز لأورشليم (ولصهيون أيضا) ، وما يزال يستخدم إلى الآن للدلالة على المعنى الإسرائيلي لأميركا، وقد (استخدم) آخر أربعة رؤساء أميركيين هذا الرمز في مناسبات مختلفة : ريغان، بوش الأب، كلينتون، بوش الابن" (العكش، 2002، ص 127).
ولو عدنا إلى الوراء قليلا وتوغلنا في التاريخ الأمريكي ، لوجدنا كثيرا من وجوه التشابه في إنشاء الوطن الأمريكي ، وإنشاء دولة إسرائيل، وخير ما يوضح هذا التشابه هو كتاب (مورتن) المسمى (كنعان الجديدة الإنجليزية) فإنه يعبر أصدق التعبير عن روح فكرة أمريكا ، التي هي الفهم الإنجليزي التطبيقي لفكرة إسرائيل التاريخية، حتى أن قصة هؤلاء الحجاج الإنجليز ، الذين أسسوا أول مستعمرة فيما سمي بعد ذلك الولايات المتحدة ، إن هي ألا تجسيد لإنجلترا الجديدة الأصل الأسطوري للتاريخ الأمريكي ومركزيته الانجلوسكسونية، وفي كل عام يحتفل كل بيت أمريكي بعيد الشكر، وهو تعبير عن النهاية السعيدة الناجحة (لمن هرب) من ظلم الفرعون البريطاني ونجاتهم وخروجهم من أرضه والتيه في البحر، ولذلك صنعوا (العهد) الذي أبرموه على ظهر السفينة ، التي حملتهم إلى أمريكا الجديدة مع (يهوه) ، حتى وصولهم إلى أمريكاـ التي في نظرهم أرض كنعان الجديدة . ونلاحظ أن كل تصورات (العبرانيين القدامى) وأفكارهم عن الحياة والتاريخ والأرض والسماء قد زرعها هؤلاء الإنجليز ، الذين هاجروا إلى أمريكا ، حتى الأسماء التي سموا بها المدن في أمريكا هي أسماء عبرانيه قديمة كالتي أطلقها اليهود على ارض فلسطين أبان السيطرة اليهودية عليها، ومنها : ارض الميعاد ـ صهيون ـ إسرائيل ـ واستعاروا كثيراً من سلوك اليهود عند إبادتهم سكان كنعان فشبهوا إبادة الأمريكان للهنود بإبادة اليهود لسكان كنعان . كما أن هناك كثير من التشابه القصصي والتقمص التاريخي لاجتياح العبرانيين أرض كنعان (ارض فلسطين) . لقد كانوا يبيدون الهنود وهم على قناعة بأنهم عبرانيون قد اختارهم الله لهذه المهمة وفضلهم على العالمين . وأكثر من ذلك أعطاهم تفويضا بقتلهم(السقا، 2003، ص 9).
يقول (منير العكش) في كتابه "حق التضحية بالآخر.. أمريكيا والإبادات الجماعية":
"إن فكرة إنشاء أمريكا قامت على فكرة إسرائيل التاريخية ، وإن ما يعانيه الفلسطينيون هو ما عانى منه الهنود الحمر، فالرواد الأمريكيين الأوائل وصفوا أنفسهم بأنهم الإسرائيليون ، وأطلقوا على السكان الأصليين الكنعانيين. واتهم المستوطنين الأوائل بإبادة 112 مليون هندي أمريكي بالسلاح والتجويع وحتى بالأوبئة".
وتحت عنوان المعنى الإسرائيلي لأمريكا يضيف:
"أن فكرة أمريكا.. فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة عبر الاجتياح المسلح وبمبررات غير طبيعية ، هي محور فكرة إسرائيل التاريخية. فعملية الإبادة التي تقتضيها مثل هذه الفكرة مقتبسة بالضرورة بشخصيات أبطالها.. الإسرائيليون.. الشعب المختار.. والعرق المتفوق وضحاياها الكنعانيون.. الملعونون.. المتوحشون.. البرابرة ومسرحها ارض كنعان وإسرائيل ومبرراتها الحق السماوي، أو الحضاري ، وأهدافها الاستيلاء على أرض الغير ، واقتلاعه جسدياً وثقافياً(العكش، 2002، ص124) .
ولما كان المجتمع الأمريكي ، مثل المجتمع العبراني، مؤسساً على اجتياح أرض الغير (الأمريكيون اجتاحوا أرض الهنود الحمر، والعبرانيون أرض كنعان)، كان لابد من تشريع هذا الاجتياح واقتلاع الشعب من أرضه بزعم الحق الإلهي، عن طريق استبطان أسطورة ارض الميعاد، بالزعم أن ما يبدو اغتصاباً، إنما هو تنفيذ لإرادة إلهية، وقد تشابهت في هذه العقدة النفسية، التي احتاجت إلى نظرية ارض الميعاد، مجتمعات عديدة يجمعها اجتياح أرض الآخرين ، ومحاولة إبادتهم عنها، وهى أمريكا وإسرائيل والنظام العنصري البائد في جنوب إفريقيا (سحاب، 2003، 17، فبراير)، كما أن (منير العكش) يرى في كتابه "حق التضحية بالآخر" أن النازية والصهيونية والعبرانية الانجلوسكسونية استعانت في صناعة فرائسها بمنطق واحد ، يتجدر ويستمد كل أخلاقه من لاهوت الاستعمار العبراني.
فكما وضحنا سابقاً فإن فكرة قيام أمريكا وهي (استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة) عبر السطو المسلح وبمبررات غير طبيعية ، هي نفسها فكرة (إسرائيل التاريخية)، التي أوحت إلى أمريكا بأن هناك قدرا خاصا بأمريكا. ويمكن ملاحظة مثل تلك المبررات من خلال تصريحات (بوش) والمسئولين الأمريكيين إبان غزو العراق، وإلغاء دور الأمم المتحدة وإعطاء الصبغة الشرعية لأمريكا من وجهة نظر مسئوليها كمبررات (السلام العالمي ـ الأمن الوقائي ـ الإرهاب الدولي أسلحة الدمار الشامل- رخاء شعب العراق أو شعوب المنطقة وديمقراطيتها).
"فكل هذه المبررات بحسب الظاهر لاحتلال وغزو منطقة بتاريخها، والسيطرة عليها وعلى ثرواتها، حسب الاعتقاد الأمريكي هو قدر خاص بأمريكا ، وبمشيئة الرب ، (ولها) جذور تاريخية واعتقاد راسخ يضرب جذورا عميقة في الذاكرة الأمريكية، وهو واضح أيضا في معظم المناسبات الدينية والوطنية ، وكل خطابات التدشين التي يلقيها الرؤساء الأمريكيون، الذين يصرحون بعبارات منها: أن إرادة الله ـ القدر ـ حتمية التاريخ .. الخ، قد اختارت الأمة الأمريكية (ألانجلوسكسونية المتفوقة) وأعطاها التاريخ دور المخلص في حق تقرير الحياة والموت والسعادة والشقاء لسكان العالم، ومن هذه العبارة القدرية أجريت الجراحة التجميلية المزيفة للمعنى الإسرائيلي لأمريكا وفكرة الاختيار والتفضل الإلهي".(السقا، 2003، ص 12، 13).
وبناء على ما تقدم فإننا لا يجب أن نندهش حين يرحب الأمريكيون بالمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال حالياً على أرض فلسطين، فهذا النعل من ذاك الحذاء، يجب أن لا نندهش وان نعلم أن الأمريكيين يربطون ربطاً لازماً بين مصير الهنود الحمر ومصير الفلسطينيين. يقول وليم فوكسويل في كتابه (التوحيد وتطوره . من العصر الحجرى الى المسيحية) :
"ان فيلسوف التاريخ وهو القاضي النزيه يرى على الاغلب ان من الضروري زوال شعب متخلف ليخلى مكانه لشعب آخر ذي ملكات متفوقة ... فقد يؤدى الاختلاط بين العروق البشرية الى نتائج مدمرة". وهذا ما اتاح لصاحبنا ان يخلص فيما يخص الكنعانيين الى ما يلى : كان من حسن حظ التوحيد ومستقبله ان الاسرائيليين المجتاحين كانوا شعباً متوحشاً يملك تلك القوة البدائية مع ارادة للحياة لا نظير لها، فابادة الكنعانيين قد حالت دون الانصهار التام للشعبين المنحدرين من اصل واحد، ولو قدر لهذا الانصهار ان يقع لعمل دون شك على اضعاف ديانة (يهوه) الى حد بعيد"(جارودي، (1991) ص 38).
وفي كتابه "فلسطين الجانب الإنساني" أورد "ويكفيلد" عبارة للبروفيسور "راينهولد نيبر" يقول فيها : "إن الزعم بأنه من غير الأخلاقي دولياً أن تؤخذ فلسطين من العرب وتعطى لليهود، زعم عار من الصحة، اللهم إلا إذا صح الزعم بأن المستوطنين الأوربيين لم يكن من حقهم أخذ الأرض من الهنود الحمر ليستوطنوها، ويجعلوا منها القارة الأمريكية العظيمة"(العكش، 2002، ص 170). ويقول الحاخام المؤرخ (لي ليفنجر):
"أن مؤسسي أمريكا كانوا أكثر يهودية من اليهود أنفسهم، وهم على حسب ما يزعمون (يهود الروح) الذين عهد الله إليهم كما عهد إلى يهود (اللحم والدم) ، قبل أن يفسدوا ويتخلوا عن أحلام المملكة الموعودة . ويضيف مخاطباً المهاجرون الأوائل قائلاً: أن يهوديتكم أيها المهاجرون إلى العالم الجديد هي التي أرست الثوابت الخمسة التي رافقت التاريخ الأمريكي في كل محطاته:
1- المعنى الإسرائيلي لأمريكا.
2- عقيدة الاختيار والتفضيل الإلهي والتفوق العرقي والثقافي والفكري .
3- الدور الخلاصي للعالم.
4- قدرية التوسع اللامحدود.
5- حق التضحية بمن سواهم وإبادتهم واعتبارهم ، كما تقول التوراة والتلمود جنسا محتقرا لا لزوم له ما دام ليس يهوديا"(السقا، 2003، ص 10).
وهكذا فقد اقتدى الأمريكان في المبادئ الخمسة بعلماء اليهود وبحرفية كل ما جاء من في التوراة . فالتفسير النزيه للتقاليد الكتابية التي تأمر بالأعمال الفظيعة ، وجرائم الحرب ، قد قدمت العزاء والسلوى لأولئك المصممين على استغلال الأراضي الجديدة على حساب الشعوب المحلية. وهناك دليل وافر بأن الكتاب المقدس كان ولا يزال إلى حد ما، المثل الأعلى الذي يسعى إلى استلاب الأرض بالفتوحات (برير، 2004، ص 24). وهنا يتضح أن سياسة أمريكا تجاه شعب أمريكا الأصلي هي نسخة طبق الأصل عن الموديل التلمودي اليهودي لعلاقة اليهود بالغرباء، حيث يطالعنا الموقف عينه من الناس كأنهم دواب ، والوحشية الفظيعة نفسها ، والشعور بأن كل شيء مباح ـ السمات المميزة لليهود المتعصبين ـ كما أن أراضى الهنود وأملاكهم لا تخص أحدا مشاعا يعيد إلى الأذهان أحد معايير التلمود الرئيسة، الذي يعتبر ملكية غير اليهود (بحيرة شاغرة) وانطلاقا من هذا المبدأ اتخذت الحكومة الأمريكية في عام 1899 م إجراء جديدا لنهب أراضى الهنود، التي كانت قد سجلت ملكا لهم (إلى الأبد) منذ عهد ليس بالبعيد ، لقد قررت الحكومة الأمريكية ، مصادرة أراضى الهنود من جديد وهكذا بدأ تنفيذ حملة (السباق) لعموم أمريكا. وقد جاء في نداء حكومة الولايات المتحدة الامريكيه:
"أن على كل مواطن أمريكي أبيض يرغب في الحصول على أرض مجانية الحضور في الثاني والعشرين من نيسان 1899م إلى خط محدد مسبقا. ففي الثامنة من صباح ذلك اليوم ستعطى إشارة الانطلاق. ولسوف يحصل كل متسابق على تلك القطعة من الأرض التي يستولي عليها قبل غيره، دون أي مقابل وسوف يربح ـ أكثر من يجري أسرع) . لقد شارك في هذا (السباق) الآلاف من البيض الراغبين في الإثراء على حساب الهنود. كان كل متسابق يحمل قطعة من القماش الأبيض وكانت قطعة من الأرض الهندية نصيب أول من يصل إليها ، ويركز قطعة القماش عليها. وعلى هذا النحو حققت الروح التلموديه النصر على الأرض الأمريكية"(بلاتونوف، 2002، ص 23) .
ثقافة أهل الحدود
في ظل اعتقاد الأمريكيون أن ما يقومون به من احتلال ونهب لأراضي الغير ، ما هو إلا تنفيذاً لإرادة إلهية، وان الله منحهم هذا الحق، فإنه كان طبيعياً أن تنشأ لديهم ثقافة جديدة سماها بعضهم بثقافة أهل الحدود، والتي لا تضع حداً لأطماع الأمريكيين في أراضى الغير. ويصف هذه الحالة (جارودى) بقوله: فبالنسبة للعلاقة مع الطبيعة لم تكن لـ (الحدود) طوال أكثر من قرن نفس المعنى ، الذي كانت تعنيه في أوروبا، كانت الحدود الأمريكية دائما مساحة مفتوحة حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ، ولم تغلق تلك الحدود رسمياً إلا بالوصول إلى المحيط الهادي (جارودي، 2002، ص49) . فقدر أميركا الأبدي هو الغزو والتوسع، إنها مثل عصا هارون (موسى) ، التي صارت أفعى وابتلعت كل الحبال، هكذا ستغزو أميركا الأراضي وتضمها إليها أرضا بعد ـ أرض، ذلك هو قدرها المتجلي، أعطها الوقت ، وستجدها تبتلع في كل بضع سنوات مفازات بوسع معظم ممالك أوروبا ذلك هو معدل توسعها(العكش، 2002، ص 105).
فمنذ العهد الاستعماري، تعود الأمريكيون على الاستيطان واستمرارية الزحف من الساحل الشرقي إلى الغربي في اتجاه الأرض البكر ـ غير المستغلة ـ ممارسين التجارة والزراعة. وباستمرار هذه الظاهرة أصبحوا يفكرون بأن ضم أراض جديدة إنما هو عمل طبيعي عودتهم الأحداث عليه (النيرب، 1997، ص190) . يقول (اى . ا. بيلينكتون) أستاذ التاريخ في جامعة نورث ويسترن ومؤلف (تاريخ الحدود الأمريكية) و (الحدود الغربية القصوى) :
"إن الأساس الذي قامت عليه حياة أهل الحدود هو الذي يميز، حتى يومنا هذا، اتجاهاتنا وميولنا نحو المجتمع والعالم الذي يحيط بنا. نحن شعب متنقل، نسير إلى الأمام قدماً، ولا تربطنا بالموطن والمجتمع إلا رابطة هينة. وهذا عكس ما هو عليه الإنجليز أو الفرنسيون أو الإيطاليون. إن أسلافنا من أهل الحدود كانوا متنقلين، وأننا دوماً على استعداد للتبدل والتغيير بنحو ما هو أحسن وأفضل لحياتنا"(شينك، 1958، ص290) .
والاستعداد للسير إلى الأمام والتبدل نحو الأفضل، لا يعنى للأمريكان سوى أن تظل تلك المساحة الشاسعة داخل أمريكا ـ وبعد ذلك في العالم ـ مسرحاً للنهب والسلب وتدمير الغابات الكثيفة بحثاً عن مناجم الذهب والفضة، وكانت العلاقة مع الآخرين ـ أيضا ـ ذات طبيعة خاصة بدأت أولاً بطرد الهنود للاستيلاء على أراضيهم ووضعهم بين خيارين: أما الإبادة ، وإما النفي والانسحاب إلى المعزل، وبعد ذلك كانت العلاقة بين البيض أنفسهم خاضعة لأحكام قانون الغاب، لنهب الثروات المسروقة من الهنود أرضاً كانت أم ذهباً. فقد كان النيوانجلانديون ميالين لاعتبار كل ما هو محيط بهم على أنه برية تنتظر حضارة منظمة تستنقذها (بيري، (1990) ص 58). وبالطبع فإن تلك الحضارة، هي الحضارة الأمريكية صاحبة الرسالة الخالدة، التي بشر بها قادة الفكر الأمريكي، وأكدوا بأن أمتهم قادرة بإمكانياتها أن تحقق رسالتها الخالدة وحلمها الأعظم، الذي تعبر عنه أسطورة حكاها (جون فايسك) فيلسوف التاريخ، عضو النادي الميتافيزيقي مهد البراجماتية، إذ رسم (فايسك)، أو رسمت الأسطورة على لسانه، حدود الولايات المتحدة الأمريكية.
تروى الأسطورة، التي استهل بها (فايسك) إحدى محاضراته، قصة حفل غذاء في باريس ضم أربعة من المغتربين الأمريكيين. تحدث كل منهم عن مستقبل الولايات المتحدة وحدودها وأمجادها. إلى أن جاء دور المتحدث الرابع الذي لم يقنع بما رسمه سابقوه من حدود تسع الكرة الأرضية وشعوبها وبلدانها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، وانبرى وقال: لماذا نترك أنفسنا أسرى هذه الحدود الضيقة. أن الولايات المتحدة هي تلك التي يحدها الشفق القطبي شمالاً، والاعتدالين جنوباً، والعماء البدائي شرقاً، ويوم القيامة غرباً" (جلال، (1997) ص227).
ومن الجدير بالذكر أن (جون فسك) كان من فلاسفة الدارونية ، الذين استعملوها لتبرير الاستعمار حيث كتب يقول : (إن العنصر الانجلوـ سكسوني هو أصلح الأجناس البشرية ، وانه في المستقبل سوف ينتشر هو ولغته وثقافته في أربعة أخماس الكرة الأرضية، وسوف يحيل إفريقيا إلى بلد متقدم ملئ بالمدن والمزارع ومظاهر التكنولوجيا) وقد كرر هذه الآراء في عدد من المؤلفات، حيث كانت الآراء المقابلة في القارة الأوروبية في أمثال: بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، تسير في نفس الاتجاه وتبرر حركة الاستعمار والتوسع إلى أن أفرزت حركات عنصريه متطرفة من أمثال: النازية والفاشستية، وأشعلت حربين عالميتين في فترة لا تتجاوز نصف القرن (عماد، 2003، ص 13) .
ولم يكن (جون فايسك) هو أول من عبر عن طموح الولايات المتحدة مجسداً في رسالتها الخالدة التوسعية، وإنما عبر عنها آخرون من رجال الدولة والزعماء السياسيين، مما يؤكد أنها جزء من ثقافة اجتماعية سائدة، وإن صيغت الرؤية في عبارات متباينة.
"أن فكرة: "الأمريكيون هم شعب الله المختار"، عبر عنها صراحة (توماس جفرسون) في خطابه الرئاسي الأول عام 1801م ، وسبقه أيضاً جورج واشنطون أول رئيس للولايات المتحدة، إذ قال في خطاب رئاسته: أنه موكل بمهمة عهدها الله إلى الشعب الأمريكي، وذلك في عام 1789م ، ومن بعده قال (جون آدمز) الرئيس الأمريكي الثاني: إن استيطان أمريكيا الشمالية تحقيق لمشيئة إلهية . وقال (تيودور روزفلت) "أمركة العالم هي مصير وقدر أمتنا" (جلال، (1997) ص 227) .
وقد لاحظ المؤرخ الأمريكي فريدريك جاكسون تورنر أن: أمريكا كانت، منذ أيام إبحار كولمبوس إلى عمق مياه العالم الجديد، اسماً آخر للفرصة، وما لبث شعب الولايات المتحدة ان استمد مزاجه من التوسع المتواصل ، الذي لم يكن مفتوحاً وحسب، بل بقى مفروضاً عليهم عنوة.. وستظل الطاقة الأمريكية دائمة التطلب لميدان أوسع تتجلى ممارستها في إطاره (برستوفتز، 2003، ص52).
فالشعب الأمريكي كما وصفته وكالة الإعلام الأمريكية، دائم النزوح والتنقل من جزء من البلاد إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى ، ومن المزرعة إلى المدينة ، ومن المدينة إلى الضواحي (وكالة الإعلام الأمريكية، ب، ت، ص 11). يقول الكاتب الأمريكي (والف وايتمان):
"إننا لم نعش أهوال الماضي ، ونعبر المحيط ونأتي هنا لنتوقف). فالزحف نحو الغرب وعدم الالتزام بأي حدود هي السمة المميزة للشخصية الأمريكية، فقد اندفع المهاجرون غربا على ظهور العربات التي تجرها الجياد نحو حدود جديدة حتى وصلوا إلى شواطئ المحيط الآخر، ثم نزلوا جنوبا حتى اصطدموا بأول عائق بشرى قوى في دولة المكسيك، فحاربوها واخذوا مساحة كبيرة من أراضيها . والترجمة الحقيقية للتعبير الأمريكيTHERE IS NO FRONTIERS (لا توجد حدود) ، هي البحث عن مناطق جديدة للغزو وضمها وهو نفس منطق إسرائيل، ولما اكتملت الحدود، اندفع الأمريكي نحو ارتياد حدود وآفاق جديدة تشمل السيطرة الجغرافية على مناطق من العالم القديم، وكذلك الريادة العلمية، والسياسية والاقتصادية؟ أن هذه المنطق يذكر الأمريكيين بآبائهم المؤسسين باندفاعهم وديناميكيتهم في مضمار التنافس للاستفادة من كل الفرص المتاحة للكسب المادي" (عبد السلام، 2005، ص 55).
لقد كان شعار "انطلق نحو الغرب أيها الرجل الشاب"! هو الحل المقدم خلال الأزمة الاقتصادية 1840م من هوراس غريلي صاحب جريدة نيويورك تريبيون (هرنانديز، 2004، ص 146). كما ان ميتافيزياء (اقتحام الغرب) التي نسفت نظام البوصلة واعدت العصر الذهبي لنظرية الإنكليزي "مالثوس" جعلت الغرب الأميركي في كل الجهات وفي كل الأرحام، إنه (الغرب) اللانهائي اللامكان وأنه كل مكان، انه فضاء الزنابير، الثقب الأسود الذي يمتص كل شيء، الأرض التالية، وراء الجبهة التالية، وراء الغرب التالي، وراء المجاهيل التالية، وراء الإبادة الجماعية التالية. إن عالمنا كله يعيش اليوم تحت رحمة (مافيا كولومبس) (العكش، 2002، ص 138، 139).
"لقد حلم (جيفرسون) ببلد قارة ترث الأطلسي والباسيفيكي، أرض مبذولة “كبيرة جدا كافية لآلاف الأجيال”، وفي سنة 1803م قام الرئيس الأمريكي بشراء لويزيانا الشاسعة (تغطي ثلث مساحة الولايات المتحدة حاليا، من خليج المكسيك وحتى الغابات الكندية. من ضفاف الميسيسيبي وحتى صخور المونتانا) من نابليون، وفي السنة الثانية أرسل المستكشفون لفتح طريق الشمال ـ غرب. كانت تلك روحية الحدود: ادفعوا الحدود، اذهبوا دائما نحو البعيد، وبذلك تكونون الثروة. هناك المزيد من الغنى، متوافر للجميع. إن الذي يخاطر ويعمل يجد مخرجا على الدوام.. كان يريد من ذلك دفعهم نحو الغرب، وتغذية العقلية الطموحة والفردية إلى حد كبير. لذا فإن ما ينتظر من الحكومة هو الحد الأدنى من القواعد، والحد الأقصى هو الحرية. أما بالنسبة إلى الفقراء فليس من المستغرب اعتبارهم مسئولين عن أسباب شقائهم" (باشاران، 2005، 15، ديسمبر) .
ان هذه الرغبة المستمرة في التوسع والسيطرة وجدت لها مبررات ايضاً في نظرية (الجغرافيا الحيوية) التي تزعم بأن، المكان الجغرافي للدولة المتفوقة كائن حي ينمو باستمرار (ولا يموت طبعا) ، ونظرية (القضاء والقدر الجغرافي)، أو الزعم بان يد القضاء هي التي ترسم الحدود الجغرافية للأمم (لا تعترف الولايات المتحدة كإسرائيل إلى الآن بحدود جغرافية ، لها وليس في دستورها إشارة إلى ذلك).
"ومنذ أن أطلق (جون اوسوليفان) هذا الاصطلاح في مقاله له بعنوان (التملك الحق) تحول (القدر المتجلي) إلى عقيدة سياسية مفادها إن هذا العالم كله (مجاهل) ، وأن قدر أميركا (الانكلوسكسونيه) الذي لا ينازعها فيه أحد ، إن تتملك منه ما تشاء من أرض لأن ذلك حقها الطبيعي، ولأن إله الطبيعة والأمم هو الذي أورثها هذه الأرضة ، وجعلها ـ مثلما جعل ألمانيا النازية بعدها ـ كائنا حيا لا يتوقف عن النمو"(العكش، 2002، ص 133).
ولكن النتيجة الطبيعية لهذا النمو الطفيلي لهذا الكائن الحي المتوحش، كانت كارثية، حيث تقلص معنى الحياة، بسبب هذا التوسع الكمي للملكية والأرض وكنوزها، وكان (الوست) أو (أقصى الغرب البعيد) ، يعني ـ باستثناءات قليلة ـ تقديس هذه الملحمة العنصرية ، وقانون الأقوى في حرب الجميع ضد الجميع، ولم تلعب التطهيرية المسيحية أو الييوريتانيه أي دور سوى دور المبرر لتلك الأفعال والعلاقات الاجتماعية بل والمحرك لها. وأصبح العنف الأكثر دموية والتحريض عليه بنفاق المتدينين ملمحاً دائماً في تاريخ الولايات المتحدة منذ نشأتها.
"لقد قدم المتطهرون من الإنجليز الأوائل إلى الولايات المتحدة حاملين معهم العقيدة الأكثر دموية في تاريخ البشرية، ومسلحين بفكرة (الشعب المختار) مقننين فكرة الإباده وكأنها حسب روايتهم أوامر إلهيه. كانوا يسرقون أراضى الأهالي الأصليين طبقاً لتعاليم يهوا (إله الحرب) في العهد القديم هذا الإله الذي أمر شعبه المختار، بإبادة وذبح السكان القدامى في أرض كنعان واغتصاب أرضهم"(جارودي، 2002، ص49) .
وبعد أربعة قرون من مواكبة "العناية الإلهية" لحركة التوسع الاستيطاني نحو الغرب، أعلن (فردرسيك تيرنر) أحد أبرز فلاسفة "الثغور" أن الجبهة القارية الداخلية انتهت ووضعت أوزارها، وبانتهائها ختمت أمريكا حقبتها التأسيسية اللازمة للتوسع وراء المحيط ولبناء إمبراطوريتها الكونية. وعندما نشر كتابه "مشكلة الغرب" أكد على أن التوسع ، والحرب كانا أساس النماء الاقتصادي الأمريكي، ولابد لاستمرار هذا النماء من استمرار التوسع ، وعدم إطفاء نار الحرب. ودعا (تيرنر) إلى شق قناة لهذا التوسع عبر المحيط والاستفتاح بضم الجزر والبلدان القريبة.
"إنها حتمية الولادة الأبدية للثغور التي تتقدم باستمرار، وحتمية الولادة الأبدية للحياة الأمريكية على هذه الثغور والجبهات التي ستصل الغرب بالشرق ، لتكمل شمس الحضارة الانكلوسكسونية دورتها حول الأرض. فقد نجا شعب الله الجديد من ظلم فرعون لندن، وخرج إلى كنعان الجديدة فقهر قديسوه مجاهلها. وظل الغرب يفر أمام زحوفهم ويتراجع إلى أن لم يبق أمامهم من غرب، والى أن صار عليهم أن يخترعوا لزحفهم غرباً ولو في أول الشرق"(العكش، 2002، ص 137) .

الفصل الثالث
دور الدين في الحياة الأمريكية الحديثة
مما تقدم ، اتضح لنا دور الدين والقيم الدينية المستمدة من المذهب البروتستانتي ، في نشأة النظام الرأسمالي السائد ، في كلاًّ من بريطانيا وأمريكيا، حيث لعب هذا المذهب على صبغ الحياة الأمريكية برمتها بصبغة دينية، وهنا يبرز خطأ شائع ؛ بل وقاتل وقع فيه كثير من الكتاب والمفكرين العرب، من خلال محاولتهم التقليل من دور الدين في الحضارة الحديثة، على اعتبار أن الغرب لم ينجح ، ولم يتقدم إلا بعد أن خلع رداء الدين، واحل محله ما يسمى بالعلمانية، التي تفصل الدين عن الدولة، حيث حاول هؤلاء الوصول إلى نتيجة أن العرب والمسلمين لن يتقدموا إلا إذا فعلوا نفس الشيء، ولست هنا في مجال الخوض في تفاصيل هذا الموضوع، لأن ذلك ليس موضوع البحث، ولكن هذا لا يمنع من إلقاء مزيد من الضوء على دور الدين في أمريكا، بعد أن بينا أثره نشأة النظام الرأسمالى والقيم المنبثقة عنه .
العالم الجديد اقيم على اساس ديني
حتى لا يكون حديثنا في هذا المجال مجرد سرد للتصريحات ، والمواقف للسياسيين والمفكرين، ورجال الدين الأمريكيين ـ بالرغم من أهميتها ـ، سنحاول الغوص بعمق في جذور الثقافة والفكر الأمريكي منذ نشأته، لنبين الدور المركزي الذي لعبه الدين ـ ولازال ـ في الحياة الأمريكية، وفى تشكيل الثقافة الأمريكية ومنظومة القيم ، التي يؤمن بها الأمريكيون (النيرب، 1997، ص 60).
"أن نظرة شاملة لطرق تفاعل الدين والسياسة في أمريكا، منذ التاريخ المبكر للهجرة إلي أمريكا ، وبناء المستعمرات ، وحتى الآن، ستجعلنا نتبين أنه لا يمكن فهم التاريخ الأمريكي المعاصر دون فهم جدلية العلاقة بين الدين والسياسة ، التي تعد المنظور الكامل للتاريخ الأمريكي، حيث أن جذور الأحداث ، التي تعرفها أمريكا المعاصرة ، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ والثقافة الأمريكية، وتعد العلاقة بين الدين والسياسة أحد أهم المؤثرات فيهما والمحركة لهما" (كوربت، 2002، ص 18) .
وفي كتابه الجديد " من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية" ، يحاول (صموئيل هنتنغتون) تحديد الهوية الحقيقية لأمريكا، حيث يرفض فكرة أن الولايات المتحدة ، هي مجتمع من المهاجرين متعددي الأعراق والإثنيات والثقافات، ويرى على النقيض أن الأميركيين الذين أعلنوا استقلال أميركا عن الاستعمار البريطاني في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ، كانوا مجموعة متجانسة من المستوطنين البريطانيين البروتستانت ، الذين توافدوا إلى العالم الجديد من أوروبا ، وخاصة بريطانيا، لكي يستقروا فيه ويعمروه للأبد. ويرى أن هؤلاء المستوطنين وضعوا بذور المجتمع الأميركي، انطلاقا من مبادئهم وثقافتهم الأنغلو ـ بروتستانتينية التي لولاها لما قامت أميركا،التي نراها اليوم، ولذا يرى (هنتنغتون) أن لأميركا هوية محددة هي هوية هؤلاء المستوطنين، التي تقوم على ركائز أربع أساسية، هي العرق الأبيض، والإثنية الإنجليزية، والدين المسيحي البروتستانتي، والثقافة الإنجليزية البروتستانتينية. ويعتقد (هنتنغتون) أن الخصائص الأربع السابقة ، انعكست بوضوح على جميع خصائص المجتمع ، والدولة بالولايات المتحدة، وظلت سائدة حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي تقريبا (هنتنغتون، 2004).
فالقارئ لتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيسها، يمكنه أن يلحظ إلى أي حد مثل الدين أساسا، أقيم عليه العالم الجديد (أمريكا). فقد جاء المستعمرون البيوريتانيون ـ الذين أسسوا مستعمرة خليج ماساتشوستس إلى العالم الجديد بدوافع دينية إلى حد ما.
"لقد جاءوا من إنجلترا إلى هنا لكي يحيوا حياتهم بالشكل الذي يتماشى مع رؤاهم الدينية ، حيث تعذر ذلك في إنجلترا خلال الحكم العدائي لجيمس الأول، وشارلز الأول ، ورأى الكثير منهم أنه من الأفضل لهم الذهاب إلى مكان آخر ، لممارسة معتقداتهم ؛ لذا قام البيوريتانيون بتأسيس مستعمرة خليج ماساتشوستس في عام 1630م وخلال العقد التالي هاجر أكثر من عشرين الف بيوريتاني إلى هذه المستعمرة" (كوربت، 2002، ص 43) .
فقد كان عام 1620م مرحلة رسو الباخرة ميلفور على الشواطئ الأمريكية ، مقلة جماعة من المنشقين الدينيين، من جماعة البروتستانت ، التي أنشأت انكلترا الحديثة (دلماس، (1982)، ص 76) ، بداية هجرة جماعات كبيره من البريتانيون المتعصبين، فراراً من الاضطهاد الديني ، الذي كانوا يعانون منه في بريطانيا وأوروبا، نتيجة الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، حيث حملوا معهم تراثهم الديني المستمد من العهد القديم، وكانوا يسقطون الأحوال التي يمرون بها وكأنها جاءت مطابقة لما ورد فيه بشأن اليهود عند دخولهم أرض فلسطين ، بعد خروجهم من مصر. معتقدين بأنهم شعب الرب المختار المكلف برسالة ما، والعالم الجديد هو إسرائيل الجديدة ، والعالم القديم هو مصر الجديدة. ولهذا عقد البيوريتانيون عهداً مع الرب ومع بعضهم البعض ، ببناء مجتمع يقوم على أساس القانون الإلهي. فكان لابد لهم أن يكونوا بمثابة مدينة تقف أعلى التل (أي مدينة فاضلة) تكون محط أنظار العالم أجمع .
• إن أي إنسان يدان قانونيا بعبادة إله غيرالهنا سوف يعدم .
• إن كل من يعمل بالسحر رجلا كان أو امرأة (أي تكون له صله أو يلجأ للاستعانة بالأرواح) سوف يعدم.
• إذا ما قام أي إنسان بسب الرب (الأب أو الابن أو الروح القدس) ، سواء بالتغيير الصريح أو بالتجريح، أو عن طريق العمد، أو يلعن الرب بأسلوب مماثل سوف يعدم.
تلك مختارات من قوانين الإعدام ، التي تشكل جزءا من هيئة الحريات بماساتشوستس لعام 1641م، حيث حدد البيوريتانيون (التطهريون) اثنتي عشرة جريمة يعاقب فيها المرء بعقوبة الإعدام . والجرائم الثلاث الأولى (المذكورة أعلاه) تتعلق بالأمور الدينية. لقد جنح النظام البيوريتاني في أوجه إلى النمط الثيوقراطي. ففي هذه المستعمرة، سيطرت الكنائس البيوريتانية على الحكومة ، وحرص البيوريتانيون بشكل جاد على استخدام كل من المنظمات السياسية والدينية في صياغة رؤيتهم للمجتمع ، على أساس معتقداتهم الدينية" (كوربت، 2002، ص 93) .
هكذا لعب الدين دوراً مركزياً في حياة الأمريكيين منذ السنين الأولى، "فأمريكا هي الأمة الوحيدة في العالم التي شيدت على أساس الإيمان (برستوفتز، 2003، ص5) ويصبح المرء أمريكياً عبر اعتناق جملة الطروحات الواردة فيما أطلق عليه (امرسون) اسم "تجربة دينية".
"ففي التعابير التي كانت تدور على ألسنة سكان المراحل الأولى من تاريخ فيرجينيا ـ على سبيل المثال ـ أعلن أوائل المستوطنين عن أنفسهم بجرأة أنهم على حد قول (جون رولف) بأنهم "شعب له خصوصيته أشار إليه ، واختاره إصبع الله لامتلاك تلك الأرض لأنه معنا دون شك". واليوم يعتقد الكثيرون في الولايات المتحدة، بأن الدولة مكلفة بمهمة خاصة، ويعين عليها أن تكون مثالاً يحتذى به في العالم اجمع. ويشعر كثير من الأمريكيين بأن الولايات المتحدة هي الأرض المختارة التي أسبغ الرب عليها نعمته" (كوربت، 2002، ص 50) .
ويمكننا الحصول على صورة لا بأس بها، عن أثر الدين في الحياة الأمريكية، إذا لاحظنا أنه كانت توجد مقاعد في الكنائس عام 1860م تتسع لستة وعشرين مليوناً من السكان ، الذين بلغ إجمالي عددهم 31 مليوناً. وتدل هذه الأرقام على أن المرء لو زار الولايات المتحدة يوم أحد في تلك الفترة لوجد على الأرجح أن أكثر من نصف الناس كانوا في الكنيسة. وقد لاحظ (توكفيل) في تلاثينات القرن التاسع عشر أن الأمريكيين كانوا الشعب الأكثر تدينا(النجار، 1986، ص43) ، وقد بقى ذلك صحيحاً إلى اليوم. ففي أي عطلة أسبوعية، سيبادر ما يزيد على نصف مجموع الأمريكيين إلى الذهاب إلى إحدى دور العبادة، مقارنة بنسبة تتراوح بين 10، و20، بالمئة في أكثر البلدان الأوربية وكندا (برستوفتز، 2003، ص52). كما لاحظ (جيمس برايس) وهو زائر بريطاني للولايات المتحدة في عقد ثمانينات القرن التاسع عشر الميلادي أن رجال الدين كانوا أبرز مواطني أمريكا وأنهم كانوا يحصلون على " قدر من النفوذ كثيراً ما يفوق في اتساعه وقوته نفوذ أي رجل عادى علماني" (مارسدن، 2001، ص 112) . كما كانت القوة الدافعة لتحريم الخمر في أمريكيا هي الحملة البروتستانتية التي انخرط فيها الليبراليون والمحافظون البروتستانت. وقد وصف أحد الكتاب " جمعية مناهضة الحانات" التي تأسست في 1895م على أنها في الحقيقة فرع الكنائس الميثودية المعمدانية، حيث أيد بشدة جميع البروتستانت الأمريكيين تحريم الخمر ، ولم يكن هناك إلا بعض الاستثناءات (كوربت، 2002، ص 115) .
مستويات عالية من التدين في العصر الحديث
أما في العصر الحاضر ، فإن "هناك دلائل على أن أغلبية الأمريكيين في أواخر القرن العشرين، يغمرهم شعور ديني لافت للنظر، إذ عاد إلى الظهور ـ في أواخر عقد الثمانينات من هذا القرن نوع من المسيحية التقليدية إلى حد ما كقوة يعتد بها في الحياة الأمريكية السياسية والثقافية، حيث تبدو أهمية الدين من خلال كثرة وتكرار استخدام النصوص الدينية من جانب الساسة، مثل استخدام (كلينتون) في خطابه الافتتاحي عام 1997م لعبارة من التوراة ، تقول : "استرشادا بالرؤية القديمة لأرض الميعاد ، فلنوجه أبصارنا اليوم إلي أرض ميعاد جديدة". ويشير (مايكل كوربت) في كتابه "الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية" إلي تغلغل الدين في حياة الأمريكيين في قضايا عامة، وخاصة مثل شن الحرب وتفهمها ، أو تبرير أسبابها ، وتنظيم الحياة الشخصية ، وحول ما يجب فعله أو الامتناع عنه، أو تبرير العبودية ، والفصل العنصري أو رفضها. كما يعتبر المؤلف أن الصلاة الجماعية في الكنائس بأمريكا ، هي نوع من دعم الدولة للدين، وفي نفس الوقت مساعدة الأفراد علي الإحساس بكل ما هو مقدس، ويرجع المؤلف ظهور التعليم العام، ونشأة العمل التطوعي إلي الدين (كوربت، 2002، ص 50) .
"وفي هذه الأيام يجد منظمو استطلاعات الرأي باستمرار ، مستويات من الإيمان الديني المعلن يمكن أن تدفع المرء إلى التشكيك في الاعتقاد الشائع القائل : إن الأمريكيين الآن أقل تديناً مما كانوا عليه منذ قرن مضى. إذ لا يقول خمسة وتسعون في المائة من الأمريكيين ، الذي يجري استطلاع آرائهم كل مرة أنهم يؤمنون بالله وحسب، بل يقول أكثر من سبعين في المائة أيضاً أنهم لن يصوتوا لصالح مرشح رئاسي لا يؤمن بالله ، "حتى وإن كانوا يحبونه حقيقة … ويشاركونه آراءه السياسية". كما يقول سبعة من كل عشرة أن عيسى هو ابن الله المقدس . ويؤمن نفس العدد بحياة بعد الموت . كذلك يقول الثلث أنهم "ولدوا من جديد" كما يقول حوالي النصف أن "الكتاب المقدس كلمة الله ، وكل ما جاء فيه صحيح" . ويقول ستة من كل سبعة ، أن الوصايا العشر من الأمور، التي يجب العمل بها هذه الأيام ، بينما يذكر سبعة ، وخمسون في المائة أن الدين "أمر هام جدا في حياتهم" (مارسدن، 2001، ص 9).
وهذه المستويات العالية من الإيمان الديني ، التي كشفت عنها الاستطلاعات، تؤكد النتيجة التي سبق وأن توصل إليها (الكسيس دي توكفيل) في كتابه (الديمقراطية في أمريكا) عندما قال : في الولايات المتحدة السلطة المهيمنة سلطة دينية وبالتالي، لا يوجد بلد في العالم يتمتع فيه الدين المسيحي بالنفوذ الذي يتمتع به في نفوس الناس في أمريكا . كما أن الكتاب المقدس ـ المصدر الرئيس للعقيدة المسيحية ـ يتمتع بمكانة خاصة حاسمة في نفوس الناس في أمريكيا، لأنه كان في وسع المصلح دائماً الاحتكام إلى المبدأ البروتستانتي القائل : إن الكتاب المقدس كان السلطة الوحيدة العليا التي تسمو على جميع التقاليد، وكان بإمكان الشخص العادي الذي يقف إلى جانب المعنى الواضح المبني على سلامة الفطرة للكتاب المقدس ، وان يتجاهل سلطة رجال الدين المثقفين أو الكنائس ذات الهيبة والمقام.
وهكذا فقد اتفق جميع البروتستانت الأمريكيين تقريباً، من حيث المبدأ على أن الكنيسة الحقة والمدنية الصحيحة لابد وأن تقوما على الكتاب المقدس . ولا يكاد يمكن للمرء أن يغالي في تقديره للدرجة العظيمة التي نظر بها البروتستانت الأمريكيون إلى الولايات المتحدة ، على أنها نتاج لحضارة ذلك الكتاب . فقد حظي الكتاب ذاته باحترام واسع بوصفه المرجع النهائي لجميع المواضيع بما فيها التاريخ والعلوم ، إلى جانب اللاهوت والأخلاق. وطيلة القرن التاسع عشر الميلادي قرأ أطفال المدارس الأمريكيين دروساً في سلسلة كتب (ماك غفي) للقراءة عناوين مثل : "الكتاب المقدس خير المؤلفات المعتمدة" و "أمي التوراة" (مارسدن، 2001، ص 71).
ونتيجة هذا الأثر الكبير للكتاب المقدس، وبالذات العهد القديم، على الأمريكيين، لم يكن غريباً أن يصف الأمريكيون أنفسهم بعبارات وصور مجازية توراتية، واقتفوا اثر سوابق بيوريتان نيوانجلند في هذا المجال واستمروا يتحدثون عن أنفسهم على أنهم إسرائيل جديدة، وأنهم شعب يرتبط بميثاق مع الله . وكان المفهوم الميثاقي ـ القائل : إن نجاح الأمة (الأمريكية) وازدهارها نتيجة لبركات من لدن الله، ومن ثم الاعتماد على النظام الأخلاقي القومي ـ يمثل معتقداً علمياً وله تأثيره الكبير في كل حركة سياسية رامية إلى الإصلاح الأخلاقي. إضافة إلى ذلك فقد أحدثت إيقاعات الكتاب المقدس أثرها في الاستعمالات اللغوية البلاغية ، وفي خطب (أبراهام لنكولن) مثال بارز على ذلك. وقدم الكتاب المقدس الكثير من أدبياتهم كما اقتصرت معرفتهم بالتاريخ إلى حد بعيد على التاريخ الموجود في الكتاب المذكور باعتباره المصدر الوحيد للحقيقة . ولكن ادعاء الكتاب المقدس الحقيقة هو ادعاء مستبد، فهو يستبعد الادعاءات الاخرى كافة .. حيث لا تحاول القصص التوراتية كسب ودنا ... كما انها لا تتملقنا بحيث يمكن ان تسعدنا او تفرحنا، انها تسعى لاخضاعنا، واذا رفضنا الخضوع فنحن مارقون (يانج، 2003، ص 232). وربما هذا ما يفسر النظرة الاحادية والتعصب التى طبع بها المؤمنون بحرفيته من الاصوليون المسيحيون ، امثال بوش وغيرهم الذين قسموا العالم الى محورين شر وخير، ودول مارقه وخيره، وطالبوا الجميع بان يكونوا معنا او ضدنا!!؟.
الديني والعلماني
بالرغم من المزج الذي يسترعي الانتباه بين العنصر الديني الواضح ، والعنصر العلماني الواضح، في الحياة الأمريكية، والذي دفع المثقف الفرنسي (اليكس توكفيل) في كتابه عن الديمقراطية في أمريكا، إلى القول : إن الوعاظ والقساوسة الأمريكيين يتكلمون كساسة، والساسة يتكلمون كوعاظ (مقار، 1992، ص 322).
"بالرغم من هذا المزج الذي قد يوفر دليلاً هاماً في فهم الثقافة الأمريكية، فقد ركز معظم المؤرخين الأمريكيين بصورة شبه حصرية على ما هو علماني فقط . ويعكس هذا الموقف وضع الأسرة الأكاديمية الحديثة. إذ أكدت التفسيرات السائدة للسلوك البشري خلال القرن الماضي على العوامل غير الدينية، علاوة على ذلك فقد تنبأت العديد من النظريات ولاسيما التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين ، بأن الدين التقليدي شأنه في ذلك شأن الطب البدائي والمحراث الذي يجره الحصان سيختفي حتماً مع تقدم الثقافة والتعليم الحديثين. ومن ثم فإن معايير كثير من دراسات الإنسانية تمحورت حول الافتراض القائل بعدم ضرورة حمل الدين على محمل الجد ، من أجل فهم العالم الحديث" (مارسدن، 2001، ص 22) .
وفي الولايات المتحدة وبلدان أخرى في أواخر القرن العشرين ، أثبت هذا الافتراض بطلانه غير أن الأكاديميين كثيراً ما يتباطئون في التخلي عن تقاليدهم ، التي درجوا عليها في تفسير الأمور والأحداث. كما أن اغلب الباحثين تغافلوا أو لم يدركوا طبيعة الدين في أمريكا ، والكيفية التي نشأ بها، معتقدين انه لا يمكن إعطاء الدين دوراً في الحياة الأمريكية، طالما أن السلطة ليست في يد القساوسة ورجال الدين ، كما كان الحال في أوروبا أيام سيطرة البابا على السلطتين الزمنية والدينية، حيث تناسى هؤلاء أن الدين الأمريكي ما هو إلا امتداد للمذهب البروتستانتي ، الذي تمرد على سلطة البابا، ورفض رفضاً قاطعاً تمتعه بالسلطتين الزمنية والدينية، لما جلبه ذلك من مفاسد حسب اعتقادهم، ولهذا كان الفصل بين الدين والدولة مطلباً دينياً في المذهب البروتستانتي، ارتضاه المؤسسون الأوائل لأمريكا انطلاقاً من قناعتهم الدينية ، التي تدعوهم إلى العودة إلى الأصول، وعدم الاعتراف بأي سلطه غير سلطة الكتاب المقدس، باعتباره مصدر العقيدة النقي (سلطان، (ب، ت)، ص 15).
فالحكومة المدنية ـ أي المتحضرة ـ كما يرى البروفسور (مايكل كوربت) ، هي التي تؤيد الدين، بينما الحكومات الشمولية والديكتاتورية ، هي التي تقف ضد الدين، حيث أن الإصلاح الكنسي البروتستانتي ربط بين الكنيسة والدولة، وجعل كلاً من الحاكم والمحكوم تحته تابعين لكنيسته، ولكنه في نفس الوقت لم يجمع السلطتين الزمنية والدينية معاً، لكن حركات إصلاحية راديكالية مسيحية رفضت ربط الكنيسة بالدولة، ورأت أن هذا الارتباط يدمر الكنيسة تماماً.
وهذا الاختلاف في النظر للعلاقة بين الدين والدولة في أمريكا هو الذي جعل البعض ينظر إلى العلاقة بين الدين والسياسة في أمريكا باعتبارها معضلة لم تتحدد بعد؛ متناسين انه يوجد في أمريكا ما يسمى الدين المدني ، وهو دين مواز للكنائس الرسمية، يتغلغل في الحياة الأمريكية. وهو مجموعة من المعتقدات والطقوس والشعائر والرموز ، التي تنتشر في الحياة الأمريكية منذ القدم، مثل اعتبار عيد الشكر عيدا قوميا للصلاة ـ كما أعلن (جورج بوش الأب) عام 1991م إبان حرب الخليج ـ وابتهال كلينتون في خطبه إلي الرب ليبارك أمريكا، واستهلال الجلسات الحكومية بالصلاة، ودعم الحكومة لقساوسة الجيش، كما ويظهر الدين المدني في الأغاني مثل (أمريكا الجميلة) و(فليبارك الرب أمريكا) وغيرها. كما أنه بينما يذهب بعض الساسة ورجال الدين إلي الفصل بين السياسة والكنيسة يذهب آخرون إلي عمق العلاقة بينهما، فالرئيس (جيفرسون ) وهو من المؤمنين بالدين المدني، يري ضرورة الفصل؛ بينما (جيري فالويل) يقول "أذا لم يتعلم المرء كلام الرب ، ولم يعرف ما جاء بالأنجيل ، فأنني أشك في قدرته علي أن يصبح قائدا فاعلا، وقيادته لكل شيء ؛ سواء أسرته أم كنيسته أو أمته لن تكون ناجحة دون هذه الأولوية" (كوربت، 2002، ص 19) ، وينحى نفس المنحى كثير من الساسة والمفكرين، ولكنه في كل الأحوال ، لا يمكن لأحد أن ينكر الدور الذي يلعبه الدين في الثقافة الأمريكية.
فالدين ـ كان ولا زال ـ يلعب دورا مهماً في التاريخ الأمريكي، حيث اعتبر المهاجرون الذين استقروا في أمريكا طيلة العهد الاستعماري ، أنهم ببساطة يمثلون المسيحية أو العالم المسيحي، حيث لعبت الجماعات البروتستانتية الحاكمة، دوراً مركزياً في تشكيل الثقافة الأمريكية. يقول (جورج مارسدن) :
"إن قصة الإنجيلية الأمريكية هي قصة أمريكا ذاتها في السنوات 1800 ـ 1900م لأن الدين الإنجيلي هو الذي جعل الأمريكيين أكثر الأقوام المتدنية في العالم …" ورغم وجوب الاعتراف بوجود قوى أخرى أيضاً، إلا أن المسيحية الإنجيلية كانت بارزة بصورة غير عادية في إعطاء شكل للقيم والثقافة الأمريكية في القرن التاسع عشر الميلادي . ولهذا يقول المؤرخ (وينثروب هدسن) : في عام 1900م لم يكد يوجد من يشك في الطرح القائل : أن الولايات المتحدة كانت أمه بروتستانتية"(مارسدن، 2001، ص 112) .
وهذا يعنى انه لا أحد يستطيع أن يفهم أمريكا وحرياتها إلا إذا وعى وتفهم التأثير الذي باشره ومازال يباشره ، الدين في صوغ هذا البلد . فمن الخصائص الفريدة المميزة لنظام الحكم الجمهوري في أمريكا انه يستمد الحيوية المحركة له من قيم من يعيشون في ظله، والذين أكدوا أن تلك القيم تستمد بالقدر الأعظم من الدين. وهذا ما جعل الشاعر الإنجليزي (جيليبرت كيث) يصف أمريكا بأنها أمة لها روح كنيسة (مقار، 1991، ص 317) .
أمريكا تقف في صف الله وتنفذ إرادته
لم يقف أثر الأفكار الدينية عند هذا الحد، بل ساعدت التقاليد البيوريتانية في تشكيل فهم الأمريكيين لأنفسهم فهماً جماعياً، إذ لدى الأمريكيين استعداد ـ على سبيل المثال ـ للاعتقاد بأن الازدهار الوطني الدائم الذي ينعمون به يعود إلى ما يتحلون به من فضيلة. ويشكل يوم عيد الشكر الوطني بقية من هذا التقليد الميثاقي. أما النظير المقابل لذلك ، وهو أيام الصيام والتوبة التي تمارس على الصعيد الوطني، فكان أقل شعبية لديهم رغم أن الرؤساء احتفوا بهذه الأيام بين الحين والآخر حتى في القرن العشرين. وعندما تبدو الأمور وكأنها تسير نحو الأسوأ درج القوم على تقليد وطني قديم يزعم أن الأمة تواجه المصائب لان الناس فقدوا الفضائل المفترضة التي تحلى بها أجدادهم. وقد أطلق على هذا النوع من التفجع الوطني اسم (الارميادة) نسبة إلى النبي أرميا ، الذي ورد في العهد القديم من الكتاب المقدس، وما يحمل السفر المسمى باسمه من نذر وتشاؤم بسبب ابتعاد إسرائيل عن الله ، وعن قواعد الأخلاق القويمة. وظهرت الارميادة في المواعظ البيوريتانية لأول مرة قبل نهاية عقد السبعينات من القرن السابع عشر الميلادي وذلك حال ظهور الجيل الثالث من المستعمرين (مارسدن، 2001، ص 27).
ففي منتصف القرن السابع عشر الميلادي ساد اعتقاد بان الله عاتب على شعبه الجديد ، وان هناك بوادر خصومه عبر عنها "ميخائيل ويغل وورث" أحد أكبر شعراء عصره في قصيدة ملحمية بعنوان (خصومة الله مع نيو انغلند) ندب فيها فشل المستعمرين في أداء واجبهم الرسالي، وتبدأ الملحمة بمقدمة طويلة تصف شيطانية الهنود وظلاميتهم ووحشيتهم ، وكيف أن هؤلاء العماليق والكنعانيين الملعونين تنطحوا لمحاربة رب إسرائيل ثم انهزموا مذعورين أمام جنوده ؟! وهناك عشرات المحاولات لتقليد هذه القصيدة الملحمية من قبل شعراء ثانويين ، كلهم ردوا غضب الله إلى خيانة العهد معه ، ودعوا إلى تجديده كما فعل العبرانيون القدامى (العكش، 2002، ص 127).
وهكذا منذ ظهرت أمريكا، كان التبرير الديني حاضراً ؛ ليبرر كل ما تقوم به، من خلال الاعتقاد بأنها، في كل ما تفعل ـ حتى وان كان ما تفعله جريمة إبادة جماعية لشعب بأكلمه ـ تقف في صف الله وتنفذ رغباته. فالهنود الحمر، مثلاً، كانوا أشباه بشر، وأبالسة من أعماق الجحيم، وأعداء للمسيح، ولذا، فإن أبادتهم كانت عملاً خيراً من اجل المسيح وضد الشيطان إبليس عليه لعنة الله . ودائماً بشكل لحوح مستمر ومتواصل كان كل من استهدفته أمريكا شيطاناً (إبليس) أو من زبانية الشيطان (إبليس) . وبالتالي كان قتال أمريكا له عملاً مقدساً من أعمال الله على الأرض.
فالإمبراطورية الأسبانية، مثلاً، عندما اندفعت أمريكا إلى ما وراء حدودها الوطنية لتأخذ من تلك الإمبراطورية مستعمراتها في أمريكا الجنوبية ، والبحر الكاريبي ، والمحيط الهادي، كانت (إبليس) ، وكانت أمريكا بمحاربتها أسبانيا لأخذ مستعمراتها منها قائمة بعمل الله على الأرض، وقائمة بدور الملاك جبرائيل في قتاله مع إبليس... وعندما اعتبرت الولايات المتحدة الاتحاد السوفيتي، بعد الحرب العالمية الثانية، منافساً خطراً لها .. بات الاتحاد السوفيتي هو إبليس وقامت أمريكا بدور جبرائيل، دفاعاً عن المسيح (مقار، 1992، ص 415).
وبالضبط فانه كما سمي الأسبان حربهم لإبادة الهنود في جنوب القارة الأمريكية تبشيرية ، استند المتطهرون الإنجليز على أوامر يهوا بالإبادة المقدسة للهنود ؛ لتبرير طردهم وسرقة أرضهم أحياءً للعهد القديم، ولهذا كتب أحدهم يقول: "واضح أن الله يدفع المستوطنين للحرب، بينما يعتمد الهنود بعدتهم وعددهم على ارتكاب الخطأ مثل القبائل القديمة، يتحينون الفرصة لفعل الشر تماماً مثل قبائل (الاماليسيت) القديمة والفلسطينيين الذين كانوا يتحدون مع آخرين لقتال إسرائيل"(جارودي، 2002، ص 50) .
ولما كان تاريخ الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر هو في الأساس تاريخ القضاء على الهنود، واستغلال العبيد الزنوج، فقد ظهر خلال هذه الفترة أبشع أنواع النفاق فيما يخص الهنود، كما ظهر لأول مرة ما أصبح المبدأ المحرك لكل الاعتداءات المستقبلية التي ستقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية عبر العالم اجمع، ويتمثل هذا المبدأ في اعتبار كل عدوان أو إباده تقوم بها الولايات المتحدة نوعاً من (الدفاع الشرعي)، وحق مقدس للرجل الأبيض، لتنفيذ الرسالة الإلهية الملقاة على عاتقه . فالرسالة التي ألقيت على عاتق الأمة الأمريكية التقية، هي رسالة إلهية .... فهذه الأمة التي وصفها ايزنهاور بأنها " تحب الله كثيراً ويبادلها الله حباً بحب" مكلفه تبعاً لذلك بتنفيذ مخطط الله للخليقة، ذلك المخطط الوارد بحرفيته في التوراة ، وسائر أسفار العهد القديم (مقار، 1992، ص 409).
فتعابير مثل شعب أخص و“شعوب مختارة” ، هي تعابير مهمة وحاسمة، لا توجد فقط في الأدبيّات السياسية لليمين الأمريكي، ولكنها توجد ـ أيضاً ـ في الثقافة الأمريكية عموما، وهو الإيمان بأمريكا “مختارة” بشكل خاصّ، وهو ما يصبح عند السيدة “مادلين أولبرايت” ، هو الإيمان ب”أمّة ضرورية”،سواء كانت منتخَبَة من الربّ أم من “القَدَر” أم من “التاريخ”، أو بكل بساطة أمريكا مدعوَّة إلى العظمة وإلى القوة ؛ لأنه مفروضٌ أنها تمتلك أكبر وأقدم ديمقراطية وأكثرها تطوّراً. هكذا سيقول “ويلسون” إن أمريكا لَهَا الامتياز اللامتناهي لأداء قدَرِهَا وإنقاذ العالَم. والأمثلة كثيرة على هذه المكانة التي يمنحها الأمريكيون لبلدهم، وهي مكانة تتجاوز المنطق، وتذهب بعيدا في مسار نبوئي وتبشيري. وهناك مقطعا ل “هرمان ميلفيل” : نحن الأمريكيين شعب مختار مميز ـ إسرائيل هذا الزمان ، إننا حاملون لتابوت عهد حريات العالم (برستوفتز، 2003، ص 28) . لقد صوَّرَ الربّ أشياء كثيرة لِعِرْقِنَا، والبشرية تنتظر هذه الأشياء. إننا في قلوبنا نحسّ بهذه الأشياء. أمّا باقي الأمم فسَتَسير، قريبا، خلفنا. إننا روَّاد العالَم، الطليعة التي تم إرسالهَا من خلال غابة الأشياء التي لم تتحقق، لِشّقّ طريق في هذا العالَم الجديد الذي هو عالَمنَا" "( لييفين، 2005، 23، يوليو).
الأصولية الأمريكية المتطرفة
في العصر الحاضر تنامى الدور الذي يلعبه الدين في الحياة الأمريكية بصوره مخيفة ، بسبب تنامي قوة وتأثير الحركات الأصولية المتطرفة، التي تمكنت من الوصول إلى سدة الحكم أخيراً ، ممثله بالرئيس المؤمن (جورج دبيليو بوش) ، الذي يعكس بصورة دقيقه تماما طبيعة بلده الذي يحكمه. فنسبة المؤمنين بالله في الولايات المتحدة تصل إلى 95% من السكان ، وهي أكبر نسب التدين في العالم، بينما في أوروبا قد لاتصل النسبة إلى 65 %. كما أن الولايات المتحدة تحتوي على اكبر عدد من الكنائس في العالم، حيث أن هناك كنيسة لكل 865 مواطنا ، وهو ما وصفه معهد (جالوب) للاستطلاعات تعليقا على استطلاع كان قد أجراه في مايو 2002 م، بأن ذلك حقيقي لأنه توجد رغبة عميقة إلى الاتجاه للشؤون الروحية. فهي حالة من الظمأ إلى الله فبينما يصل عدد الأمريكيين الذين يذهبون إلى الكنيسة مرة واحدة في الأسبوع إلى 70% على الأقل تصل النسبة إلى 20% فقط في أوروبا الغربية، و 14% في أوروبا الشرقية، وبذلك فإن أمريكا على عكس أوروبا تريد أن تثبت بوضوح أن الحداثة لا تعنى التحلل من الدين.
كما أن أمريكا تعتبر نفسها (وطن الله) ، وهذا وعى قديم متزايد ومترسخ الجذور منذ هروب (الكالفنيين) اتباع المصلح (كلفن) ، على الباخرة (ماي فلارو) عام 1620م ، الذين اعتبروا أنفسهم حجاجا إلى وطن الخلاص، أو إلى مملكة الرب. وهذا الوعي التاريخي هو الذي عمل على منع الفصل بين الدين والدولة في أمريكا، ورفض اعتبار الدين إيمانا ذاتيا وعلاقة شخصية بين العبد وربه. ومنذ ذلك الحين وفيما بعد عام 1620م تم تأسيس أمريكا على أساس أنها دولة دينيه ، وسيطر الدين على الدولة منذ ذلك الوقت وحتى الآن. فحاليا توجد العديد من الطوائف البروتستانتية اليمنية المتطرفة التي تقود الجميع. واستطلاعات الرأي الأخيرة تشير إلى تزايد هذه المجموعات بصورة مخيفة(السقا، 2003، ص 48).
ونظرا للمكانة التي يحتلها اليمين المسيحي الجديد في الحياة السياسية بالولايات المتحدة، فإنه من المفيد المقارنة بينه وبين منهاج التطهريين ، الذين اتسمت آراؤهم بالأهمية في الفترة الاستعمارية والأيام الأولى لتأسيس الدولة ، وهناك تشابهات عدة . فهناك تشابه في الأهداف، فكلاهما يرنو إلى الولايات المتحدة كدولة تمتثل لقوانين ومشيئة الرب كما يفهمونها. ويجب أن تتوافق الأخلاقيات الخاصة والعامة مع تعاليم الكتاب المقدس ، الذي يفسر بشكل محافظ. كما يرغب كلاهما في استخدام العملية التشريعية لضمان توافق القانون المدني مع القانون الديني وتطبيقه على المؤمنين وغير المؤمنين. وأخيرا فإن كلاهما يرى أن المدارس العامة تأتي بعد البيت والكنيسة ، كعنصر أساسي في تدريب الأبناء وفق معتقداتهم. وتضرب هذه الأهداف بجذورها في فهمهم للاهوت بشكل متشابه إلى حد بعيد، فهناك حقيقة واحدة مطلقة أوحى بها الرب للبشر ـ الرب والمتصف بالقوة والملك فالبشر مخطئون وضائعون بدون الرب، والولايات المتحدة أمة الرب المختارة ، لتكون مثالا للحياة الورعة في الدنيا (كوربت، 2002، ص 159).
ويرصد (صموئيل هنتنغتون) مظاهر الصحوة الدينية في الولايات المتحدة خاصة خلال عقد التسعينيات، وهي صحوة سادت مختلف الطوائف الدينية الأميركية ، وعلى رأسها الجماعات الإنجليكية التي زادت بنسبة 18% خلال التسعينيات ، ونجحت في بناء عدد كبير ومؤثر من المؤسسات السياسية. ويؤكد (هنتنغتون) حقيقة أن المجتمع الأميركي هو أكثر المجتمعات الأوروبية تدينا ، ما يجعله أرضا خصبة لعودة الدين، خاصة بعد أن ضاق الأميركيون بشكل متزايد منذ الثمانينيات بالمشاكل الأخلاقية ، التي انتشرت في مجتمعهم. ويقول : إن هناك عودة عامة للدين في أميركا انعكست على الروايات الأميركية ، وظهرت في الشركات والمؤسسات الاقتصادية، كما أثرت على الحياة السياسية من خلال الحضور الكبير ، للقضايا الدينية والمتدينين في إدارة الرئيس الأميركي الحالي (جورج دبليو بوش) . ويبشر بأن العودة للمسيحية ـ التي تعد أحد الركائز الأساسية للهوية الأميركية – تمثل عاملا هاما في دعم الهوية الأميركية ونشرها خلال الفترة الراهنة. كما أن الصحوة الدينية –وفقا لتحليل هنتنغتونـ تصب مباشرة في الدور المساعد ، الذي يمكن أن يلعبه الدين على الساحة الدولية وخاصة في تعريف عدو أميركا الجديد وهو الإسلام (هنتنغتون، 2004).
علاقة الدين بالدولة الأمريكية الحديثة
خلال هذا الكتاب عرضنا لمواقف كثير من الرؤساء والساسة الأمريكيين، حيث لاحظنا أثر الدين في تشكيل مواقفهم تجاه قضية اليهود وإقامة إسرائيل ، وسنلاحظ بعد ذلك أيضاً كيف أن الدين لعب دوراً رئيساً في تشكيل مواقف الدولة الأمريكية من كثير من القضايا، مثل قضية الهنود الحمر ، والزنوج، والعلاقة مع العالم الخارجي، وهذا يوضح الدور الذي لعبه الدين في الدولة الأمريكية منذ تأسيسها وحتى الآن .
فقد اعتمد الرؤساء الأمريكيون بدءاً من (جورج واشنطن) فصاعداً على الحس الديني ، ليس للتأثير على عقول أبناء الشعب فحسب، بل على أفئدتهم أيضاً ، لتأييد الأهداف الرئاسية. فالدين والسياسة شكلا نسيجاً متداخلاً عبر تاريخ الولايات المتحدة منذ الفترة الاستعمارية ، وحتى وقتنا الحاضر (حسن، (2002)، ص295) ، حيث وجدت الطبقة السياسية الأمريكية الحاكمه ضالتها في الغواية الدينية في إغواء الجمهور دينياً لتغييب وعيه من خلال استدراج واستحضار الدين وجعله مكوناً أصيلاً في الممارسة والثقافة السياسية الأمريكية، وذلك في ظاهرة فريدة من نوعها في بلدان الديمقراطيات الغربية ، التي فصلت منذ أمد بعيد بين الدين والدولة وبين الدين والمدرسة.
وهنا يرى البعض أن نقطة الامتزاج الروحي بين إيديولوجيا اليمين المتطرف الذي يمثل مصالح كبريات شركات السلاح والنفط في أمريكا ، وبين المرجعيات الدينية المسيحية البروتستانيه المتهودة ، قد وصلت إلى ذروتها في سبعينيات القرن العشرين المنصرم، إذ يأخذ في اعتباره الحقبة (الريجانيه) ، التي بدأت مطلع الثمانينات من ذلك القرن، حيث أفسح هذا الحلف المقدس المجال إلى تنامي الشعور بالفوقية ، وتبلور فكرة ونزعة السيطرة على العالم ، باعتبار أن الأمة الأمريكية هي الأمة الأنقى والأميز والأرقى قيماً وحضارة ، والأجدر بقيادة العالم على الطريقة الأمريكية الرائدة ، في إشاعة الخير ومحاربة الشر(الصياد، 2003، 15، فبراير).
بهذا التبسيط الشنيع لثنائية الخير والشر، اختزلت الطبقة الأمريكية الحاكمة فكرة العالم إذ شطرته إلى شطرين وفرزته إلى قسمين : قسم أخيار، وقسم أشرار. فوضعت في القسم الأول كل من يخضع لمشيئتها ويناصرها ويقلدها، ووضعت في القسم الثاني كل من تتغاير رؤاه معها ، وكل من يبدي حرصاً وعقلانية على صيانة مصالحه. ورغم أن بعض رؤساء أمريكا السابقين حاولوا إدخال معتقداتهم الشخصية في طريقة ممارسة الحق الإمبريالي الأمريكي، وهذا ما كان (جيمي كارتر) قد فعله، وكذلك (رونالد ريغان) ، الذي أطلق المصطلح الديني القديم المعروف ، حول قوى الخير مقابل قوى الشر لوصف الاتحاد السوفيتي ، بأنه (إمبراطورية الشر) ، إلا أن (جورج بوش الابن) يحاول الآن المزج بين تمسكه بالمسيحية المتشددة ، ورغبته في وضع نظام عالمي جديد يقوم على المصالح الأمريكية، منطلقاً من فكرة : أن قدر الولايات المتحدة هو أن تشن الحرب للوصول إلى السلام ، وهو ما تسميه الولايات المتحدة مفهوم (الحرب الوقائية). ولكن هل هذه النزعة العدوانية هي حقاً وليدة تلك الحقبة السبعينية من القرن العشرين ، أم أن لها جذورها الممتدة عميقاً في بنية العقل والثقافة الأمريكية (بما في ذلك المكون الديني) وهنا يقول الدكتور (حامد سلطان) :
"يبدو ظاهراً أن المبدأ الذي ساد نظام الإمبراطورية الرومانية ، هو مبدأ خضوع الشعوب لروما، لا مبدأ (التنظيم العالمي) كما يدعي البعض ، وهو يقوم على السيطرة المادية الخالصة. أما استناده إلى السيطرة الدينية والروحية فقد اجتاز مراحل نشير إليها في إيجاز. فمن المفهوم أن المسيحية عندما بدأت زحفها الروحي على روما ، صادفت عقبات كثيرة ومقاومة شديدة من الحاكمين، والمسيحية دين يقوم في الأصل على فكرة السلام الخالصة ، ومن تعاليمها الثابتة النهي عن القتل والتحذير من القيام به. والأناجيل الأربعة مجمعه على أن من يقتل بالسيف، بالسيف يُقْتَل. لذلك كان طبيعياً أن يرفض الرومانيون الذين دخلوا في المسيحية في المراحل الأولى أن يقوموا بأداء الخدمة العسكرية في روما ، أو أن ينخرطوا في الجيش الروماني، أو أن يشتركوا في الحروب، التي كانت تشنها الإمبراطورية الرومانية. وعلى اثر ذلك قام صراع عنيف بين دعاة المسيحية المسالمة ورجال الحكم في روما، وكان هذا الصراع في الحق صراعاً بين الروحية والمادية ، وقد دام هذا الصراع قرابة أربعة قرون(سلطان، 1968، ص 102) .
ولكن ابتداء من القرن الرابع للمسيح ـ عليه السلام ـ بدأ رجال الدين المسيحي يتقهقرون ويحاولون التوفيق بين روح المسالمة المسيحية من جهة، وروح السيطرة العسكرية من جهة أخرى. وأخرج القديس (ايزيدور) والقديس (امبرواز) بعض النظريات في هذا الشأن، على أن الداعية الذي كان له الأثر الحاسم في إيجاد هذا التوفيق هو القديس (أوغسطين) الذي أخرج في هذا الشأن مؤلفين أولهما هو(العقيدة المخالفة) ، والثاني هو "مدينة الرب" (سلطان، 1968، ص 102) .
ويبدو واضحاً لمن يتفحص هذين المؤلفين، أن صاحبهما دعا المسيحيين إلى التخلي نهائياً عن فكرة المسالمة ، التي قام على دعامتها الدين المسيحي في الأصل. وليس هنا مقام التفصيل في شأن نظرية أوغسطين ، ويكفينا أن نذكر أن هذا القديس قام في مؤلفه الأول ، بتسويغ فكرة الحرب وفق الحجج التاليه:
1) أن الحرب هي عمل من أعمال القضاء العادل المنتقم. فهي تقوم لإنزال العقاب بالعدل، ومن ثم فليس هناك ظلم يقع من جانب من يقوم بالحرب العادله.
2) أن الحرب هي لمصلحة المنهزمين ، لأنها ترجع بهم إلى حال السعادة في السلام.
3) أن الحروب تقوم من أجل ضمان السلام (أبو خليل، 2003، ص34).
وعندما ظهرت حركة الاصلاح الدينى على يد مارتن لوثر واخذت بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، واصبحت التوراة جزء اساسي منه بما تحتوية من معتقدات ومواقف تبرر الحرب والقتل، انعكس ذلك مباشرة على اتباعها . فكانت البروتستانتية في التاريخ الأوروبي ، وما تفرع عنه في العالم الجديد ، حركة انقلاب سياسية /لاهوتية/ فكرية/ اجتماعية ، مازال العالم يشهد مسار ما تمخضت عنه صوب جائحة عالمية ، لا يستطيع أحد أن يتنبأ بما قد تتسبب فيه من دمار ومعاناة ومذابح (مقار، 1992، ص 71)، بسبب تبنيها المعتقدات اليهودية العنصرية الحاقدة، التى لعبت دوراً رئيساً في نشوء الارهاب والاجرام البريطاني الأمريكي تجاه العالم؟.
وهكذا فإن الجذور الدينية للمواقف الأمريكية تجاه الحرب والسلام توجد في الكتب المقدسة المسيحية واليهوديه. وقد أدت هذه الكتب إلى ظهور ثلاث رؤى للحرب: الحرب المقدسة ، والحرب العادلة والسلامية، حيث أن المسيحية كان لها السيادة في تشكيل المواقف على النحو التالي: إلى أن جاء حكم (قسطنطين) ، ظلت السلامية هي الموقف السائد للمسيحية، وإلى جانب هذا الموقف يمكن ملاحظة موقفين آخرين معاديين للسلام ، ينص مذهب الحرب العادلة على جواز مشاركة المسيحيين في الحرب ، وجواز إجبارهم على ذلك ما دامت الحرب تعلنها السلطة الصحيحة ، ويتم فيها الالتزام بقواعد أخلاقية. وظهرت فكرة الحرب المقدسة ، أو الحرب الصليبية خلال القرون الوسطى، حيث كان منهج الحرب المقدسة أو الحرب الصليبية، هو أحد المظاهر المهمة للمواقف في الولايات المتحدة تجاه الحروب ، ومصطلح الحرب المقدسة كما هو مستخدم هنا، يعني حرب مقدسة يشنها الصالحون نيابة عن الرب ضد الكفار والمهرطقين سياسيا أو دينيا (كوربت، 2002، ص 122).
وفي ظل هذا التبرير الديني الجاهز للحرب، تحت مسميات مختلفة لم يكن مستغرباً أن نجد أمريكا تبرر حروبها المختلفة بنفس المبررات، حتى أن (ريشارد لاند) رئيس مفوضيه الحرية الأخلاقية والدينية لكنائس "بابست" في الولايات الجنوبية، برر الحرب على العراق في أحد مقالاته على خلفية أسباب دينيه بقوله:
"قيادة حرب عادلة هي عمل مسيحي يقوم على الإيثار، فالأشرار يجب أن يعاقبوا، والأخيار يجب أن يكافئوا ، لقد جاء وقت العنف . كما أن التيارات الأصولية المتطرفة بدأت تنادي بصورة متزايدة بوجوب شن حرب صليبيه ضد الإسلام، رغم أن عدداً من الأساقفة الكاثوليك وجماعات السود احتجوا على ذلك، إلا أنهم لن يؤثروا طالما أصر اليمين المسيحي المتطرف ، على التأكيد أن الحرب ضد العراق ، هي جزء من (الحرب ضد الشر) ليس ذلك فقط ، بل أنهم بدءوا يقولون: إن أوروبا هي أداة للشيطان ، لأنها لم تدعم أمريكا في حروبها الجديدة (السقا، 2003، ص 43).
الأصولية المسيحية والنظام الدولي الجديد
ربما يستغرب البعض هذا الربط بين الأصولية المسيحية ، والنظام الدولي الجديد، على اعتبار أن مصطلح النظام الدولي الجديد ، هو مصطلح سياسي جاء ليعبر عن موازين القوى في العالم ، بعد انهيار المعسكر الشرقي بزعامة الإتحاد السوفيتي، والذي أفسح المجال أمام التفرد الأمريكي على الساحة الدولية ، وتحول العالم إلى نظام أحادي القطبية بزعامة أمريكا، مما أتاح لها المجال لفرض سياساتها وهيمنتها على العالم. وقد غاب عن هؤلاء أن هذا المصطلح له جذور عميقة في الفكر الأصولي المسيحي في أمريكا . فعندما تأسست الأمة الجديدة ، رأى الأمريكيون في أنفسهم منار هدى للعالم حيث رفع الشعور بكونهم أمة مختارة، أو إسرائيل جديدة، إحساسهم بالرسالة أو (المصير الواضح) ، بأنهم سيصبحون قوة يعبر نفوذها القارات، بفضل تفوقهم الأخلاقي المفترض. وفي القرن العشرين عندما أصبح الأمريكيون قوة عالمية ، كان الاعتماد على مثل الأمة المختارة الأعلى، أساساً منطقياً ومبرراً هاماً في السياسة الأمريكية الخارجية، من أجل التسريع بالنظام الدولي الجديد أو بالتعبير التوراتي "العصر الألفي السعيد" ، الذي كان التطلع إليه عميق الجذور في الفكر الأمريكي، وليس كما يعتقد البعض ، بأنه برز بعد الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشرقي، أو أنه من بنات أفكار السياسيين والاستراتيجيين المعاصرين.
فخلال الحرب الأهلية ، كانت المقالة الشائعة بين البروتستانت في الشمال ، تعادل بصورة مفروغ منها ، بين نجاح الاتحاد ، وبزوغ فجر عصر جديد ، أو ألفية حكم المسيح. وكانت أنشودة معركة الجمهورية( ) تتمتع بشعبية ؛ لأنها طبقت الرموز التوراتية الشائعة على قضية الاتحاد الشمالي. أما بالنسبة لأولئك الذين حملوا هذا التشبيه على محمل الجد، فكانت هذه الألفية فترة تتوج مسيرة تقدم الإنسانية، حيث سيحكم المسيح العالم ويغير مسار الحضارة، ويحدث تقدما روحياً يحقق جميع أحلام الإنسانية، حيث سيشهد العصر المقبل نهاية للحروب ، والرق ، والعنف ، والرذائل كالزنا ، ومعاقرة الخمر ، وسيحمل معه قفزات عظيمة إلى الأمام في العلم والتكنولوجيا والمعرفة الإنسانية ، وتحقيق الديمقراطية ، بما تحمله من وعود بالحرية والعدالة للجميع.
وإذا أريد للولايات المتحدة تحقيق مصيرها كقائدة في هذه المهمة ، فإن عليها استئصال كبائر مثل : الرق للبرهنة على قدرة الأمة المكرسة نفسها للحرية والعدالة على الاحتمال والصمود . ولذلك عندما تشكلت الأمة الجديدة تقبل الأمريكيون بسرعة حديث الميثاق المتعلق بالحصول على مباركة الله أو التعرض لخطر أحكامه. وقد أحب الأمريكيون النظر إلى أنفسهم على أنهم حملة رسالة خاصة. وتحدثوا فوراً، بصورة تكاد تماثل ما كان البيوريتان قد تحدثوا به، عن الولايات المتحدة بوصفها إسرائيل الجديدة ، اختارها الله لتقوم بدور قيادي في حقبة جديدة من افتداء العالم (مارسدن، 2001، ص 25).
النظام الدولي الجديد .. والنظرية الكونية للتاريخ
نشر بعض وعاظ الضوء الجديد ـ أثناء اليقظة الكبرى ـ الفكرة القائلة : إن الكرة الأرضية كانت تقترب من فجر عصر جديد، حيث تحدث الكتاب المقدس ، الذي كان يعتبر على نطاق واسع المرجع النهائي حول جميع المسائل عن عصر ألفي وألف سنة من حكم المسيح . ومع أواسط القرن الثامن عشر كان أكثر التفسيرات شيوعاً يقدمه الإحيائيون الأمريكيون لهذه النبوءة، وهو أنها تنبأت بصورة رمزية بالعصر النهائي في التاريخ الذي سيأتي فيه روح المسيح أو الروح القدس لتحكم في العالم . وقد نظر إلى اليقظة نفسها على أنها بداية هذا العصر، الذي سيشهد إتباع الناس بأعداد كبيرة للإنجيل.
وكان من المحتم أن تتخذ هذه النبوءات دلالات سياسية. وحسب ما ورد في النص المقدس، فإنه لابد من يهزم المسيح الدجال كشرط لمجيء الألفية. وحسب ما درجت عليه العقيدة البروتستانتية ، فإن الدجال يعني البابا. ولذلك فان أية هزيمة سياسية للبلدان الكاثوليكية ، كانت خطوة نحو بزوغ فجر الألفية وفق نطاق المنشقين الأمريكيين. وتتوافق الحروب الفرنسية والهندية للأعوام 1756ـ1763م مع هذا التصور بدقة . فعلى سبيل المثال ، وصف (صموئيل ديفيس) الإنجيلي المشيخي الشهير، الجهود البريطانية ضد فرنسا على أنها بداية هذا الصراع الحاسم العظيم بين الحمل والوحش، وجاهر قائلاً :
"إن من شأن نصر بريطاني أن يساعد في إحضار سماء جديدة ، وأرض جديدة. وعندما لم يجلب انتصار سنة 1763م في ذيوله عصراً جديداً مهيباً، بل إعادة تنظيم الإمبراطورية البريطانية، استلزم ذلك بعض التمرينات البلاغية من جانب الوعاظ المنشقين لوضع إنجلترا البروتستانتية في الصف الذي يقف فيه البابا (مارسدن، 2001، ص 50) . كما كتب (توماس بين) في عام 1775م يقول : إن لدينا من القوة ما يمكننا من أن نعيد بناء العالم مرة أخرى . فلم يحدث منذ عهد نوح حتى الآن، موقف مشابه لما هو عليه الحال في الحاضر، أن ميلاد عالم جديد أصبح الآن بأيدينا (كليفلاند، 2000، ص19) .
ومن المفارقات الغريبة أن أول إعلان عن نظام عالمي جديد، خلال القرن الحالي، صدر قبل 50 عاماً من إعلان (بوش الأول) في الكونغرس عن نظامه العالمي الجديد. فقد استخدم (أدولف هتلر) اللغة ذاتها حيث قال: أنا علي يقين تام من أن عام 1941م سيكون عاماً حاسماً في فتح الطريق أمام نظام جديد عظيم في أوروبا. سوف تكون أبواب العالم مشرعة للجميع ... ستساعد هذه السنة في توفير الأساس اللازم لتفاهم حقيقي بين شعوب الأرض، بما يضمن المصالحة بين كافة الشعوب والأمم (زلوم، 2003). فباسم نفس المسيحانية المنقذة، أعلن هتلر ألف عام من النازية كسيطرة، وكإعادة تجديد للعالم بواسطة نقاء الشعب المختار الجديد : الآريون (جارودي، (2003) ص 68). وبالطبع لم تجلب تطلعات هتلر لنظام عالمي جديد سوى الدمار والدماء لأوروبا والعالم ، وانهارت أحلامه في بناء إمبراطورية عالمية يحكمها الجنس الآري، ولكن ذلك لم يمنع وجود نفس الأفكار والتطلعات على الطرف الآخر من المحيط، ممثلاً براعي البقر الأمريكي، حتى لو كان هذا النظام العالمي الجديد سيتحقق على أشلاء ملايين البشر، وأنقاض حضارات عريقة.
فنتيجة للحرب العالمية الأولى والثانية ، تم رسم الحدود الاقتصادية للنظام العالمي الجديد ، الذي يجب أن يكون خاضعا لحاجات ومتطلبات الاقتصاد الأميركي، وقابلا للتحكم والضبط السياسي الأميركي قدر المستطاع، ولذا كان يجب تفكيك سيطرة الإمبرياليات ـ خاصة الإمبريالية البريطانية منهاـ في الوقت الذي تعكف فيه واشنطن على توسيع الترتيبات الإقليمية الخاصة بها، في كل من أميركا اللاتينية ، والمحيط الهادي ، وفق مبدأ "ما يلائمنا يلائم العالم". لإن الأميركيين يؤمنون بأن الولايات المتحدة ترمز إلى شيء ما في العالم، شيء يحتاجه العالم، شيء سيحبه العالم، شيء سيتقبله العالم في آخر المطاف سواء أحبه أم لا.
فالتخطيط الأميركي للعالم ، أقام إعادة بناء العالم الصناعي على نهج كفيل بتلبية احتياجات ومصالح قطاع المال والأعمال ، الذي يمسك بخيوط السياسات، فالأولوية لاستيعاب فائض الصناعات الأميركية، وسد الفجوة الدولارية، وخلق فرص الاستثمار، فخطة (مارشال) وضعت الأسس للشركات المتعددة الجنسية ، والاستثمارات ، والصناعات الأميركية ؛ لتمتد إلى ما وراء البحار ، محمية بمظلة القوة الأميركية. وأسندت إلى أجزاء أخرى من العالم وظائف حددها مخططو وزارة الخارجية: على جنوب شرقي آسيا أن يزود الإمبرياليين بالموارد والمواد الأولية، ولكن ينبغي منح اليابان نوعا من الإمبراطورية باتجاه الجنوب، وأفريقيا تسلم للأوروبيين كي يستغلوها لأغراض إعمار بلادهم، وكان نصيب الشرق الأوسط من نصيب الولايات المتحدة وليس أوروبا. ووصف قادة الولايات المتحدة المملكة العربية السعودية ، بأنها ينبوع قوة إستراتيجية مذهل، وإحدى أعظم الجوائز المادية في تاريخ العالم، ووصفت شرق آسيا بأنها بؤرة التجارة العالمية والتجديد التكنولوجي (تشومسكي، 2004) .
الحرب الباردة وحلم تأسيس إمبراطورية أمريكية
بعد الحرب العالمية الثانية، أتاح السلام الأمريكي الأول بناء نظام عالمي جديد ، قائم على المجابهة مع الشرق ، ولكن متمتع بآليات قوية في النظام المالي (اتفاقيات بريتن وودز، صندوق النقد الدولي، البنك العالمي ..) وفي الأمن الجماعي (منظمة الأمم المتحدة، حلف شمال الأطلسي) . وكان يراد من ذلك أن يؤمن للولايات المتحدة موقعاً مهيمناً، إلى جانب إفساح المجال أمام أوروبا واليابان لكي تعيدا بناء نفسيهما بفضل مشروع مارشال (مامير، 2004، 44) .
وفي تلك الفترة وبمساعدة إشعيا بومان ـ الذي قاد مجموعة دراسات الحرب والسلام ، التي أسست لولادة نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية ـ أسس (روبرت ستروز) في عام 1955م معهد بحوث السياسة الخارجية ، والذي قام عام 1957م بإصدار نشرة فصلية باسم (أوربز) ، تخصصت في الشؤون الدولية، حيث كانت المهمة المعلنة لهذا المعهد ونشرته هي الدعوة إلي إقامة إمبراطورية أمريكية، والتخلي عن سيادة الدول والدولة القومية، خاصة في عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي! حيث نشر في العدد الأول للمجلة عام 1957م مقاله ، عنوانها: "موازين الغد" جاء فيها:
"إن مهمة الولايات المتحدة هي توحيد العالم بأكمله تحت قيادتها خلال هذا الجيل. أما سرعة وكفاءة تحقيق الولايات المتحدة لهذا الهدف فسوف يقرر مصير الحضارة الغربية ، وبالتالي المصير البشري... فهل سيكون النظام العالمي الجديد القادم هو إمبراطورية عالمية أمريكية...؟ يجب أن يكون الأمر كذلك لدرجة أن تحمل الإمبراطورية العالمية تلك دمغة الروح الأمريكية. أما التهديد لهذه الرؤية ، وهذه الإمبراطورية الأمريكية فسيأتي من آسيا كما جاء في مقال (أوربز) : أما الإمبراطورية الأمريكية والجنس البشري فسوف لن يكونا متضادين، بل هما اسمان لشيء واحد هو النظام العالمي الجديد"(زلوم، 2003).
ولكن هذا النظام الدولي الجديد ، الذي عملت أمريكا على تأسيسه، لم يتحقق بسبب ظهور الاتحاد السوفيتي كقوة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية ، والذي شكل معضلة كبيرة في وجه دعاة تأسيس النظام العالمي الجديد، حيث توجهت جهودهم لمواجهة هذا الخطر الجديد من خلال تضخيم حجمه. فطوال 70 عاماً، أقنعت الولايات المتحدة جزءاً كبيراً من العالم بأن هناك مؤامرة دولية تتربص به، مؤامرة شيوعية دولية، تسعى على اقل تقدير للسيطرة على الكوكب برمته، لأغراض ليس لها قيم تحقق الخلاص الاجتماعي، وجعلت العالم يعتقد انه يحتاج إلى الولايات المتحدة بطريقة ما لإنقاذه من غياهب الظلمة الشيوعية (بلوم، (2002) ص 24).
ولهذا نشطت هذه القوى في بداية الحرب الباردة، حيث كانت السياسة الخارجية الأمريكية يجري تنفيذها تحت العلم الخفاق لخوض حرب صليبية أخلاقية ضد ما أقنع به محاربو الحرب الباردة الشعب الأمريكي ، ومعظم العالم وأنفسهم عادة، وهو وجود مؤامرة شيوعية دولية حقود، ولكن ذلك كان خداعاً دائماً، فلم يكن هناك مطلقاً ذلك الوحش المسمى بالمؤامرة الشيوعية الدولية (بلوم، (2002) ص 44).
"ولكن تركيبة قوي اليمين المتطرف، شنت حرباً علي جبهتين ضد الشيوعية، حيث كانت أولي هاتين الجبهتين ما عرف باسم المكارثية، نسبة إلي السيناتور (جوزيف مكارثي)، والذي أذكى شرارة العنف السياسي ؛ ليصل ذروته من خلال مزاعم لا أساس لها من الصحة ، حول وجود الحمر، في إشارة إلي الشيوعيين، في كل الوزارات والدوائر الحكومية. وقد كشف (ويليام سوليفان) عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، إن الـFBI هو الذي كان يغذّي مكارثي ويزوده بالمعلومات(زلوم، 2003).
أما الذراع الثاني للحملة ضد الشيوعية ، فكان بروز التعصب المسيحي الذي داعب تلك المشاعر المناهضة للشيوعية في الولايات المتحدة. فقد سمع اثنان من قوي اليمين المتطرف عن واعظ مغمور يلقي عظاته في لوس أنجليوس أمام عدد قليل من الجمهور. وهنا رأي هذان الرجلان أن ذلك الواعظ ، يلاءم حاجتهما في التبشير بغرض مقاومة الليبرالية والشيوعية. وقام الرجلان بإجراء مقابلة مع ذلك الواعظ الذي هو( بيلي غراهام) ووعداه بمنحه كل دعمهم الإعلامي. وأوعزا إلي مجموعتهم الإعلامية بان تنفخ (غراهام) إعلامياً، وقاما بنشر صورة (غراهام) علي غلاف مجلة لايف، وبين عشية وضحاها، أصبح (غراهام) بطلاً قومياً أميركيا، وبدأ يلقي محاضراته وعظاته علي مئات الألوف من الجماهير، حيث ساهم في ذلك كون الناس قد شبعوا ضغوطاً ، وقرروا أن يعودوا إلي دينهم لينعموا بالهدوء في روحانيته، بعد أن ملأ الملل صدورهم من الرأسمالية والمادية. وهكذا أخذ المدّ الديني يتعاظم أكثر فأكثر. واستمرت حركتهم ونمت بفضل قوة الإعلام ومئات محطات الإذاعة والتلفزة التي يملكونها ، علاوة علي الميزانيات السنوية التي تقدر بمئات الملايين من الدولارات.
وقد ساهم هذا المد الديني في إذكاء الحرب ضد الشيوعية، وإطلاق قوة الولايات المتحدة لتدير حملة صليبية قوية ضد الشيوعيين الكفار(أولدفيد، 2003) حيث وصلت هذه الحملة ذروتها في عهد (ريجان)، مما ساهم في انهيار الشيوعية تماماً في عهد (بوش الأب) بعد حرب الخليج الأولى. ولم يكن غريباً في هذا الوقت أن يتم إعادة نشر مقالة (اوربز) المشار إليها ، والتي كتبت قبل 35 عاماً من انهيار الاتحاد السوفييتي، مره أخرى في شتاء 1993م ، في إشارة واضحة للاقتراب من تحقيق هدف تأسيس نظام عالمي جديد، حيث ثم تفكيك الاتحاد السوفيتي من ناحية، وتدمير اكبر قوه عربية تهدد إسرائيل ، وهى العراق ، من ناحية أخرى، ولتبدأ بعدها مباشرة خطة القضاء على الإسلام ومحاربته في كل مكان كما نعيشها الآن، حيث توجه مركز الثقل في الحرب الأمريكية صوب الإسلام والمسلمين، وبتحريض مسعور من دعاة صراع الحضارات وبارونان الشركات متعددة الجنسيات، ورموز اليمين المسيحي المتطرف ، الذين زاد هوسهم الديني واعتقادهم بكثير من الخرافات التوراتية، التي عرضنا لها سابقاً .
فبعد أن كان المبشرون يلقون مواعظهم من العهد الجديد ، الذي يتحدث عن المسيح في بداية الأمر، أصبحوا فيما بعد الدعاة الحقيقيين للرأسمالية العالمية، داعين إلي حروبها بحيث أصبحوا يشغلون منصب البوليس الديني للنظام. ومؤخراً، باتوا يقدمون مواعظهم ، ويقتبسونها من إنجيل الصهيونية وليكودها المتطرف جدا ، لينادوا بالحرب ضد الإسلام، وشكل هؤلاء تحالفاً مع المتعصبين اليهود المتطرفين ؛ ليكونوا حركة متعصبة مسيحية يهودية ، اتخذت مواقف ضد الإسلام غاية في التطرف. وأصبحوا قوة هائلة في الحزب الجمهوري وصياغة سياساته، حتى أن (هيرب زوايبون) ، رئيس منظمة "أميركيون لإسرائيل آمنة" ، حذر (جورج بوش) في البيت الأبيض أنه في حال تبديل 10بالمئة فقط من الـ 70 مليون مسيحي صهيوني لمواقفهم، فإنهم سيقلبون موازين الأمور ويدمرون رئاسة (بوش) ما لم يساند (شارون) في حربه الضروس ضد الفلسطينيين. لقد كان المسيح يدعو إلي المحبة وهؤلاء يدعون إلي البغضاء( زلوم، 2003) .
عصر التنوير الجديد
في الفتره مابين ظهور حركة الإصلاح الديني وحتى الآن، شهد العالم حروب كثيره، لعبت فيها الدول البروتستانتية الانجلوسكسونية الدور الرئيس، حيث سيطر الغرب خلال هذه الفترة علي مقدرات العالم، وشكلت الدول القومية نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب ضمن الحضارة الغربية، حيث قامت تلك الدول بالتنافس والتفاعل ، وشن الحروب بين بعضها البعض. وقد توسعت هذه الدول القومية الغربية، وقامت باستعمار حضارات أخري والتأثير فيها. وأهم ما تحقق خلال هذه الفترة هو القضاء على نفوذ الدول الكاثوليكية والأرثوذكسية، وسيادة البروتستانت ممثلين بالانجلوسكسون في بريطانيا وأمريكا على العالم. وعندما صارت الولايات المتحدة لاعبا كونيا للمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت بإزاحة أصدقائها الأوروبيين لتحل محلهم، واستخدمت قدراتها وثرواتها الطائلة من أجل ترتيب النظام الدولي بعناية ومهارة(تشومسكي، 2004).
فبعد أن تمكنت أمريكا من القضاء على نفوذ الدول الكاثوليكية – كما سنعرض لاحقاً – ابتداء من حروبها في أمريكا اللاتينية وانتهاءً بالحربين العالميتين، ثم قضاءها على المعسكر الشرقي ـ التي تمثل دوله الكنيسة الأرثوذكسية ـ اقترب هذا الحلم الأمريكي من التحقق وأصبح النظام العالمي الجديد هو تحقيق إمبراطورية أمريكية عالمية ، تعمّها المثل والقيم الأمريكية، حيث شهدت الأعوام الأخيرة من الألفية الثانية عرضا ضخما وحماسيا من تملق الذات ـ ربما فاق كل سوابقه غير المجيدة بأية حال مصحوبا بتهليل مخيف لقيادة عالم جديد مثالي عاكف على وضع حد نهائي للبربرية، ومنذور لخدمة المبادئ والقيم لأول مرة في التاريخ، عصر من التنوير والبر طلعت شمسه علينا، وتتصرف فيه الأمم المتمدنة تحت قيادة الولايات المتحدة ـ وهي يومذاك في عز مجدها ـ بروح الغيرية والحمية الخلقية في التماسها المثل العليا.
ولادة النظام العالمي الجديد
مع سقوط الاتحاد السوفييتي وانهياره في نهاية عقد الثمانينات، أصبح النظام العالمي الذي ساد إبان الحرب الباردة طي النسيان ، ومجرد تاريخ فقط ، حيث حلّ محله النظام العالمي الجديد، الذي كانت أولى أولياته تحقيق الحلم الصهيوني، والسيطرة على العالم من خلال السيطرة على مصادر النفط في المنطقة العربية. وإذا كانت السيطرة علي النفط العالمي، أولوية معلنه لليمين المتطرف، وإن تم تجميلها ببعض المزاعم كمحاربة الإرهاب، ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن الهدف المتعلق بالحلم الصهيوني المسيحي الأصولي ، ظل غائباً عن الصورة لأهداف تكتيكية. وهكذا احتلت المنطقة العربية والإسلامية مركز الثقل بالنسبة لليمين الأمريكي المتطرف، وكانت علي رأس الأولويات علي أجندة النظام العالمي الجديد الذي صاغ إستراتيجيته الكونية على هذا الأساس .. فكانت حرب الخليج الأولوية الأولي للنظام العالمي الجديد ... وكان العراق إلي جانب بقية دول الخليج المنتجة للنفط أولي الضحايا التي قدّمت لهذا النظام الجديد.
ففي الثالث والعشرين من آب ( أغسطس) 1990م ، أي بعد ثلاثة أسابيع من اجتياح العراق للكويت، استخدم (برنت سكاوكروفت) مستشار الأمن القومي ، في عهد الرئيس (جورج بوش) مصطلح النظام العالمي الجديد للمرة الأولي حيث خاطب الصحافيين ، قائلاً: إننا نؤمن بأننا سنقيم أركان النظام العالمي الجديد علي أنقاض العداء الأمريكي ـ السوفييتي الذي كان قائماً أما رئيسه بوش، فقد خاطب الكونغرس الأمريكي بعد ذلك بعدة أسابيع في 11 ايلول (سبتمبر) 1990 م قائلاً: لقد ابتدأت شراكة جديدة بين الدول... إن الأزمة القائمة في الخليج الفارسي، علي خطورتها ودمويتها، تمنحنا فرصة نادرة... من خضم هذه الأوقات العصيبة... قد يولد نظام عالمي جديد (زلوم، 2003).
وهنا يبدو الرئيس (بوش) يعيد تكرار أمنية سابقة تمناها الزعيم الصهيوني (إسرائيل زانغويل) في خطاب له في 2 ديسمبر 1917م ، أي بعد صدور وعد بلفور بشهر واحد، وصف فيه المحاولات البريطانية والأمريكية، الرامية إلى إعادة اليهود إلى أرض فلسطين ، بقوله :
"سبع حملات صليبية إلى الأرض المقدسة، عادت على اليهود بالمذابح، فهل ستؤدى الصليبية الثامنة إلى استرجاع اليهود لفلسطين ؟ وإذا كانت صليبية حقة، فإن تلك الحقيقة بالذات تأتى بمثابة البرهان على النظام الجديد لعالم تسوده المحبة والعدالة" . ولم ينسَ (زانغويل) في هذا الخطاب، أن يكمل صورة النظام الجديد الذي توقع ميلاده في ظل الحملة الصليبية الثامنة، حيث أشار إلى ضرورة طرد العرب من أرض فلسطين ليتسنى إحلال اليهود مكانهم، لإقامة الوطن القومي اليهودي . كما تمنى في هذا الخطاب أن يكتمل هذا العمل عن طريق جعل مدينة القدس مقراً لعصبة الأمم، بدلاً من لاهاى المفلسة، ليتسنى جمع الحلمين العبرانيين، الأكبر والأصغر، ودمجهما في حلم واحد، ولتصبح العاصمة العبرانية ـ ملتقى الديانات العالمية الثلاث ـ مركزاً ورمزاً للعصر الجديد في الحال (رزوق، (1973) ص 407).
ولكن هذا النظام العالمي الجديد الذي تمنى ولادته (زانغويل) و(بوش الأب ) لم يبقَ أمامه إلا العدو الجديد، وهو العالم الإسلامي، فكان لابد من صناعة صورة العدو البديل .. وكان لابد من خوض حرب صليبية بين قوى الخير والشر، وبقيادة (بوش الابن) ليتحقق العصر الألفي السعيد بقيام إسرائيل الكبرى ، وعودة المسيح ليحكم العالم من مقره في القدس ...

الفصل الرابع
جورج بوش والدولة الصليبية
دأب الزعماء الأمريكيون المدنيون والسياسيون على التحدث بصورة رسمية عن الأمة الأمريكية ، كما لو أنها أمة مسيحية ، أو على الأقل أمة تتبع الكتاب المقدس، حيث وصف كل من السياسيين ورجال الدين باستمرار أمريكا ، بأنها إسرائيل الجديدة ، والأمريكيين بأنهم شعب مختار، وشعب مرتبط بميثاق (مع الله)، بل إن خطابات تنصيب رؤساء الجمهورية طيلة القرن العشرين ، قد طبقت العبارة البلاغية التي كان الحاكم (جون وينثروبJohn Winthrop ) أول من استعملها عام 1630م، والتي تصف أمريكا بأنها "مدينة على تل" (مارسدن، 2001، ص 53). فلا حاجة إلى القمر أو النجوم ليلاً، ولا حاجة إلى نور الشمس نهاراً . إنها القدس الجديدة التي لن تنطفئ (برستوفتز، 2003، ص344).
وما دامت أمريكا مدينة على تل، وإسرائيل الجديدة وشعبها مرتبط بميثاق مع الله، فقد كان طبيعياً أن يلعب الدين دوراً رئيساً في الحياة الأمريكية، وكان طبيعياً وبديهياً أيضاً أن تكون الكلمة العليا للخطاب الديني ، لشن حمله صليبيه في الداخل والخارج، لتبرير قتل الهنود الحمر ونهب ثرواتهم، واستعباد الزنوج، وتلقين العالم دروس في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. فمادام هناك تكليف إلهي لأمريكا باعتبارها مدينه على تل، فإنه يحق لها ما لا يحق لغيرها ، وليذهب الجميع إلى الجحيم...
"وهنا يمكن ملاحظة، أن عدم اتساق السياسية الخارجية الأمريكية وازدواجيتها ليس طارئاً، بل هو تعبير عن جانبين بارزين في الشخصية الأمريكية، وكلاهما تميز بأخلاقية ما. واحدة هي أخلاقية الميراث ، التي شكل مزاجها المعرفي الشعور بالنقص الإنساني، والأخرى أخلاقية : التوكيد المطلق للذات التي أشعلتها الروح الصليبية ... والتي يأتي ضمنها تبرير التوسع ، واستخدام القوة في شكل أقرب إلى الحملة الصليبية ؛ لتحضير العالم على الطريقة الأمريكية (مكدوجال، 2001، ص 289) .
وهكذا فإن الروح الصليبية هي التي صاغت نظرة الأمريكيين إلى حروبهم في الداخل والخارج قديماً وحديثاً، حيث لم يكن (جورج بوش) خارج هذا السياق عندما وصف حربه على العالم الإسلامي بالحرب الصليبية . فعندما نشر "ايزنهاور" مذكراته عن سنوات الحرب العالمية الثانية ـ كان العنوان الذي "اختاره" لها هو : "حملة صليبية في أوروبا" ، حيث أن الإشارة إلى الحروب الصليبية الدينية ـ الإيمانية – كانت لها مقاصد ومعبأة بمدلولات دينية (هيكل، 2002، ص204)، ليست بعيده عن إحساس الأمريكيين الأوائل بكونهم أمه مختارة، لهم رسالة، من أجل التسريع ببزوغ فجر النظام الدولي الجديد ، أو بالتعبير التوراتي "العصر الألفي السعيد. ونفس الشيء ردده قبل ذلك الزعيم الصهيوني (إسرائيل زانغويل) عندما، وصف فيه المحاولات البريطانية والأمريكية الرامية إلى إعادة اليهود إلى أرض فلسطين ، بقوله : "سبع حملات صليبية إلى الأرض المقدسة، عادت على اليهود بالمذابح، فهل ستؤدى الصليبية الثامنة إلى استرجاع اليهود لفلسطين ؟ وإذا كانت صليبية حقه، فإن تلك الحقيقة بالذات تأتى بمثابة البرهان على النظام الجديد لعالم تسوده المحبة والعدالة" الحوت، 1991، ص 215).
وربما هذا ما كان يعنيه بوش عندما وصف الحرب الذي ينوى خوضها ضد أفغانستان ، وكثير من الدول الإسلامية بدعوى محاربة الإرهاب، بأنها حرب صليبية، حيث كرر هذه المقولة كثير من أقطاب حكومته، ووصفوا هذه الحرب بأوصاف مختلفة، مره بأنها حرب بين قوى الخير وقوى الشر، ومرة بأنها صراع الحضارات، إلى غيرها من الأوصاف، التي مرت هي وغيرها من التلميحات والتصريحات للمسئولين الأمريكيين، ولوسائل الإعلام الأمريكية مرور الكرام، ولم يتناولها محللونا بالدراسة والتحليل، بل اكتفوا بإقناع أنفسهم والرأي العام المسلم ، بأنها مجرد زلة لسان، بدون أدنى محاولة لمعرفة الأبعاد الحقيقية لهذا الكلام .
"فبقدر ما حاول بوش في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر أن يضبط أعصابه وأعصاب الأمريكيين تجاه أي رد فعل متهور ضد الوجود العربي الإسلامي داخل الولايات المتحدة ، لامتصاص شحنة الغضب، وربما لنفخ النار فيها، كشف لأول مره في الخطاب الأمريكي المعاصر عن احتمال أن ينطوي الرد الأمريكي والغربي عموماً على بعد صليبي (خليل، (2003)، ص35) .
بوش.. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية
كثيرون هم الرؤساء الأميركيون ، الذين أكدوا تعلقهم بجذورهم الدينية فاستشهدوا في خطاباتهم باقتباس من الكتاب المقدس، إلا أن الدين لم يفرض يوماً وجوده في الحياة السياسية الأميركية بهذه الدرجة ، قبل أن يطأ (جورج بوش الابن) عتبة البيت الأبيض، ولهذا كثرت الكتابة في الصحافة الأمريكية والعالمية عن الخلفية الدينية المؤطرة لتفكير الرئيس بوش، حيث أعدت مجلة "نيوزويك" الأمريكية ملفا في عددها بتاريخ (10/03/2003م) عن الاعتقادات الدينية ، التي تدفع (جورج بوش) إلى سلوكه السياسي والعسكري الحالي . وكيف ركب (بوش) موجة الأصولية البروتستنتية الصاعدة، وهو أحد أبنائها، ليقود أمريكا في مغامرات يطغى فيها الحماس الديني على البصيرة السياسية.
يتألف الملف من ثلاث مقالات، أحدها ـ وهو الأطول والأعمق ـ بعنوان "بوش والرب"، بقلم "هاوارد فاينمان"، أحد كتاب المجلة، والثاني بعنوان : "خطيئة التكبر" بقلم البروفسور "مارتن مارتي" وهو قسيس وأستاذ بجامعة شيكاغو ، ترأس "الجمعية التاريخية الكاثولية في أمريكا" سابقا، أما المقال الثالث فهو بعنوان: "البيت الأبيض: إنجيل على نهر البوتوماك"، وهو بقلم كينيث وودوارد من كتاب نيوزويك . كما نشرت صحيفة "الواشنطن بوست" عن نفس الموضوع من قبل مقالا بعنوان: "بالنسبة لبوش.. إنه الإحساس بالتاريخ والمصير" يوم 09/03/2003م وآخر بعنوان: "عن الرب والإنسان في المكتب البيضاوي" بقلم القسيس "فريتس ريتسش" يوم 02/03/2003م وهو مقال تحليلي عميق تناول المنطق الداخلي لفلسفة بوش الدينية، وآثارها السلبية على أمريكا بلداً، وعلى المسيحية ديناً. وإذا كان العديد من الأمريكيين بدءوا يدركون المخاطر المترتبة على سياسات الرئيس (بوش) التي تأطرها رؤية دينية متحمسة، دون اعتبار للمصالح البعيدة المدى للأمة الأمريكية، أو لمطالب الضمائر الإنسانية في كل مكان، فإن الإنسان العربي والمسلم أولى بالاطلاع على خلفيات هذه السياسات التي تُرسم بدمه، وعلى وجه صحرائه النقي (الشنقيطي، 2003) .
آل بوش
ولد جورج (دابليو بوش) لأبوين متدينين ، هما جورج بوش الأب ، وباربارا بوش في ولاية كونكتيكت الأمريكية عام 1946م ، وانتقل به أبواه وهو صبي إلى ولاية تكساس ، التي أصبحت موطنه ومكان صعود نجمه السياسي، وتزوج بوش عام 1977م ، والتحق بالكنيسة الميتودية ، التي كانت زوجته لورا عضوا فيها، وكان شخصا عاديا غير متميز ينظر إليه الجميع على حد قول أحد المقربين، على أنه (ابن أبيه فحسب) ، وكان يقضي الليل يعاقر الخمر ، وعلى مر السنين أخذت لورا بوش تعرب عن استيائها ، وقد غاظها انحراف زوجها، وفي العام 1985 ، غرق بوش في أزمة شديدة ، وكان عندئذ في التاسعة والثلاثين من عمره، بعد أن تراكمت خسائره المهنية الواحدة تلو الأخرى (لوران، 2003، ص11) ولكنه حظي بتدخلات كثيرة ومتكررة لإنقاذه من الإفلاس، وكان ذلك يتم في محاولات من رجال الأعمال للتقرب من والده.
والرغم من التاريخ الحافل لـ (جورج بوش الأب) كمقاتل في الحرب العالمية الثانية، ورجل أعمال نفط في تكساس، وسفير لأمريكا في الصين، ورئيس للمخابرات الأمريكية ونائب للرئيس، ثم رئيس لأمريكا، إلا أن (جورج بوش الابن) أكبر أولاده ظل فاشلا وضيعا، كما أنه خسر ملايين الدولارات في عمله في النفط فساعده أصدقاء والده بالملايين ، فعاد مرة أخرى للبيرة والنبيذ، حتى يوم 27/7/1986م حين اكتمل عمره أربعين عاما ، حيث يقول: إنه ركع على ركبتيه وأقسم لزوجته (لورا) بأن لا يعود إلى ذلك مرة أخرى طالبا مساعدة الله في تحقيق ذلك.
رجال بيض أغبياء
أصبح اتهام الرئيس بوش بالغباء وانعدام البصيرة، اتهاماً كلاسيكياً، تواترت عليه آراء العديد من الناس من مذاهب ومشارب شتى: من رئيس جنوب إفريقيا السابق (نلسون مانديلا) ، إلى الكاتب الأمريكي "مايكل مور" مؤلف كتاب "رجال بيض أغبياء"، حيث احتل كتابه المثير والساخر، قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة لمدة طويلة . والكتاب يحمل على جورج بوش الابن ويتهمه بالغباء, وبأنه يمثل أمة غبية . ورغم أن الكتاب كان قد تمت كتابته قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001م ونشر بعدها, فإن ذلك لم يفقده أهميته، بل ربما قوى من أطروحته التي تركز على جهل وغباء الرئيس الأميركي وعدم إلمامه بالسياسة وصناعة القرار، حيث يتطرق) مايكل مور) بكثير من التفصيل لحياة الرئيس بوش وإخفاقاته المتكررة في مجال الأعمال، وضعف فطنته، ورداءة لغته الإنجليزية. وأهم من ذلك كله ماضي بوش السياسي كحاكم لولاية تكساس، وقراراته الغبية، المضرة بالبيئة والسكان والفقراء, والمحابية للأغنياء، وأداء بوش السيئ في الحكومة والحزب والحياة العامة، ومواقفه الرافضة للالتزامات الدولية ، التي تبنتها إدارته في الفترة التي سبقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول (مور، ب، ت).
فقبل أن يصبح (جورج بوش) رئيـساً ، سأله أحد مراسلي مجلة غلامور في أيار (مايو) 2000م حول مدي معرفته بالشؤون الخارجية، وكان السؤال عما إذا كان بوش يعرف ما هي طالبان ؟ حيث أجاب بوش بأن هذا الاسم قد طرق مسامعه من قبل ، وأنه يعتقد أنه اسم فرقة روك أند رول أمريكية . وعندما طلب منه المراسل أن يذكر له أسماء عشرة قادة دول، لم يستطع أن يذكر سوي اسم واحد فقط(زلوم، 2003).
ولإبراز حادثة تؤكد الطريقة التي يفكر ويتحدث بها بوش، التي تبرز تدينه وغباءه في صورة لا تخلو من التهكم والسخرية ، قالت صحيفة دير شبيغل الألمانية:
"إنه في بداية أكتوبر 2001م قام الرئيس بوش بدعوة خمسة من رجال الدين ثلاثة منهم مسيحيون ، وواحد يهودي ، وواحد مسلم ، في البيت الأبيض للحديث عن الحرب ضد الإرهاب . وتحدث معهم بصراحة شديدة، قائلا لهم ـ بصورة أدهشت الجميع ـ "أنتم تعرفون أنني كنت مدمنا للكحول، إذا كان كل شيء سار على نفس المنوال ، لكنت الآن جالسا في أحد بارات تكساس بدلا من البيت الأبيض، إنما يوجد سبب واحد فقط ، لأن أكون هنا في المكتب البيضاوي وليس في بار، وهو أنني وجدت الإيمان وجدت الله (السقا، 2003، ص146).
الإعداد لترشيح بوش للانتخابات
يتذكر خطاب (بوش الأب) في الكونغرس الأمريكي عام 1991م وإعلانه عن قيام نظام عالمي جديد . ولهذا عمل (بوش الأول) منذ مطلع عام 1998م علي ضمان التنسيق والمساعدة مع مستشاره السابق لشؤون الأمن القومي، (برنت سكاوكروفت) ، ووزير الخارجية السابق في عهد ريغان (جورج شولتز) ، وذلك لترشيح نجله (جورج دبليو بوش) للرئاسة الأمريكية، حيث كانت الأجندة الجديدة تسعي إلي الضغط من أجل تنفيذ المرحلة التالية من النظام العالمي الجديد . وفي صيف 1998م ، انطلقت رسمياً حملة (جورج دبليو بوش) الرئاسية حيث ظهر جنباً إلي جنب مع والده بوش الأول وكوندوليزا رايس، وكان يقف وراءهم خلف الكواليس فريق كبير مكون في معظمه من رموز كبري سابقة في إدارة (بوش الأب) ، والذين تفاوتوا ما بين أولئك المخلصين المؤمنين بالنظام العالمي الجديد إلي زمرة اللوبي الصهيوني. وبعد أن فاز بوش الصغير وتشيني بالانتخابات، تم تعيين هؤلاء، في مناصب حساسة في إدارة الرئيس الجديدة ، وذلك لاستكمال مهمتهم في تنفيذ المرحلة التالية من إعادة صياغة وتشكيل النظام العالمي(زلوم، 2003).
تزوير الانتخابات
يرصد احد الكتاب نقاط الخلل في سياسات أميركا وفي ثقافتها السياسية, ويرى أن أشد ترجمة لذلك الخلل هو انتخاب جورج بوش رئيساً, وهو يسميه اللص وليس الرئيس, إذ يعتبره سرق الرئاسة من آل غور عن طريق التزوير ، والتآمر ، وكل الطرق القذرة . وهنا فإن الكاتب لا يستهدف الرئيس (جورج بوش الابن) فحسب, بل والأب ، والبطانة التي حوله ، والتي سهلت له الفوز, أو بكلماته, تآمرت معه على سرقة الفوز . فقد اقتضى الأمر ستة وثلاثين يوماً من المفاجآت السياسية ـ القضائية حتى الوصول إلى حل للمشكلة العويصة ، التي جاءت لمصلحة عشيرة بوش ، حيث أعيد فرز الأصوات أربع مرات، وصدر عن المحكمة العليا ثلاثة قرارات ، وعن المحكمة العليا الانتخابية قراران ، وتقدم بوش على منافسه بصوت واحد في الهيئة الانتخابية ، في حين أن آل غور، نال نصف مليون صوت زيادة عما ناله خصمه، وبالرعم من ذلك فقد أعلن فوز بوش لنيله مائه وسبعه وثلاثين صوتاً إضافياً (مامير، 2004، 25) .
فالفوز بالانتخابات بحسب مقاييس أي شخص عاقل باستثناء قضاة المحكمة الأميركية العليا (المعينين من قبل نيكسون وريغان) كان من نصيب آل غور ، ولكن الجهود التي بذلتها زمرة بوش (جورج الثاني, وابن عمه جيب, وجميع رفاق جورج الأول القدامى ، اليمين المتطرف) للتأثير في نتائج الانتخابات ، بما فيها التلاعب غير القانوني المباشر بالسجل الانتخابي ، وما تبعه من أحكام خاطئة ، صدرت بعد التصويت ، بالاضافة للتلاعب الذي حصل عبر التصويت البريدي ، والذي فاز فيه بوش بأربعة أخماس أصواته بشكل مريب كان لها الدور الرئيس قي تغيير نتائج الانتخابات وايصال بوش إلي سدة الحكم ؛ ليدير أجندتها الخاصة بنظام عالمي إمبريالي جديد . "فالوجوة تتغير في البيت الأبيض ، أما القابضون علي مقاليد السلطة وراء الكواليس ، فهم أنفسهم لا يتغيرون(زلوم، 2003).
من مقارعة الخمر إلى الأصولية المسيحية
لم يسر (بوش الشاب) في البداية على خطى أبويه المتدينيْن، بل كان مدمناً على الخمر ، وكان يقود سيارته وهو سكران ، (وهو أمر تشاركه فيه زوجته ، التي تسببت بمقتل إحدى صديقاتها أيام التلمذة, كما يشاركه فيه نائبه ديك تشيني), وتم إلقاء القبض عليه بسبب تصرفات طائشة أخرى، حتى سبب أكثر من إزعاج لزوجته "لورا". وقد كانت لورا صاحبة الفضل في إقناعه بالكف عن الشراب ، والأخذ بيده إلى الكنيسة ، التي اعتادت الذهاب إليها . ولكن التغير في شخصية بوش ـ كما يقول ستيفن مانسفيلد :
"بدأ خلال اجتماع عقد عام 1984م في إحدى كنائس ميدلاند مع القس أرثر بليسيت ، الذي كان يجوب العالم حاملا الصليب ، للدعوة إلى المسيحية. وحضر الآلاف من أهالي ميدلاند محاضرة بليسيت ، وبعد المحاضرة طلب (جورج دبليو) لقاء بليسيت . وخلال اللقاء وضح لجورج دبليو أنه غير متأكد من موقفه من المسيحية ، ولكنه مع نهاية اللقاء شعر بالرغبة في التوبة ، وطلب من بليسيت الدعاء له . وسرعان ما بدأ (جورج دبليو) في قراءة الإنجيل ، والصلاة يوميا، وفي المشاركة بحلقة لدراسة الإنجيل مع بعض أصدقائه ، وتوقف عن شرب الخمور، وبدأ الجميع يرون تحولا في حياة بوش على نحو أكثر جدية" (مانسفيلد، 2004).
ولكن الرجل الذي أثر في حياة جورج بوش الدينية ونقله نقلة جذرية من حياة الإدمان إلى حياة الأصولية المسيحية ، هو القسيس "بيلي غراهام" الذي استغل شعبيته الهائلة في الحصول على صداقة كبار الزعماء السياسيين ، وأصبح من المترددين بانتظام على البيت الأبيض طيلة عهود عديدة من الرؤساء (مارسدن، 2001، ص 231). وقد أثنى بوش على شيخه "بيلي غراهام" مرة ، فقال: "إنه الرجل الذي قادني إلى الرب". حيث استطاع القس (جراهام) إقناع بوش بالانضمام إلى طائفة "الميسوديث" ، المعبرة عن التحالف الصهيوني المسيحي، وسار بوش مع هذه الطائفة حتى صار أحد أعمدتها الأساسية (السقا، 2003، ص 126). وتردد المعلومات أن (توني بلير) رئيس الوزراء البريطاني ، انضم إلى طائفة الميسوديت منذ فترة، وانه أصبح منتظما في قراءة الكتاب المقدس للميسوديت ، وأداء كل طقوس العبادة التي تقرها هذه الطائفة. وقد كان لانضمام بلير إلى الطائفة الفضل في وجود لغة مشتركة بينه وبين بوش، حيث يعتبر بلير أن بوش أستاذه في الطائفة.
وتشير المعلومات إلى أن بوش تدرج في المراتب الدينية لهذه الطائفة حتى وصل إلى مرتبة عالية يطلق عليها (المعلم) ، ومن يحصل على هذه المرتبة ، لا بد أن يكون قد درس باستفاضة متناهية مبادئ (الميسوديت) ، وبدأ يطبقها ويدعو إليها عمليا ، ولما كان عيسى معلما فإنه يريد أن يتشبه به كخليفة له، حيث نجح (بوش) في اجتذاب مئات الشباب للانضمام إلى الميسوديت، وكذلك برع في قدرته على إقناع الآخرين بهذه الافكار. وقد تسببت هذه التطورات الفكرية التي طرأت على جورج الابن في قلق الأب على المستقبل السياسي لنجله، خاصة بعد تلك النزعة الدينية الغالبة التي قلبت حياته رأسا على عقب، حيث أن جورج بوش الابن ، كان رافضاً للطريق السياسي في البداية ، بحجة أن الرب يريده للعبادة والتدين ، ونشر المذهب الديني الصحيح في العالم كله ، وأن السياسة ستأخذه من هذا الطريق، ولكن بعد حوارات عدة ، اقتنع بأهمية السياسة لنشر الدين(السقا، 2003، ص 128).
"فمع بداية العام 1999م ، راحت تراود (جورج بوش الابن) فكرة ترشحه للرئاسة، فكلم أمه (باربرا) بالأمر أولا ، في أحد الأيام قبل أن يقصدا الكنيسة معا لحضور القداس، وكانت العظة تتناول في ذلك اليوم شكوك موسى حول كفاءاته كزعيم ، فكشفت باربرا لابنها بالعبارة التالية : (إن شخصك أشبه بشخص موسى) وعند عودتهما إلى البيت ، أخذا بمشورة القس (ببلى غراهام) صديق آل بوش الشخصي ، وأشهر مبشر في الولايات المتحدة والمستشار الروحي والمؤتمن على أسرار كثير من الرؤساء الأميركيين" (لوران، 2003، ص 17).
يقول (ستيفن مانسفيلد) :
"إن فكرة ترشيح (جورج دبليو) نفسه للرئاسة جاءته أول مرة خلال حضوره صلاة بإحدى كنائس تكساس، وكان القس (مارك كرايج) يتحدث في تلك الصلاة عن قصة موسى (عليه السلام) ويقول إن موسى "تردد بعض الشيء في قبول دعوة الله له لقيادة الناس"، في حين أن الناس في أشد الاشتياق ، لقيادة تمتلك رؤية وشجاعة أخلاقية . وخلال الصلاة شعر (جورج دبليو) بأن الدعوة كانت موجهة إليه، وذلك قبل أن تلتفت إليه أمه الجالسة بجواره ، وتقول له : إن القس "كان يتحدث لك"، وبعد فترة قصيرة اتصل جورج دبليو بالقس (جيمس روبيسون) وقال له : "لقد سمعت الدعوة، أعتقد أن الله يريدني أن أرشح نفسي للرئاسة" (مانسفيلد، 2004).
ويقول "هوارد فاينمان" تحت عنوان "بوش والرب" : إن الرئيس بوش جمع عدداً من القساوسة قبل أن يرشح نفسه للرئاسة كي ينال بركاتهم، وأخبرهم بأنه تمت دعوته لينال منصباً أرفع في بلاده ! ولم يكن بوش أول رئيس أمريكي يفعل هذا، فقد سبقه ريجان الذي كان يصدق ما تقوله له قارئة الفنجان، والذي تحول بفضل الحظ الذي يؤمن به من نجم مطفأ في سماء هليوود إلى نجم ساطع في البيت الأبيض . وقد لعب الواعظ الأمريكي بيلي جراهام دوراً في تنوير السانت بوش، بحيث اعترف بأنه ولد مرة أخرى، وحرر روحه من الداء القديم (منصور 2003، 10، مارس).
وبيل غراهام ـ لمن لا يعرفه ـ هو أبرز وجوه اليمين المسيحي الصهيوني في الولايات المتحدة اليوم وهو واعظ ذو شخصية كاريزمية يذهب إلى بوش وعائلته وأصدقائه بصورة دوريه ليس فقط للصلاة ؛ بل للحديث عن قيادة العالم، وفي البداية كان (جورج بوش) يتابع ذلك بلا أدنى اهتمام . وتدريجيا بدأ اهتمامه في الازدياد إلى الحد الذي قال فيه يوما ما : (هناك حبة نبتت في قلبي ، وبدأت أشعر أنني أتغير) ، وكان ترك الخمر هو أول قرار يأخذه بعد التحول، ومنذ ذلك الوقت أصبح بوش واحدا من الستين مليون أمريكي ، الذين يؤمنون (بالولادة الثانية للمسيح) وهذا ما دعاه للقول بأن المسيح هو أهم الفلاسفة السياسيين في جميع الأزمنة ، لأنه ساعدني على التوقف عن شرب الخمر.
وباعتباره مرشح يمثل المحافظون الجدد أو اليمين المسيحي المتطرف ، فقد ركز بوش خلال حملته الانتخابية على إبراز تدينه حيث كان يقول : أنه يبدأ حياته كل يوم بقراءة في الإنجيل، أو على الأصح في "الكتاب المقدس" ، الذي يشمل الإنجيل والتوراة العبرانية . ووضح الأمر أكثر (تونى ايفانز) الواعظ من تكساس ، وأحد مستشاريه الروحيين ، فيقول : (تعاليم الإنجيل كانت سببا رئيساً لاتخاذ بوش قراره بالتقدم لانتخابات الرئاسة ، إنه شعر أن الله يكلمه) وأن واجباته قد تحددت بتكليف من الله بقوله : إنني اقتنعت بأن ثقافتنا بكاملها يجب أن تتغير بصورة جذريه ، وإلى الأبد ، فنحن نحتاج إلى تجديد روحي في أمريكا . وبذا تحول بوش من إنسان غبي غائب عن الوعي بفعل الإدمان على الكحول إلى رئيس أمريكي ثم إلى قائد عسكري يسعى لشن الحروب ، حيث كانت (الولادة الثانية) لبوش يوم 11 سبتمبر ، فقد كان حتى هذا اليوم مجرد حاكم بلا هدف ، ولكن الهجوم على نيويورك وواشنطن أعطيا رئاسته الهدف والسبيل ، وبعدها بدأ في الحديث بمصطلحات دينيه مثل (معركة الخير ضد الشر) (العدالة الابديه) ـ (الحرب الصليبية) ثم مصطلح (محور الشر) الذي بدأ يضع فيه أعداءه، خاصة إيران والعراق وكوريا الشمالية(جريدة الأسبوع العربي، 2003، 24، فبراير)
جدلية الدين والسياسة في تفكير الرئيس بوش
لاحظ كثيرون أثر الدين في رؤية بوش السياسية ، بشكل غير معهود في الحياة الأمريكية : فهو يميل إلى التفسير الديني للأحداث السياسية الحالية ، وقد قال في حديث للمذيعين الدينيين مؤخراً : "إن الإرهابيين يمقتوننا، لأننا نعبد الرب بالطريقة التي نراها مناسبة". كما يكثر في أحاديثه وخطاباته إيراد المصطلحات الدينية . فهو كثير الحديث عن "الرب" وعن "الصراع بين الخير والشر". وما مصطلح "محور الشر" إلا مثالاً واحداً على ذلك . وقد لاحظ أحد الكتاب أن بوش يفضل استخدام مصطلح "الحرية" على مصطلح "الديمقراطية"، وأن الحرية في عرف بوش ذات مدلول ديني ، فهي ليست حرية الخيار السياسي بالضرورة، بل "حرية اكتشاف الرب" بكل المدلول المسيحي التبشيري لذلك. وذكرت مجلة نيوزويك أن أنصار بوش من الإنجيليين يأملون أن تكون الحرب على العراق فاتحة لنشر المسيحية في بغداد، كما يشير موقع (القس بيلي غراهام ) على الإنترنت ـ وهو الأب الروحي للرئيس بوش ـ إلى "الجوع الروحي في العراق في الوقت الحاضر"، ولذلك مدلوله الخاص في السياق الحالي.
ويميل الرئيس (بوش) إلى اعتماد البرامج الاقتصادية والاجتماعية، التي ترسخ الدين المسيحي في المجتمع الأمريكي وفي العالم. ومن أمثلة ذلك داخلياً تخصيصه بنداً من الميزانية لتمويل المؤسسات التربوية والاجتماعية الدينية، من كنائس ومدارس دينية وغيرها، وهي سابقة في تاريخ الولايات المتحدة، اعتبرها كثيرون بداية النهاية للموقف الحيادي من الدين الذي يلزم الدستور الأمريكي الحكومة به. وبذلك يكون بوش هو أول رئيس أميركي يمول التعليم الديني من ميزانية الدولة الأميركية ، التي يفترض فيها أنها دولة علمانية تقف من الدين موقف الحياد" (أبو شعيره، 2002، 14، ديسمبر).
ويشير الكاتب الصحفي (بوب وودوارد) في كتابه الجديد: "بوش في الحرب" Bush at War إلى قصة طريفة تكشف عن جانب من جدلية الدين والسياسة في تفكير الرئيس بوش. فقد حكى بوش للكاتب في إحدى مقابلاته معه أثناء إعداد الكتاب قصة لقائه الأول مع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" يوم 19/06/2001م . يقول بوش:
"دخل الرئيس بوتين وجلس ... وحضر المترجمان.. وأراد بوتين أن يبدأ الكلام، لكني بادرته بالقول: السيد الرئيس.. دعني أبدأ بالإشارة إلى أمر لفت انتباهي، وهو أن والدتك أعطتك صليباً، وأنكم باركتم ذلك الصليب في إسرائيل الأرض المقدسة. فقال: صحيح. فقلت: إن هذا الأمر يثير عجبي، لأنك كنت شيوعياً وضابطاً في (الكي جي بي) ومع ذلك كنتَ راغباً في حمل الصليب، إن هذا الأمر بالنسبة لي يحمل من المعنى أكثر مما تحمله مجلدات". ثم يضيف الرئيس بوش: "..وبدأ بوتين يتحدث عن ديون روسيا... لكني كنت مهتماً أكثر بمعرفة هذا الرجل [بوتين] ، الذي علي أن أتعامل معه، ولهذا أردت التأكد من صحة قصة الصليب"( بوب، 2006).
ولكن هذا الحماس الديني الذي هو مصدر قوة الرئيس بوش وطاقته، فهو أيضاً مصدر ضعفه وسوء تقديره للأمور. وليس هذا رأي أعداء الرئيس بوش ومنتقديه فحسب، بل هو قول مساعديه ومقربيه كذلك. وقد ذكرت مجلة "نيوزويك" أن مستشاري الرئيس بوش يدركون أن "العديد من الأمريكيين ـ وكثيرين عبر العالم ـ يعتبرونه رجلاً أعمته معتقداته .. عن فهم تعقيدات العالم المحيط به كما هي". ولا ينكر مساعدو بوش هذه التهمة، بحسب المجلة، التي تضيف: "يقول مساعدو بوش : إن معتقداته المسيحية المتأججة تحت السطح تمنحه قوة وعزماً، لكنها لا تعينه على فهم السياسات اللازم اتباعها".
مكانة بوش على الخريطة الدينية الأميركية
تتسم الخريطة الدينية للولايات المتحدة بشيء من التعقيد، فلا يمكن رسم حدودها واضحة ، وبيان مكانة بوش فيها بشكل مفصل في هذا البحث، ولكن يمكن القول إجمالا : إن أنصار بوش هم في الغالب الأعم من البيض البروتستنت، وممن ينتمون للكنيسة المعمدانية Babtist أو الكنيسة المنهجية Methodist ، التي ينتمي إليها بوش، ونتيجة لهذه العلاقة الحميمة بين بوش والتيار المسيحي الأصولي، وفرت الكنائس الإنجيلية المتصهينة لبوش فوزاً على منافسه الجمهوري (ماكين) ، ثم فوزاً ملتبساً على منافسه الديمقراطي "آل جور". ولهذا فإن الذين يبرمجون الرئيس الأميركي هم قساوسة الحركة الصهيونية المسيحية. فالرئيس بوش هو من النوع الذي لا يدخل في نقاش مع نفسه ، ولا يمارس التساؤل لكونه ـ أيضا ـ ينطلق من مرجعية فكر ديني مطلق ، لم يكن غريبا أنه صنف مجتمعات العالم إلى متحضرة وغير متحضرة، وخيرة وشريرة وعليها أن تختار أن تكون ضده أو معه ، وتوعد من ليس معه بالعقاب الشديد. ومن هذا المنطلق الديني الأصولي يرى أن الأحداث التاريخية تتم كما قال الكاتب (جاكسون ليرز) على (يد إله عادل ومخلص) وأن رئاسته جزء من خطة مقدسة، حتى أنه قال لصديق له عندما كان حاكما لولاية تكساس :
"إن الله يريده أن يترشح للرئاسة .. وأوعز للولايات المتحدة بأن تقود حملة صليبيه تحريرية في الشرق الأوسط، بل ذهب (جاكسون ليرز) في هذه المقالة إلى القول بأن اللغة الدينية الأصولية كثيرا ما تستعمل في الثقافة السياسية الأميركية، خصوصا بين أنصار بوش، الذين يؤمنون بأنهم يعملون بإرشاد الهي وينفذون إرادة الله"(السماك، 2003، ص63).
علاقة بوش مع الكنيسة الكاثوليكية
الكنيسة الكاثوليكية التي يقدر أتباعها بحوالي 60 مليون شخصاً، لا تربطها علاقة ود بالرئيس بوش، لأسباب سياسية ودينية وتاريخية كثيرة . فكما هو معروف تأسس الحزب الجمهوري في عام 1854م، بعد الهجرة الكاثوليكية المتنامية نحو أمريكا ، وظهور تيارات دينية جديدة إضافة إلى ظهور العلمانية، حيث بدأت بعض المفاهيم تؤثر سلباً في اللغة الدينية السائدة في ذلك الوقت، وشعر البيوريتانيون بأن دولة الفضيلة التي عملوا على تأسيسها، تدخل مرحلة الانحدار، فجاء تأسيس الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه الرئيس الحالي (جورج بوش ) عام 1854م معيداً الخطاب الديني البيوريتانى إلى الوجود، ومعيداً الأمل البيوريتاني إلى الوجود . فالتف اليمين البروتستانتى حول هذا الحزب الجديد بقوة على اعتبار أن برنامجه السياسي ، الذي تطغى عليه القيم الدينية ينسجم مع طموحاتهم ببناء أمريكا المسيحية، حيث يمثل الحزب الجديد القيم المسيحية البيوريتانية الحقيقية ، (المبادئ المسيحية اليهودية)، والذي سوف يعمل على تحقيق النبوءة التوراتية بإقامة مملكة الرب "يهوه" (حرب، 2003، 9، مارس) .
وفي أواخر السبعينات والثمانينات من القرن الماضي حدث تحول يثير الاهتمام بوجه خاص، ألا وهو العلاقة الوثيقة المتزايدة بين اليمين المسيحي الجديد والحزب الجمهوري، حيث لم تبدأ هذه الصلة في أواخر السبعينات . فالعلاقة بين (بيلي جراهام) (ودوايت أيزنهاور) شيء معروف ، مثله كمثل صلوات الإفطار في البيت البيض الأبيض أثناء فترة رئاسة نيكسون، ثم وصلت العلاقة إلى آفاق جديدة مع ترشيح (ريجان) ثم فترة رئاسته (كوربت، 2002، ص 155).
إن هذه الخلفية المتطرفة للحزب الجمهورى، ربما توضح سبب تطرف (بوش الابن) وتعصبه ليس فقط تجاه العرب والمسلمين، بل تجاه المسيحيين الكاثوليك، حيث ـ معروف عنه ـ علاقاته الحميمة بالتيار الأصولي المسيحي المتطرف في أمريكيا، وبأكثر زعماء هذا التيار تطرفاً، أمثال (جون ايفانس) ، وغيرهم، والذين يعتقدون أن الاتحاد الأوروبي ـ وبالذات دوله الكاثوليكية ـ هم من قوى الشر ، التي ستحارب أمريكيا في المستقبل، ويسمون دولها العشر بالوحش الذي ورد ذكره في نبوءات التوراة (هالسيل، 2000، ص 46).
ولهذا لم يكن مستغرباً أن يرتبط بوش بعلاقات حميمة مع أكبر جامعة أصولية متطرفة ، وهى جامعة (بوب جونز) الانفصالية المتشددة التي أسسها القس الأصولي المتشدد بوب جونز (مارسدن، 2001، ص 231)، والتي تناصر الآراء المضادة للكاثوليكية، حيث يصف رؤساؤها البابا بأنه عدو المسيح، ويمنعون الاختلاط العرقي بين الطلبة. وقد حرص (بوش) على زيارة هذه الجامعة باستمرار، حيث تسببت إحدى هذه الزيارات بجدل واسع، واتهمه منافسه للرئاسة (جون ماكين) باستخدامه الزيارة لتشويه صورته ، واضطر بوش للدفاع عن نفسه ضد مزاعم التعصب .وأخبر الصحفيين في سياتل بقوله : اندهشت لأن الناس يصفوني بأني مناهض للكاثوليكية " أنا أرفض ذلك ، فأنا حريص على التوحيد ليس التقسيم" ، يجب أن تتوقف حملة تشويه الصورة هذه، وبعث بوش رسالة للكردينال (جون اوكونور) في نيويورك معقل الناخبين الكاثوليك قائلاً: انه يشعر بأسف عميق لأنه لم ينأ بنفسه بوضوح عن سياسات جامعة بوب جونز.
بوش واليهود وإسرائيل
باعتباره أحد أعضاء الكنيسة الميثودية البارزين ، كان بوش دائم التردد على إسرائيل، لأن الميثوديت تعتبر أن ارض إسرائيل هي البقعة المباركة في هذا العالم ، وأن المسيحية الحقه جاءت لتقييم التحالف الروحي لإنقاذ العالم من خلال الاعتماد على التوراة ، التي تمثل قيمة دينية عليا ، وأن العالم لابد أن يبعث على أساس من التوراة والإنجيل الحق، ولهذا فإن بوش عندما يقرأ كل يوم في كتابه المقدس، فهو لا يقرأ الإنجيل المتداول بين المسيحيين ، وإنما يقرأ الكتاب المقدس للميثوديت ، الذي يجمع بين التوراة والإنجيل في مزيج مشترك، حتى أن صلواته التي يؤديها كل يوم وبانتظام ، تعبر عن فكر الميثوديت والتحالف الصهيوني ـ المسيحي، ولا تعبر عن المسيحية المعروفة في الشرق أو الفاتيكان. والمتتبع لنشاط طائفة الميثوديت يرى أن أعدادها في تزايد مستمر بين الطوائف المسيحية، حيث أن هؤلاء هم بالأساس أصحاب هذه الفكرة في إقامة التحالف المسيحي ـ الصهيوني ضد الإسلام(السقا، 2003، ص 127، 128).
يقول (مات بروكس) اليهودي الجمهوري: "إن جورج بوش ، وبسبب إيمانه الديني العميق ، يعتقد أن إسرائيل هي وطنه الروحي ، بقدر ما هي وطن روحي لي أنا اليهودي". ولبوش أصدقاء ذو اهتمامات بالغة العمق بإسرائيل، ولأنه بات أكثر تديناً في السنوات الأخيرة، فقد أصبح مهتماً بها بالعمق الذي يوليه أصدقاءه هؤلاء تماماً، هذا ما يقوله ـ أيضاً ـ صديق بوش الآخر اليهودي الأرثوذوكسي ، الملتزم (دونالد ايترا) لمجلة نيوزويك . وتشير نيوزويك إلى أن موقف بوش من إسرائيل والفلسطينيين قد يكون في النهاية موقفا ايديولوجياً، وحتى دينياً متطرفاً، وليس موقفاًً سياسياً بحثاً. وتضيف أن زيارة بوش إلى إسرائيل في العام 1998م ، التي رتبها له ضمن مجموعة من حكام الولايات الآخرين صديقه (مات بروكس) ، وقام في أثنائها بجولة في طوافة مع شارون، فوق الضفة الغربية والجولان، لم تكن فقط زيارة استطلاع على جغرافية إسرائيل، ولا حتى جولة سياسية، لقد كانت رحلة في التاريخ التوراتى. وتشير المجلة إلى أنه وصديقه الآخر "دونالد ايترا" انتميا إلى جمعية سرية تدعى "سكول وبوناس" ، عندما كانا في جامعة بيل، ويقول ايترا: إن تربية بوش اليهودية وتعلمه لها ومعلوماته ، عنها بدأت في تلك الفترة ... لقد تربى بوش مع مجموعة يهودية، وهو شخصياً يقدر عالياً الدين اليهودي. وقد صرح الرئيس بوش أكثر من مرة بأن "اليهود هم شعب الله المختار الوحيد على وجه الأرض" (أبو شعيره، 2002، 14، ديسمبر).
وخلال الأشهر السابقة من وجوده في البيت الأبيض، لم يثبت الرئيس الأمريكي ما يدحض هذه الآراء، بل إنه، وإضافة إلى إطلاقه يد المحافظين الجدد في السياسات الخارجية، الشرق أوسطية منها خصوصاً، بنى نظاماً يستند بكل صراحة إلى البروتستانت الأصوليين، هؤلاء المتعصبين المقتنعين بان الولايات المتحدة تؤدى دوراً مركزياً في صراع الخير التوراتى ضد الشر، وهذا الدور الذي يستند إلى يقين بأن هذا البلد ينبغي أن يقود العالم .
وقد توصل أحد الباحثين الأميركيين مؤخرا ـبعد دراسته لكل أحاديث الرئيس الحالي بوش وخطاباته ـ إلى أن بوش أصولي مسيحي، يؤمن بأن الضفة الغربية وقطاع غزة منحة ربانية لليهود لا يجوز التنازل عنها، وهو نفس الاعتقاد الذي عبر عنه (التحالف المسيحي) بقيادة (بات روبرتسون) مؤخراً في مسيرة له بواشنطن العاصمة، طالب فيها القادة الإسرائيليين بعدم التنازل عن الضفة الغربية وقطاع غزة، لأن ذلك "مناقض لإرادة الرب"(أبو شعيره، 2002، 14، ديسمبر).
وربما كان إعجاب الرئيس (بوش) الشديد باليهود، وتبنيه لبرامجهم هو الذي دفعهم إلي الانضمام إلى الحزب الجمهوري . فبالرغم من وجود يهود في الحزب الديمقراطي، نظراً لانقسام اليهود إلى ليبراليين ومتدينين ـ وأحيانا تفادياً لوضع البيْض في سلة واحدة ـ فإن الجماعات اليهودية بدأت في الأعوام الأخيرة تميل إلى الحزب الجمهوري، لأن ولاءه للمسألة اليهودية نابع من اعتقاد ديني ثابت، مجرد من الاعتبارات السياسية والإستراتيجية في الغالب، بخلاف الحزب الديمقراطي ذي الميول الليبرالية، الذي يتعامل مع إسرائيل باعتبارها "دولة دنيوية" إلى حد ما، وربما هذا ما دفع الحزب الديمقراطي إلى محاولة استمالة اليهود من خلال ترشيح اليهودي (ليبرمان) لمنصب نائب الرئيس في الانتخابات السابقة.
بوش والمسلمون
في مقابل هذه المواقف السابقة للرئيس بوش من اليهود، نجد مواقفه من المسلمين على النقيض . فمن سخريات القدر أنه بالرغم من أن الرئيس (بوش) مدين للمسلمين في أمريكيا بوصوله للحكم ـ حيث أعطوه 70% من أصواتهم، في حين أعطى اليهود أصواتهم للمرشح الديمقراطي (آل جور) ونائبه اليهودي (ليبرمان) ـ ولكن بالرغم من ذلك قلب بوش ظهر المجن للمسلمين، وتعرض المسلمون في أمريكيا ، وفى العالم لأسوأ حملة إرهاب وتعصب وملاحقة في تاريخهم، بسبب حملة التضليل والتزييف التي قادتها إدارته الجمهورية اليمينية المتطرفة ضد المسلمين.
فبعد أحداث 11/9/2001م الترويعية الرهيبة في نيويورك ، دعا الواعظ الأصولي (بات روبرتسون) أتباعه للصلاة "كي يمنع الرب انتشار الإسلام في أمريكا" كما قال : إن الإسلام دين تخلف ورق وعبودية ، وأضاف : إن العالم الإسلامي مرتع لعمل الشيطان . وهذا الكلام الذي قاله (روبرتسون ) لا يختلف كثيراً عما قاله ويؤمن به الرئيس بوش ، الذي تأثر كثيرا بأفكار القس جراهام (وأصبح) واحداً من مريديه المقربين وكان يبدو مقتنعا بما يردده (جراهام) من أن المسلمين ، هم الذين يشكلون الخطر الأكبر على عودة المسيح إلى الأرض ، وإن هؤلاء المسلمين لا يتبعون ملة دينية ، وإنما يتبعون رجلا اسمه محمد .. الخ . وكان يقول له دائما : إن المسيحية تعرضت للكثير من التغيير والتبديل على يد المسيحيين ، الذين أرادوا تحويلها لمنافع شخصية لهم، وقد آمن بوش بهذه الأفكار ، وراح يرددها أمام زوجته والمقربين منه، وكان يقول لها: المسلمون ليسوا أصحاب ديانة والمسيحيون أصحاب ديانة ، تعرضت للتغيير، والرب غاضب على هذا العالم الذي غير دينه. وبالرغم من أن الرئيس بوش اضطر لأسباب دعائية إلى وصف الإسلام على أنه "دين سلام" ـ خلال زيارته للمركز الإسلامي بواشنطن في 17 سبتمبر/ أيلول 2001م ـ إلا أن هذه التصريحات أثارت عاصفة من النقد في أوساط اليمين المتدين ، إلى حد قول أحد رجال الدين
"يمكننا أن نتحمل 11 سبتمبر ولكن لا يمكننا أن نتحمل 17 سبتمبر. كما وقف قادة اليمين المتدين موقفا أكثر تشددا تجاه الإسلام والمسلمين بعد أحداث سبتمبر/ أيلول ، عبر عنه (فرانكلين جرام) ـ الذي ألقى دعاء افتتاح حفل تنصيب (جورج دبليو) ، وذلك خلال مقابلة أجرتها معه قناة NBC الأميركية في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001م إذ قال "لا أعتقد أن هذا (الإسلام) دين رائع ومسالم.. عندما تقرأ القرآن فإنه يدعو لقتل الكفار وغير المسلمين.. من قاموا بالطيران في أبنية ليسوا طائفة مسيحية (ما).. الهجوم كان على بلدنا من قبل أعضاء بالديانة الإسلامية" (مانسفيلد، 2004).
وقد سار بوش على خطى معلمه في موقفه من الإسلام، حيث كان يرى في الإسلام انه دجل ديني، وأن المتخلفين والمتعصبين هم الذين يحركون الناس نحو هذا الإسلام، وقد دفعت هذه القناعة (جورج بوش) إلى الاقتناع الكامل بمقولات القس (جراهام) وابنه (فرانكلين) الذين أصبحا فيما بعد من أعز أصدقاء بوش، وكذلك رفيقه في كل خطواته الدينية والسياسية. وقد استطاع القس (جراهام) إقناع (بوش) بالانضمام إلى طائفة "الميثوديث" المعبرة عن التحالف الصهيوني المسيحي. وقد سار بوش مع هذه الطائفة حتى صار أحد أعمدتها الأساسية (السقا، 2003، ص 126). وفي البداية كان (جورج بوش) يريد أن يكون داعية "للميثوديت" في البلدان الإسلامية والعربية ، إلا أن (جراهام) و(فرانكلين) أقنعاه بأن المهمة الأولى هي تطهير المسيحية والرجوع إلى أصولها الأولى ، بينما كان بوش يخالفهم ، ويرى أهمية القضاء على المسلمين أولا قبل التفكير في إصلاح أحوال المسيحيين، ولهذا فان من كتبه المفضلة التي يقرأها يوميا في البيت الأبيض ـ طبقا لنيوزويك ـ كتاب للقسيس "أوزوالد شامبرز" الذي مات في مصر عام 1917م وهو يعظ الجنود البريطانيين والأستراليين هناك ، بالزحف على القدس وانتزاعها من المسلمين. كما أن بوش كان ينفي دائما في جلساته مسألة الوجود الديني للإسلام وكان يقر بأن المسيحية ألحقه ستنتصر في النهاية.
وهذا التعصب الأعمى والحقد على الإسلام له جذور عميقة في عائلة بوش حيث أن الجد الأكبر لبوش الابن (1796ـ1859م) ألف كتاباً عن حياة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونشره في سنة 1831م ووصف فيه المسلمين أبشع الصفات ، وشتم فيه محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ولذلك يعد الكتاب من أشنع وأقذر ما كتب في الولايات المتحدة عن العرب والمسلمين ، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم . والكتاب موجود في مكتبة الكونجرس ، ويحظر على أي ما كان الاستعانة به إلا عدد قليل ومحدود من المسئولين الأمريكيين .
كما أن لجورج بوش الجد عشرات الكتب في شرح العهد القديم ، ويعتبر كتابه المسمى "وادي الرؤى" عمل إحياء لرميم إسرائيل، وهو يذاع في أبرز المحطات الصهيونية الأمريكية الداعية إلى ضرورة العمل ، من أجل تجميع يهود العالم في فلسطين، وتدمير وسحق إمبراطورية (السارزان) ، وهذه التسمية كانت تطلق على العرب والمسلمين إبان الحروب الصليبية في العصور الوسطى، وكان يطلقها الرومان على بعض رعاياهم وعبيدهم تحقيراً لهم . يقول (بوش الجد) في كتابه : ما لم يتم تدمير إمبراطورية السارزان ـ المسلمين ـ فلن يتمجد الرب بعودة اليهود إلى وطن آبائهم وأجدادهم" ، وهذا القول مقتبس من كتاب حياة محمد لجورج بوش (الجد الأكبر) لبوش الابن ، وهذا الكتاب هدى الكثيرين لفكر (جورج بوش الابن) وأبيه قبل ذلك(السقا، 2003، ص 43) .
بوش والحرب الصليبية
بعد أن عرضنا للخلفية الدينية المتطرفة للرئيس بوش، فإن ما يهمنا هنا بالدرجة الأولى ، هو التعبير السياسي لها، والذي تجلى بعد أحداث 11 سبتمبر، في ذلك الخطاب الديني المتطرف ، الذي يشبه إلى حد كبير الخطاب الديني ، الذي كان سائداً إبان الإمبراطورية الرومانية، وتكفي عودة سريعة في هذا الصدد إلى جملة خطابات وتصريحات الرئيس بوش ، التي أعقبت أحداث سبتمبر، للتيقن التام من ذلك، فعبارات الحرب العادلة والحرب الصليبية ، (وهي العبارة التي نطق بها الرئيس بوش) ثم عاد فلحسها تحت وطأة المخاوف التي أبدتها بعض أوساط النخبة الأمريكية الحاكمة من عواقبها، فضلاً عن تقسيم العالم إلى معسكر خير وآخر للشر، تتقاطع كلياً مع تخريجات السلطة الدينية الكنسية ، في عصر الإمبراطورية الرومانية التي ابتدعتها لإسعاف القيادة السياسية في الإمبراطورية ، من تحقيق أهدافها الاستعمارية على بلدان المعمورة قاطبة . فالخطاب هو الخطاب ، واللغة هي اللغة ، والمفردات هي المفردات، لا يكاد يفرقها عن بعضها بعضاً سوى الزمن والمكان اللذين صيغت وخطت وقيلت فيهما والشخوص الذين صاغوها وخطوها ونطقوا بها، فهل نقول ما أشبه الليلة بالبارحة ؟ يبدو أن الأمر كذلك .. أو ليس التاريخ في بعض فصوله ، يعيد إنتاج نفسه مرة بصورة مأساوية ، وأخرى بصورة تراجيدية (الصياد، 2003، 15، فبراير).
نعم إن التاريخ يعيد نفسه، ولكن هذه المرة ليس بناء علي تخريجات سلطه كنسية، بل بناء علي رغبة جماعات مسيحية يمينية متطرفة، استطاعت السيطرة على مقاليد الحكم في أمريكيا، وتمكنت من الدفع بقيادة سياسية متطرفة إلي البيت الأبيض، ممثلة بجورج بوش الابن، الذي فاق سابقيه جميعاً في تأثره بالتخريجات اللاهوتية لسياسته، والتي كان أشهرها عبارة "الحرب الصليبية" التي وصف بها حربه على أفغانستان، حيث حاول البعض التقليل من شأنها، واعتبارها زلة لسان، متغافلين عن الكم الهائل من التعبيرات الدينية التي زخر بها خطابه السياسي .
فما يصدر عن رئيس اكبر دوله في العالم لا يمكن أن يكون زلة لسان، بل انه يعنى ما يقول حرفياً، ويبدو إن هذه كانت زلة لسان على النمط الفرويدي لا زلة لغة، وان بوش يضمر في الحقيقة ما يعلنه بات روبنسون وغيره من قساوسة الأصوليات المسيحية الأمريكية المتطرفة، حيث إن ما كان يطمح إليه هؤلاء على الدوام ـ بحسب القس فريتس – هو "قائد على منوال شخصية داود الإنجيلية، يوحد مطامحهم السياسية مع رؤاهم الدينية. وكل المؤشرات تدل على إيمانهم بأنهم وجدوا هذا القائد اليوم في شخص الرئيس بوش . يقول دانا ميلباك في جريدة واشنطن بوست: أن بوش توصل إلى الاستنتاج بأن قيادته لأمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر كانت مسألة قدر .. كانت إرادة الله. ويقول المقربون منه إن هجمات 11 سبتمبر لم تعطه معنى لرئاسته فقط، بل منحته مهمة ورسالة في الحياة. فبوش يعتبر قيادته لأمريكا بعد 11 سبتمبر أمراً إلهياً واختياراً ربانياً"( الشنقيطي، 2003) . وربما كانت هذه الجبرية الدينية هي مصدر ما وصفه البعض بـ"التفاؤل الساذج" الذي يطبع خطاب بوش وقراراته، حتى أن أصدقاءه يأخذون عليه ذلك.
فبوش الابن الذي يفتخر بأنه لا يقرأ الكتب، ويسمى الإغريق بـ "الاغارقه" والذي تلعثم طويلاً، ولم يعرف في المناظرة التلفزيونية التي سبقت انتخابه اسم الحاكم العسكري لباكستان، لا يثير إعجابه، ولا يؤثر فيه، إلا كتاب واحد هو التوراة . وحينما سأل الصحفي الشهير (جيم لهرر) جورج بوش أثناء مناظرة تلفزيونية مع (آل غور) عن برنامجه اليومي، رد بوش بأنه يبدأ يومه بقراءة في الكتاب المقدس، وإطعام كلبه، وإعداد القهوة لزوجته. كما صرح مراراً بأن المسيح هو مثاله السياسي. وهذه مظاهر جديدة على السياسة الداخلية الأميركية، كما لاحظ البروفيسور (جون أسبوزيتو) مدير مركز التفاهم الإسلامي المسيحي بجامعة (جورج تاون)، في كتابه الجديد "الحرب غير المقدسة "( أبو شعيره، 2002، 14، ديسمبر).
بوش يركب الزوبعة ويوجهه العاصفة
قال سانت بوش الابن في خطاب القسم يوم 21 يناير عام 2001م :"بوسع ملاك أن يركب الزوبعة وأن يوجه هذه العاصفة" . وحسب تحليل هوارد فاينمان، فإن هذه العبارة مأخوذة من كتابي أيوب وحزقيال، فالزوبعة ترمز إلى صوت الرب! . يقول حزيقيال : "أوحى الرب إلى حزيقيال الكاهن ابن بوزي عند جوار نهر خابور، في ديار الكلدانيين، إذ كانت على يد الرب، فابصرت ريحاً عاصفة تهب من الشمال مصحوبة بسحابة هائلة، ونار متواصلة متوهجة بهالة حيطة من الضياء، ومن وسطها يتألق مثل النحاس اللامع البارق من وسط النار، ومن داخلها بدا شبهه أربعة كائنات حية تماثل في صورها شبه إنسان، وكان لكل واحد منها أربعة أوجه ، وأربعة أجنحة" (سفر حزقيال).
موت الشرير
كم مره ينطفئ مصباح الأشرار ؟ وكم تتوالى عليهم النكبات، إذ يقسم لهم نصيباً في غضبه ؟ يصبحون كالتبن في وجه الريح، وكالعاصفة التي تطوح بها الزوبعة . أنتم تقولون : إن الله يذخر إثم الشرير لأبنائه، لا ! إنه ينزل العقاب بالأثيم نفسه، فيعلم . فليشهد هلاكه بعينه، وليجرع غصص غضب القدير . إذ ما بغيته من بيته بعد فنائه، وقد بتر عدد شهور حياته (سفر أيوب).
كما قال الرئيس "المؤمن" (بوش) في ذكرى أحداث سبتمبر 2001م : إن النور يضئ في الظلمة والظلمة لن تهزمه" وحسب المرجعية التي وضعها السيد "فاينمان" لهذه العبارة، فهي إشارة إلي إنجيل يوحنا، ومأخوذة من كتب اليهود المقدسة حول مجيء المسيح! وعلينا أن نصدق بأن البيت الأبيض محفوف بالملائكة، وأن الرئيس قديس يتخفى في جلد نيرون! (منصور 2003، 10، مارس) .


إعلان الحرب من كاتدرائية
إمعاناً في إضفاء المعاني الدينية على سياسته، وإحاطتها بهالة من القداسة ، وكأن ما يقوم به ما هو إلا تنفيذاً لإرادة إلهية ، عمد الرئيس بوش إلى اللجوء إلى الكنيسة لإعلان حربه المقدسة على الارهاب. ففي 13 سبتمبر 2001م جرى تنظيم قداس لا مثيل له في الكاتدرائية الوطنية، وصلى فيها الرئيس بوش وعقيلته، وأربعة رؤساء سابقين... وجميع الشيوخ والنواب تقريباً . وترأس كاردينال وحاخام وأمام (شيخ) بدورهم هذه الصلاة، وكان إنجيلي التلفزة الأكثر شهره في العالم، القس (بيلى غراهام) ، الذي قام بهداية (جورج دبيليو بوش) نفسه قبل خمس عشرة سنه خلت، قد ألقى عظته التي دعا خلالها إلى إعادة البناء على أسس راسخة تقوم على الإيمان بالرب .
وبعد هذه العظة، صعد الرئيس (بوش) إلى المنبر ، وقدم بدوره عظة كان مستشاره التوراتى الأصولي (مايكل جرسون) ، قد أعدها له حيث قال : إن مسئوليتنا تجاه التاريخ جلية ... علينا أن نرد على هذه الاعتداءات، ونحرر العالم من الشر (كارول، 2005، ص48) ... وقد اتسمت هذه العظة بنبرتها الدينية، حيث علقت صحيفة واشنطن بوست عليها ، قائلة : منذ تحول مذهب المحافظة الديني إلى حركة سياسية، يتولى رئيس الولايات المتحدة، لأول مره، زعامتها فعلاً ـ وهى زعامة لم يحظ بها قط (رولاند ريغان) نفسه، رغم ما أحاط به المحافظون الدينيون من رعاية . فقد أظهرت المجلات المسيحية والإذاعات والتلفزيونات الرئيس بوش وهو يصلى، بينما كان الخطباء الوعاظ يصفون زعامته بأنها نعمة من عند الرب . وقد شهد موكب من القادة الروحيين ممن إلتقوه على إيمانه، وشجعت بعض مواقع "الويب" الناس على الصوم والصلاة من أجل الرئيس (ميسان، 2002، ص 72) .
وفى الرابع عشر من سبتمبر ، التزمت الدول الثلاث والأربعون المنتمية للمجلس الأوربي ودول أخرى، بالوقوف ثلاث دقائق صمت ، تحية لذكرى ضحايا الاعتداءات، تلبية لدعوة الرئيس بوش، حيث لم يكن لهجوم مماثل على أي بلد آخر ، أن يطلق مثل هذا القدر المتدفق من العواطف ، و بدا وكأن العالم كله قد شعر بفقدان البراءة مثل الأمريكيين تماماً (برستوفتز، 2003، ص12). وكتب (جون ماري كولمباني) عموداً شهيراً بعنوان "نحن كلنا أميركيون" في لوموند بتاريخ 12 سبتمبر 2001م تضامناً مع الأميركيين عقب تفجيرات 11 سبتمبر، وأثار هذا العمود ردود فعل في فرنسا، إذ رأى فيه البعض مبالغة وانسياقاً وراء الإدارة الأميركية (كولمباني، 2002)، التي أضفت، بتحريكها الشعور الديني، طابعاً من القدسية على ضحايا الاعتداءات ، وعلى روايتها للأحداث على حد سواء، وغدا بعد ذلك كل طعن بصحة الرواية الرسمية، في العالم أجمع، بمثابة اختراق للقدسيات.
وهكذا عبر الجميع عن قبولهم الضمني بزعامة أصولي ملهم ، يعلن عن عزمه على تولى قيادتهم في معركة هائلة ضد الشر، مما يعني أن جنون إنجيلي التلفزة، الصوفي السياسي أصبح معدياً ! وإلا فلا يمكن تفسير هذا الاندفاع الورع، لا بالصدمة النفسية ولا بالاحترام الذي نكنه للأموات . فبالرغم من أن الولايات المتحدة كانت في الأصل تيواقراطية أسسها عدد من المطهريين الفارين من تعصب التاج البريطاني، إلا أن ذلك لا يعنى أن تصبح أمه متزمتة، يحل فيها انجيليو التلفزة محل الاستراتيجيين العسكريين. فلا وجود على كل حال، لأي سابقة تاريخية تلا فيها رئيس أمريكي إعلان الحرب من داخل كاتدرائية (ميسان، 2002، ص 70، 71) ، مما يعني أن لحظة الصلاة تلك شكلت نقطة تحول تاريخي، حيث كتبت واشنطن بوست تقول : إن الولايات المتحدة دخلت الحرب حينما دوى النشيد الوطني في أجواء الكاتدرائية. تلك هي ملاحظة يمكن توسيعها ، والقول بأن العالم قد دخل الحرب باشتراكه في الجنازة الأمريكية.

نتائج الدراسة
• أكدت الدراسة الدور المركزي الذي لعبه الدين وبالذات افكار حركة الاصلاح الدينى في تشكيل فكر وثقافة المهاجرون الاوائل الى امريكا وكف استمر هذا التأثير حتى الآن
• أوضحت الدراسة كيف ان القيم البروتستانتية لعبت دوراً رئيس في نشأة الرأسمالية وقيمها المتعددة.
• أثبتت الدراسة انه بالرغم من الفصل بين الدين والدوله في امريكا والذي يدفع البعض الى القول بعلمانية امريكا، الا ان هذا الفصل جاء كمطلب ديني نتيجة لافكار حركة الاصلاح الدينى وليس نتيجه لتنكر للدين كما حدث في الدول الكاثوليكية، وبالتالى لا يمكن الحديث عن علمانية في امريكا بنفس المعنى السائد الذي يعنى عدم وجود دور للدين في الحياة الامريكية.
• قدمت الدراسة نموذج لاثر الدين في السياسة الامركية تجاه العالم وتجاه العالم العربي والاسلامي، وبالذات القضية الفلسطينية، ممثلاً بالرئيس الامرك "جورج دبليو بوش"، وكيف لعب الدين دوراً اساسياً في صياغة تفكيره وقراراته تجاه كثير من القضايا.
التوصيات
1. يوصي الباحث باجراء مزيد من الدراسات على دور الدين في الحياة الامريكية وانعكاساته على قضايانا العربية، وبالذات فيما يخص القضية الفلسطينية.
2. لما كانت التوراة "العهد القديم" والنبوءات الواردة فيها تلعب دوراً رئيساً في تشكيل العقلية الامريكية ، وعقلية النخب وصناع القرار، فإنه لابد من عمل دراسات معمقه لها، لمعرفة التوجهات المستقبلية التى يمكن ان تفضي لها مثل تلك النبوءات، لان الخبرة التاريخية تشير الى ايه درجه صاغت النبوءات التوراتية وجهة النظر الامريكية تجاه كثير من القضايا، وبالذات فيما يتعلق بالمنطقة العربية وفلسطين.
3. بالرغم من هذا الاثر للدين في المجتمع الامريكي، الا ان الفرق والمذاهب الدينية متعدده، فهناك الكاثوليك الذين يمتلون حوالى ثلث السكان، كما ان الفرق البروتستانتية متعدده بصوره كبيره، وان كان
4. بالرغم من ان الاصولين المسيحيين يمثلون اغلبيه في امريكا، حيث يبلغ تعدادهم اكثر من 80 مليون، ويمتلكون امكانيات ضخمه في كافة المجالات، ويتحكمون في الانتخابات الرئاسية، الا ان ذلك لا يعنى انعدام امكانية التأثير على المشهد الدينى الامريكى. فهناك الكاثوليك الذين يمثلون ثلت المجتمع الامريكي، كما ان الفرق البروتستانتية متعدده بصوره كبيره، ولديها اهداف مختلفه، ولذا فأنه يتوجب العمل من قبل الاطراف العربية والاسلامية على اختراق هذا المشهد بوعي ودقه، حيث يمكن ان يكون اسلوب الحوار والتفاهم مجدياً ويحقق اهداف كبيره، وهنا لابد من اشراك المسيحيين العرب في مثل هذه الحوارات للحد من خطورة الحركات الاصولية المسيحية، كما ان الحوار مع الكنائس الكاثوليكيه والارتوذكسية يخدم هذا الهدف.

ملخص
تناولت الدراسة دور الدين في الحياة الامريكة منذ الهجرة الاولى للمستوطنين الانجليز الى امريكا والتى بدأت في سنة 1606 ولحتى الآن 2008 . حيث عالجت في الفصل الاول البدايات الاولى للاستيطان في امريكا، واثر حركة الاصلاح الدينى على افكار المهاجرون الاوائل من البيوريتان البروتستانت، وكيف عززت هذه الحركة من الاهتمام بالعهد القديم بكل اساطيره وقصصه مما جعل المهاجرون الاوائل يسقطون كثير من القصص والحكايات التوراتية على انفسهم خلال هجرتهم، مما جعل الدين يصبح مكون اساسي لفكرهم.
ثم تناولنا قضية العلمانية وفصل الدين عن الدوله، حيث وضحنا ان القول بالعلمانية يمكن ان ينطبق على الدول الكاثوليكية التى كانت السلطتين الزمنية والدنيوية مجتمعتين في يد البابا، ولهذا فان الفصل في هذه الدول، كان مخالف للعقيدة الكاثوليكية، وجاء نتيجه لافكار فلسفة التنوير. اما الدول البروتستانتية كامريكا وبريطانيا، فان الفصل جاء تلبيه لمبدأ دينى نادى به زعماء حركة الاصلاح الديني، حيث رفضوا سلطة البابا والمجامع المسكونية، وبهذا فان العلمانيه لها مفهوم مختلف عما نفهمه ولا يعنى عدم وجود اثر للدين في هذه الدول.
ولتأكيد ذلك تناولنا في الفصل الثاني دور الدين في نشأت النظام الرأسمالى الذي يسيطر على الحياة الامريكية وبينا كيف ان كثير من القيم والمبادئ الرأسمالية انبثقت من القيم الدينية البروتستانتية، مثل تقسيم العمل والتباين في التروات، والنزعة التقشفية، وظاهرة العلم الحديث وغيرها من القيم، وبعدها عرضنا لبعض النماذج الدينية التى تحاول تفسير بعض الظواهر مثل التباين في التروات، او التوسع والاستيلاء على اراضي الغير .. الخ، من وجهة النظر الدينة المستمده من البروتستانتية.
اما الفصل الثالث فقد تناولنا فيه الظاهرة الدينة الحديثة والمعاصره باعتبارها استمرار لنهج المؤسسون الاوائل، مما يعنى ان فهم المجتمع الامريكى لا يمكن ان يتم الا من خلال فهم جذوره الدينية، حيث عرضنا لبعض الاحصائات التي تبين حجم الدور الذي يلعبه الدين في الحياه الامريكية المعاصره، وان امريكا بها اعلى نسبة للتدين في العالم. كما اشرنا الى دور الدين في تشكيل فكر السياسيين والمفكرين وكيف ان فكرة النظام الدولى الجديد لها جذور عميقه في الفكر الدينى الامريكى، والتى تشير الى فكرة العصر الالفى السعيد الذي سيشهد اقامه اسرائيل وعودة المسيح ليحكم العالم لمدة الف عام.
وحتى لا يبقى كلامنا مجرد اسقاطات نظرية رأينا ان نعرض في الفصل الاخير للدور الكبير الذي لعبه الدين في تشكيل فكر ومعتقدات الرئيس جورج بوش، وأثر ذلك على سياسته العالمية وبالذات تجاه العالم العربي والاسلامي، وفيما يخص الصراع العربي الاسرائيلى، حيث يعتبر فكر بوش مثال واحد لكافة الرؤساء الامريكيون الذين كان للدين دور رئيس على سياستهم، ويكفى ان نعلم ان كافة الرؤساء الامريكيين كانوا من البروتستانت باستثناء واحد فقط هو جون كيندي الذى تم اغتياله لان المتطرفون البروتستانت لم يروق لهم ان يكون الرئيس كاثوليكياً يأتمر بامر البابا "عدو المسيح" حسب اعتقاد المتطرفون البروتستانت.

المصادر والمراجع
1. الحسن، ي. (1986): من أوراق واشنطن، ط1. دار المستقبل العربى.
2. الحوت، ب، ن. (1991): فلسطين، القضية، الشعب، الحضارة ( التاريخ السياسي من عهد الكنعانيين حتى القرن)، ط1، دار الاستقلال.
3. الخشاب، ا. (ب. ت): الاجتماع الديني (مفاهيمه النظرية وتطبيقاته العملية)
4. السقا، ا. ح. (2003): عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة، الطبعة الثانية. دار الكتاب العربي دمشق، القاهرة.
5. السماك، م. (2003): الدين في القرار الأمريكي، ط1. دار النفائس.
6. الشريف، ر. (1985):الصهيونية غير اليهودية: جذورها فى التاريخ الغربى. ترجمة احمد عبد الله عبدالعزيز. سلسلة عالم المعرفة، 96. المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب، الكويت.
7. العكش، م. (2002): حق التضحية بالآخر (امريكا والابادات الجماعية)، ط1. رياض الريس للكتب والنشر
8. المسيري، ع. (2003): دفاع عن الإنسان (دراسة نظرية و تطبيقية في النماذج المركبة). دار الشروق، القاهرة.
9. النجار،ح. ف. (1986): امريكا والعالم – مكتبة مدبولي.
10. النيرب، م. (1997): المدخل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية – الجزء الاول حتى 1877–دار الثقافة الجديدة – ط1
11. أبو خليل، ا. (2003): الحرب الأمريكية الجديدة ضد الإرهاب (من قسم العالم إلى فسطاطين)، ط1. ترجمة ميرفت أبو خليل. دار الآداب للنشر والتوزيع /بيروت.
12. برستوفتز، ك. (2003): الدولة المارقة- الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية، ط1. تعريب فاضل جتكر. شركة الحوار الثقافي.
13. برير، م. (2004): الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني، الطبعة الثالثة. ترجمة احمد الجمل و زياد منى. دار قدمس للنشر والتوزيع.
14. بلاتونوف، ا. (2002): لهذا كله ستنقرض امريكا (الحكومة العالمية الخفية)، ط1. ترجمة نائله موسى، ايرينا بونتشينسكايا. دار الحصاد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق.
15. بلوم، و. (2002): الدولة المارقة ـ دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم، ط1. ترجمة كمال السيد- المجلس الاعلى للثقافة، مصر.
16. بيري، ل. (1990): تاريخ الحياة الثقافية في أميركا. ترجمة أحمد العناني ـ مركز الكتاب الاردني.
17. بينتون، ر. (ب. ت): مواقف من تاريخ الكنيسة. ترجمة القس عبد النور ميخائيل. دار الثقافة المسيحية.
18. جارودي، ر. (1991): فلسطين ارض الرسالات السماوية. ترجمة قصي اتاسي، ميشيل واكيم. دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر.
19. جارودي، ر. (2002): امريكيا طليعة الانحطاط، ط 3. تقديم كامل زهيري، تعريب عمرو زهيري. دار الشروق.
20. جارودي، ر. (2003): كيف نصنع المستقبل، الطبعة الثالثة. ترجمة وتقديم د. منى طلبه، د. انور مغيث. دار الشروق، القاهرة.
21. جلال، ش. (1997): العقل الأمريكي يفكر – من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات، ط1. مكتبة مدبولي.
22. جوليان، ك. (1970):الإمبراطورية الأمريكية. ترجمة ناجى أبو خليل. دار الحقيقة بيروت.
23. حسن، د. ع. (2002): الولايات المتحدة من الخيمة إلى الإمبراطورية، ط1. مراجعة وتدقيق اسماعيل الكردي. الأوائل للنشر والتوزيع.
24. خليل، ع. (2003): مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، ط1. دار الفكر بدمشق.
25. دلماس، ك. (1982): تاريخ الحضارة الغربية. ترجمة توفيق وهبه. عويدات.
26. ديورانت، و. (1988): قصة الحضارة، ج 23،24. ترجمة زكي نجيب محمود, محيى الدين صابر.دار الجيل.
27. راسل، ب. (1983): حكمة الغرب (عرض تاريخي للفلسفة لبغربية في اطارها الاجتماعي والسياسي). ترجمة فؤاد زكريا. سلسلة عالم المعرفه 62. المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب, الكويت.
28. رافيتش، د. وآخرون. (1998): مختارات من الفكر الأمريكي، ط1. ترجمة نمير مظفر. دار الفارس، الاردن.
29. ربيع، م. (ب. ت): أزمة الفكر الصهيوني –المؤسسة العربية للدراسة والنشر.
30. رزوق، أ. (1973): اسرائيل الكبرى ، دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني. المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
31. سلطان، ح. (1968): أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية. دار النهضة العربية، القاهرة
32. شلبي، أ. (1979): المسيحية. مكتبة النهضة المصرية، القاهرة,مصر.
33. شينك، ا. (1958): حضارة العالم الجديد من عصر الاستكشاف الى عصر الذرة، ط1. ترجمة فؤاد جميل. مطبعة شفيق، بغذاد.
34. عبد الحكيم، م. (2005): الامبراطورية الامريكية البداية .. والنهاية، ط1. دار الكتاب العربي.
35. عبد السلام، ا. ل. (2005): الانحياز الأمريكي لإسرائيل – دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية، ط1. مكتبة النافذة.
36. عماد، ع. (2003): صناعة الإرهاب، ط1. دار النفائس.
37. عناية، م. ج. (2002): امريكا و أزمة ضمير، ط1.
38. كارول، ج. (2005): الحرب الصليبية (توايخ حرب ظالمة)، ط1، ج 2. ترجمة د. قاسم عبده قاسم. مكتبة الشروق الدولية.
39. كليفلاند، هـ. (2000): ميلاد عالم جديد (فرصة متاحة لقيادة عالمية)، ط1. تقديم روبرت ماكنمارا، ترجمة د. جمال زهران. المكتبة الاكاديمية.
40. كوربت، م، كوربت ج. (2002): الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ط2، ج2. ترجمته د.عصام فايز، ود. ناهد وصفي. مكتبة الشروق الدولية.
41. لوران، ا. (2003): عالم بوش السري (الديانة و المعتقدات الأعمال و الشبكات الخفية)، ط1. ترجمة سوزان قازان. دار الخيال بيروت، لبنان.
42. ليله، ع. (1981): النظرية الاجتماعية لمعاصرة، دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع، ط1. دار المعارف.
43. مارسدن، ج. (2001): الدين والثقافة الأمريكية، ط1. ترجمة صادق عودة- دار الفارس للنشر والتوزيع.
44. مامير، ن، فاربيار، ب. (2004): خطورة أمريكا – ملفات حربها المفتوحة في العراق، ط1. ترجمة ميشال كرم. دار الفارابي.
45. مركلي، ب. (2003): الصهيونية المسيحية (1891ـ1948م). ترجمة فاضل جتكر. قدمس للنشر والتوزيع، سوريا.
46. مظهر، س. (1984): قصة الديانات. الوطن العربى.
47. مقار، ش. (1991): قراءة سياسة للتوراة، ط1. رياض الريس للكتب والنشر، لندن، قبرص.
48. مقار، ش. (1992): المسيحية والتوراة. رياض الريس للكتب والنشر.
49. مكدوجال، و. (2001): ارض الميعاد والدولة الصليبية ـ أمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776، ط2. ترجمة: رضا هلال. دار الشروق، القاهرة.
50. ميسان، ت. (2002): التضليل الشيطاني. دار الوطنية الجديدة، دمشق.
51. هالسيل، غ. (2000): يد الله (لماذا تضحى الولايات المتحدة بمصالحها من اجل اسرائل؟!)، ط1. ترجمة محمد السماك. دار الشروق.
52. هرنانديز، ا، ب. (2004):امبراطورية الحرية، ط1. ترجمة احمد توفيق حيدر. دار الفارابي، بيروت.
53. هيكل، م، ح. (2002): من نيويورك إلى كابول، ط2. المصرية للنشر العربي والدولي.
54. وكالة الإعلام الأمريكية (ب، ت): هذه هي أمريكا. الولايات المتحدة الامريكية
55. يانج، ر. (2003): اساطير بيضاء (كتابة التاريخ والغرب)، ط1. ترجمة احمد محمود. المجلس الاعلى للثقافة، مصر.
المقالات
1. الحسن، ي. (2003، 9، مارس): "الأصولية المسيحية أصولها ونشأتها ودورها في صنع القرار الأمريكي". جريدة الخليج، عدد 8674
2. الصياد، م. (2003، 15، فبراير): "حول علاقة الدين بالدولة الأمريكية الحديثة". جريدة الخليج، عدد8672
3. أبو شعيره، ش. (2002، 14، ديسمبر): "البوشنية .. سيره يهودية". جريدة الخليج، العدد 8609 .
4. باشاران، ن. (2005، 15، ديسمبر): "هل يجب الخوف من أمريكا ؟".عرض بشير البكر. جريدة الخليج.
5. حرب، ر، م. (2003، 9، مارس): "أساطير في ثوب ديني وتحالف استراتيجي". جريدة الخليج، عدد 8674.
6. زلوم، ع. (2003، 27 يناير الى 1 فبراير) : إمبراطورية الشر الجديدة. جريدة القدس العربي
7. سحاب، ف. (2003، 17، فبراير): تاريخ تطور علاقة المسيحية باليهودية. جريدة الخليج عدد 8674
8. صبرا، ج. (2003، 15، فبراير): أوجه التشابه .. والاختلاف. جريدة الخليج، عدد8672
9. لييفين، ا. (2005، 23، يوليو): القومية الأمريكية الجديدة ـ عرض: بشير البكرـ جريدة الخليج، الحلقة الرابعة.
10. منصور، خ. (2003، 10، مارس): أفق آخر، سانت بوش. جريدة الخليج، عدد 8695
11. هيوبرز، ج. (2003، 15، فبراير): "عندما تختلط الأساطير بالنبوءات". جريدة الخليج.
مواقع الانترنت
1. الشنقيطي، م. (2003): "بوش.. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية". الجزيرة نت ـ4ـ2003
2. أولدفيد، د. (2003): "الجذور الإنجيلية للأحادية الأمريكية اليمين المسيحي وكيفية مواجهته" - (28ـ31 آب/2003)- الاجتماع السنوي لجمعية العلوم السياسية الأمريكية- نقلا عن موقع مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية
3. بوغنون، م. (ب، ت): أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟. ترجمة خليل أحمد خليل. المصدر الجزيرة نت
4. بوفلجة، غ. (ب، ت): بين حضارة القوة وقوة الحضارة. عرض سكينة بوشلوح. الجزيرة نت
5. تشومسكي، ن. (2004): الهيمنة أم البقاء.. السعي الأميركي للسيطرة على العالم. ترجمة سامي الكعكي. دار الكتاب العربي.‏ تقديم إبراهيم غرايبة. الجزيرة نت 29/7/2004م.
6. دون، ج. (ب، ت): لوك.. مقدمة قصيرة جداـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوز – الجزيرة نت
7. سلطان، م. (ب، ت): المؤثرات الدينية في توجيه السياسة الغربية المعاصرة .
8. كارفر، ت. (2003): إنجلز.. مقدمة قصيرة جداً، ط1 الناشر اكسفورد. مراجعة كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت
9. كولمباني، ج، م. (2002): الكل أميركيون ؟.. العالم بعد 11 سبتمبر 2001،ط1. الناشر: فايار، باريس. عرض كامبردج بوك ريفيوز. الجزيرة نت
10. لوران، أ. (): حرب آل بوش. ترجمة: سلمان حرفوش. عرض/إبراهيم غرايبة – الجزيرة نت
11. مانسفيلد، س. (2004): عقيدة جورج دبليو بوش ـ عرض علاء بيومي- الجزيرة نت – 3/5/2004م
12. هلباتش، ف. (ب، ت): حكايات الهنود الأمريكيين (الحمر) أساطيرهم: حيل البقاء والمقاومة. ترجمة موسى الحالول، مراجعة د.زبيدة أشكناني. الجزيرة نت
13. هنتنغتون، ص. (2004): من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية، ط1. الناشر، سيمون آند سيشتر، الولايات المتحد. عرض علاء بيومي ـ الجزيرة نت 2ـ8ـ2004م
14. مور، م. (ب، ت): رجال بيض أغبياء. الدار العربية للعلوم. عرض خدمة كمبريج بوك ريفيو. الجزيرة نت
15. بوب، و. (2006): بوش في الحرب. الناشر :سايمون وشوستر. الجزيرة نت