بقلم / يوسف الطويل
جريدة الوحدة الاماراتية 17/10/1987
لكل أمة من الأمم مميزاتها وخصائصها التي تميزها عن غيرها من الامم بحيث تمثل هذه الخصائص والمميزات شخصيتها وهويتها المستقلة التي تستمد منها قوتها ووحدتها .
والأمة الإسلامية لها من المميزات والخصائص التي استمدتها عبر قرون طويلة من تعاليم الدين الإسلامي والتي جعلت من هذه الأمة الإسلامية عن غيرها من الإمم تقف سدا منيعا في وجه كافة التحديات التي واجهتها الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل . فكان تمسك المسلمين بهويتهم المميزة وتعاليم الدين الإسلامي هو منبع قوتهم وتفوق في كافة المجالات العسكرية والاجتماعية والاقتصادية . فكانت كل شؤون حياتهم مصبوغة بصبغة الإسلام فكان اختلافهم من أجل الإسلام وكان اتفاقهم ووحدتهم للاسلام وكان فكرهم وثقافتهم مستمدا من الإسلام ولهذا استطاعت الأمة الإسلامية بتمسكها بتعاليم دينها أن تواجه كافة التحديات التي واجهتها من هجمات تتارية وحروب صليبية وردت الغزاة المعتدين إلى نحورهم مهزومين بالرغم مما تركته هذه الحروب من أثر سيء على العالم الإسلامي فيما بعد .
وبالرغم من حالة الانقسام الداخلي التي كانت تعيشها الأمة الإسلامية أبان الحروب الصليبية إلا أن ظهور شخصية صلاح الدين الأيوبي كان كفيلا باسم شمل المسلمين وتوحيدهم على اختلاف مذاهبهم وجعلهم يقفون صفا واحدا على في وجه الغزاة المعتدين وانزال الهزيمة بهم . وسبب نجاح صلاح الدين في ذلك هو انه عرف مكمن قوة المسلمين وهو الدين الإسلامي فدعاهم باسم الاسلام للجهاد ورد المعتدين فهاتت لديهم التضحية بالنفس والمال والولد في سبيل نصرة الإسلام
ولهذا أدرك الغرب بعد فشل الحروب الصليبية أن الغزو العسكري للبلاد الإسلامية . لا بد مخفق مهما طال الزمن ما لم يصاحبه غزو فكري يقضي على عوامل القوة والمنعة الكامنة في الإسلام وفي هذا يقول كيرك أن الحروب الصليبية فتحت أذهان الغربيين إلى مستوى الذي كان يفوق بكثير حضارة الغرب ومع تفتح أذهان الغربيين اتجه هؤلاء إلى غزو الشرق فكريا بعد أن عجزوا عن غزوه عسكريا .
ومصطلح الغزو الفكري من المصطلحات التي ظهرت في عصرنا الحديث بعد أن تعرضت كثير من دول العالم للااستعمار الغربي والذي عمل جاهدا على ابقاء سيطرته على هذه الدول حتى بعد زوال سيطرته العسكرية والسياسية عنها وذلك عن طريق ابقائها في حالة تبعية فكرية واقتصادية لها .
والغزو الفكري يقصد به بوجه عام ذلك الجهد البشري المبذول ضد شعب أو أمة من الأمم لكسب معارك الحياة فيها وتسهيل قيادتها وتحويل مسارها التاريخي عن طريق اخضاعها لثقافة وفكر غريب عنها وعن شخصيتها ومقوماتها التي تميزها وجعلها تعيش في حالة تبعية فكرية فتعيش على الثقافات الأخرى .
فالغزو الفكري مكمل لأساليب الغزو التقليدية ومساعد لها وفي بعض الأحيان يكون بديلا عنها مع التقائه معها في الأهداف وأن اختلف وسائل ومظاهر كل منها .
بينما يعتمد الغزو العسكري على قوة السلاح وما تحققه الجيوش من انتصارات في ساحات المعركة لتحقيق أهدافه يعتمد الغزو الفكري على مدى دراية الغزاة وعلمهم بأحوال الأمة التي يراد غزوها ومعرفتهم بمواطن الضعف والقوة في فكر وتراث هذه الأمة فيعملوا على محاربة وتشويه مواطن القوة فيها وزيادة مواطن الضعف بشتى الطرق .
وإذا كانت مظاهر الغزو العسكري هي سيطرة الدولة الغازية على أراضي الدولة المغزوة بحيث تظل هذه الدولة أو الأمة في حالة تبعية فكرية وثقافية للدولة الغازية .
فالغزو الفكري هو أن تسود أخلاق وعادات وتقاليد أمة من الأمم أخلاق وعادات وتقاليد أمة أخرى. فإذا كانت الأخلاق والعادات والتقاليد تنبع من القيم والمثل الأصلية لأي أمة من الأمم ومن الظروف التي تعيش فيها فإن تنكر الأمة لأخلاقها وعاداتها وتقاليدها هو تنكر لأصالتها ومسخ لشخصيتها وهويتها المميزة .
الغزو الفكري هو أن تزاحم لغة الغالب لغة المغلوب أو تحل محلها أو تحاربها باحياء اللهجات العامية فيها فتعيش لغة المغلوب عالة على لغة الغالب فتصبح غريبة في وطنها ويدب فيها الضعف بسبب اهمالها وكثرة المصطلحات والمفردات التي تدخلها من خارجها. وإذا كانت اللغة هي وسيلة الإنسان للتعبير عن أحاسيسه وأفكاره فإن ضعف اللغة من غير شك يؤدي إلى ضعف الفكر وخواء مضمونه فيزداد الميل للتقليد الأعمى ويقل الابتكار والابداع لدى مفكري الطرف المغلوب.
الغزو الفكري هو أن يعيش أدباء ومفكرو وعلماء أمة من الأمم عالة على أدباء ومفكري وعلماء أمة أخرى ويتحولون إلى أصحاب وكالات فكرية لا يعرفون معنى الابداع والابتكار فيقومون بتبني أفكار ومذاهب ونظريات غريبة عنهم وعن مجتمعهم وشخصيتهم المميزة متناسبين خصوصية فكر وثقافة كل أمة من الأمم وهذا هو العجز بعينه الذي يجعلهم يختارون أسهل الطرق وأخطرها عن طريق التقليد بدعوى عالمية الفكر والدعوة للتجديد والحداثة .
الغزو الفكري هو أن تهمل أمة من الأمم تاريخها وتراثها وتتخذ من تاريخ وتراث أمة أخرى مثلا أعلى لها فتهمل تاريخ أبطالها وسير التابعين من أبنائها فتفقد ثقتها في نفسها وتاريخها .
الغزو الفكري هو أن يتعرض تاريخ وفكر ونظام حياة أمة من الأمم لحملات التشويه والتخريب والاحتواء من فكر أمة أخر . وقد تعرضت الأمة الإسلامية كغيرها من الأمم الأخرى التي خضعت للاستعمار الغربي لهذا النوع من الغزو وعانت منه طويلا ولا زالت تعاني .
ولكن عندما يتعلق أمر الغزو الفكري بالعالم الإسلامي والفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية فإن الكلام يحتاج إلى كثير من الايضاح والتركيز فالإسلام هو خاتم الرسالات السماوية التي ارتضاها الله سبحانه وتعالى شريعة ومنهاجا أبديا للبشرية في دنياها وأخرتها.
فكان هذا الدين منذ أوائل عهده ثورة في وجه الظلم والاستغلال والانحراف ودعوة إلى العدل والاخاء والمساواة بين البشر فكان حربا على المستغلين والمنحرفين وهذا لا يرضي المستعمرين والمستغلين لأنهم لن يستطيعوا تحقيق أهدافهم . ووجد هولاء أن الطريق الصحيح للسيطرة على العالم الإسلامي هو محاربة هذا الدين وتشويهه ومحاربة الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية بكل جوانبها وفرض الثقافة والفكر الغربي على البلاد الإسلامية بكافة الطرق واعتبار الحضارة الغربية وقيمها مقياس كل نهوض وتقدم ونشر ذلك بين المسلمين حتى يقل اعتزازهم بدينهم وفكرهم وحضارتهم ويزداد اعجابهم وميلهم للحضارة الغربية .
فقد عمد الغرب إلى رد كل ابداع حضاري لدى الشعوب الإسلامية إلى الأصول اليونانية والرومانية وكأنه لم يوجد فكر في العصور القدمية إلا الفكر اليوناني والروماني متناسين أثر الحضارات الشرقية القديمة على الحضارة اليونانية والرومانية ومبرزين لأثر الحضارة اليونانية على الحضارة الإسلامية فالمسلمون في نظرهم لم يكونوا إلا نقلة وشراحا للفكر اليوناني ولم يضيفوا شيئا جديدا يستحق الذكر للحضارة الإنسانية .
فاسهام المسلمين عندهم الذي يستحق الذكر في مجال الحضارة الإنسانية هو أنهم قاموا بحفظ التراث اليوناني من الضياع عن طريق ترجمته وشرحه وتهذيبه ولا شيء غير ذلك فهم خزنة ماهرون ولكنهم ليسوا مبدعين فالابداع والنظر العقلي سمة للعقلية الغربية والتقليد والإمعان في الروحانية سمة للعقلية الشرقية
فتاريخ الفلسفة عندهم هو تاريخ الفلسفة الغربية مع اهمالهم ذكر اسهامات الفلاسفة المسلمين وأثرهم على الفلاسفة الغربيين أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم .
وتاريخ العلم هو تاريخ العلم الغربي مع التقليل من قيمة اسهامات العلماء المسلمين في تطور العلوم وتقدمها ونسبهم بعض كشوفات العلماء والمسلمين ونظرياتهم إلى علماء غربيين أو عدم ذكر أثرهم في توصل العلماء الغربيين إلى ما وصلوا إليه من كشوفات
وتاريخ الأدب هو تاريخ الأدب الغربي من هوميروس في عصر اليونان إلى أصحاب المدرسة الكلاسيكية والرومانسية في عصرنا الحديث واهمال ذكر أدباء المسلمين وابداعاتهم وأثرهم على كثير من الأدباء والشعراء الغربيين .
وعصور الغرب هي كل العصور ولا عصور غيرها فهي مقياس التقدم والانحطاط فالعصر الوسيط هو عصر انحطاط وتخلف لأن الغرب كان كذلك متتاسبن أن هذا القول ينطبق على الحضارة الغربية وحدها اما الحضارة الإسلامية فقد كانت في أوج مجدها وازدهارها في العصور الوسطى.
وهكذا نصب الغرب نفسه معلما أبديا للبشرية مسدلا ستاراً من الصمت والتعتيم والتشويه حول انجازات الحضارة الإسلامية في كافة المجالات حتى يبقيها في حالة تبعية فكرية له لأطول فترة ممكنة وذلك بجعل النموذج الحضاري الغربي هو النموذج الوحيد للتقدم الحضاري في كل العصور ولا نموذج سواه ولذلك يجب الاقتداء به وتقليده لمن يريد التقدم والازدهار.
وقد سارت عملية الأعلاء من قيمة الحضارة الغربية والفكر الغربي جنبا إلى جنب مع حملات التشويه والتخريب للتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية والدين الإسلامي فتسربت كثير من الأفكار الخاطئة عن الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي والدين الإسلامي إلى البلاد الإسلامية من خلال ما فرضه الغرب على هذه البلاد من أنماط معينة للتفكير والثقافة بواسطة مؤسساته التعليمية وغيرها من المؤسسات الأخرى .
لقد كان الغزو الفكري من أشد معاول الهدم خطورة على العالم الإسلامي والتي كرست تبعيته الفكرية للعالم الغربي لفترة طويلة وساعدت الدول الاستعمارية في تحقيق أهدافها وتكمن خطورة الغزو الفكري أنه من الأمور غير المنظورة التي لا يمكن تتبعها وعلاجها بسرعة بالاضافة إلى اختلاف الآراء حولها بعكس الغزو العسكري الذي يشعر به كل فرد فتسهل مقاومته والقضاء عليه متى توفرت الامكانيات لذلك .
وإذا أردنا أن نتحدث عن الغزو الفكري للعالم الإسلامي فيجب علينا أن نبحث عن الجذور التاريخية له والتي ساهمت إلى حد كبير في استمراره وفي مساعدة الدول الاستعمارية في فرض سيطرتها السياسية والعسكرية والفكرية على العالم الإسلامي لفترة كبيرة من الزمن.
فإذا كانت الدول الإسلامية قد تحررت من قيود الاستعمار الغربي من الناحية العسكرية وحصلت على استقلالها السياسي إلا أن تبعيتها الفكرية للدول الاستعمارية ما زالت قائمة بالرغم من المحاولات الجادة التي تبدلها هذه الدول للتخلص من هذه التبعية والتي تحتاج إلى وقت وصبر وعمل دائم على كافة المستويات بالإضافة إلى تكاتف جهود كل الدول و المؤسسات الفكرية في الدول الإسلامية .
وسنعرض في هذه الدراسة لبدايات الغزو الفكري الغربي في العالم الإسلامي ودواعيه وأهم الركائز والأدوات التي اعتمد عليها الغرب في تنفيذ مخططاته .
فكما أوضحنا سابقا أن فشل الحروب الصليبية في تحقيق أهدافها عن طريق الغزو العسكري جعلت الغرب يستخلص الدروس والعبر التي تعينه على معرفة الطريقة الجديدة التي يجب أن يتعامل بها الغرب مع العالم الإسلامي . حيث أدرك الغرب أن الغزو العسكري لا بد من مخفق مهما طال الزمن ما لم يصحبه غزو فكري يزلزل عوامل القوة الكامنة في الإسلام والحضارة الإسلامية . والغرب بذلك يعمل وفق القاعدة التي تقول إذا أرهبك عدوك فأفسد فكره ينتحر به " ومن هنا بدا الغرب التخطيط لهذا الأمر وهو افساد الفكر الإسلامي.
فأجمع الغرب أمره على محاربة الإسلام والمسلمين وذلك بهدم البنيان من أصوله وجذوره ومحاربة الإسلام في نفوس أبنائه لزعزعة ثقة المسلمين بدينهم وابعادهم عنه وابعاده عنهم واشتغالهم بمبادئ أخرى أن لم تقض نهائيا على الإسلام فإنها تزاحمه وتزلزل أركانه فيسهل القضاء عليه مع الزمن .
فقرر الغرب دراسة الإسلام وأدابه وفنونه وعلومه وحضارته دراسة وافية ليقفوا على مواطن القوة والضعف فيها فكان الاستشراق والتبشير السلاحين الخطرين اللذين ظهرا بشكل سافر وعلى نطاق واسع منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا .
فقد حمل الاستشراق أعباء الأعمال في ميادين المعرفة الأكاديمية وأضفى على بحوثه ودراساته عن العالم الإسلامي الطابع العلمي واستخدم الكتابة والتأليف والترجمة والتحقيق والنشر والقاء محاضرات وعقد المؤتمرات والتدريس الجامعي وسائل لتحقيق أهدافه .
وحمل التبشير أعباء الدعوة في أوساط الجماهير العامة الفقيرة عن طريق تقديم الخدمات الطبية والتعليمية للجماهير بالاضافة إلى قيامه بانشاء الملاجئ ودور الأيتام ودور الحضانة للأطفال وانشاؤه لجمعيات تدعى أنها تهدف لعمل الخير وهي في الأصل للتبشير.
وليس معنى ذلك أن الاستشراق والتبشير هما أدوات الغزو الفكري فقط بل تقف معهما وتساعدهما المبادئ والنظريات والفلسفات الهدامة والماسونية وجمعياتها كالروتاري واليوتز وبنات برت يهوه وغيرها من الأندية المشبوهة والتي انتشرت في العالم الإسلامي بمساعدة الاستعمار والصهيونية العالمية كما أن التقدم الرهيب في وسائل الاتصال في عصرنا الحاضر ساعد كثيرا على زيادة أثر هذا الغزو عن طريق ما يذاع وينشر في وسائل الاعلام المختلفة .
وسنكتفي في هذه الدراسة بالقاء مزيد من الضوء على الاستشراق والتبشير في العالم الإسلامي كما سنبين الارتباط الوثيق بينهما وبين الاستعمار الغربي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق