الاستشراق غزو فكري لتدمير الحضارة الإسلامية "2"
المستشرقون وضعوا كتبا عن الحضارة الإسلامية ظاهرها المدح والثناء
وباطنها الدس والتشكيك
بقلم / يوسف الطويل
اتجه الاستعمار الغربي إلى الغزو غير المباشر للسيطرة على العالم الإسلامي وذلك باستخدام الغزو الفكري وسيلة مؤثرة بعد فشل وسائله التقليدية في الغزو العسكري للسيطرة على الشعوب الإسلامية ونهب ثرواتها . وقد وجد الاستعمار في المبشرين الغربيين ضالته المنشودة لتحقيق أهدافه في السيطرة والتبعية عن طريق السيطرة على عقول المسلمين وتشكيكهم في دينهم وحضارتهم
وقد لجأ هؤلاء المبشرون إلى دراسة علوم اللغة العربية والإسلامية لمعرفة اتجاهات المسلمين في مختلف الحياة. ونظرا لأن ظهور حركة الاستشراق له صلة وثيقة بما يحدث اليوم من غزو فكري وتبشيري لكل المسلمين في مختلف أرجاء المعمورة ينبغي أن نلقي الضوء على الجذور التاريخية الأولى لحركة الاستشراق وما هي العوامل التي أدت إلى ظهورها ومدى تأثيرها على المسلمين سلبا وايجابا.
أثر الاستشراق على العالم الإسلامي
بالرغم من أن لكتابات المستشرقين ومؤلفاتهم عن الإسلام والحضارة الإسلامية أثرا سلبيا كبيرا على العالم الإسلامي إلا أن الجانب الإيجابي للاستشراق يتمثل في صورة الهجوم علينا وعلى أمجادنا وليس في صورة المدح لأن جانب المدح والثناء قد يكون له أثر تخذيري علينا فيجعلنا نغمض عيوننا مستسلمين لتلك الأحلام السعيدة التي تذكرنا بالذي كان ونركن إلى ذلك ونعيش على صيت أبائنا وأجدادنا ونظن أننا عظماء لأن أجدادنا عظماء. فجانب الهجوم على الإسلام والحضارة الإسلامية هو الذي دفع كثير من الكتاب المسلمين للرد على القضايا والشبهات التي أثارها المستشرقون حول الإسلام ردا علميا ساهم إلى حد كبير في تصحيح كثير من المفاهيم الخاطئة لدى المسلمين لمسائل القضاء والقدر والتوكل على الله وحقوق المرأة وغيرها من القضايا التي أدى الفهم الخاطئ لحالة التدهور والانحطاط التي عاشها العالم الإسلامي .
بالإضافة إلى أن جانب الهجوم هذا أدى إلى ظهور كتابات إسلامية تتحدث عن الإسلام كنظام متكامل للحياة الإنسانية في جوانبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مع وضع حلول لكثير من المشكلات التي واجهت الإنسانية في هذا العصر .
وأيضا ظهرت كتابات إسلامية بينت اسهامات العلماء المسلمين في شتى ميادين العلوم والمعرفة وبينت فضل الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية من خلال تحقيق وجمع كثير من الكتب والمخطوطات ونشرها والتي توضح سبق علماء المسلمين وابداعهم في مجالات كثيرة مما ساعد في إعادة الثقة لكثير من المسلمين في دينهم وحضارتهم المفترى عليها .
ونشاط المستشرقين لم يقتصر على جانب اثارة الشبهات والقضايا المعادية للإسلام والحضارة الإسلامية بل أن لهم جهودا كبيرة تستحق منا الثناء والاعجاب وذلك لقيامهم بجمع كثير من الكتب والمخطوطات العربية والإسلامية النادرة وحفظها وفهرستها بدقة، مما ادى الى عدم ضياع هذه الكتب الإسلامية النادرة والتي كانت مهملة في مكتبات العالم الإسلامي فجهودهم تلك تستحق كل تقدير منا لهم بغض النظر عن هدفهم من وراء ذلك
كما قام المستشرقون بترجمة بعض كتب التراث الإسلامي إلى اللغات الأوروبية الحية وقاموا بنشرها هذا بالإضافة إلى أن لهم عدد كبيرا من المجلات والدوريات التي تنشر بحوثا عن العالم الإسلامي يزيد عددها عن ثلاثمائة مجلة ودورية . والمستشرقون يقومون أيضا بعقد المؤتمرات الدولية بصورة منتظمة يعرضون فيها بحوثهم ودراساتهم عن العالم الإسلامي وقد بلغ عددها حتى الآن أكثر من ثلاثين مؤتمرا هذا الإضافة إلى المؤتمرات والندوات الإقليمية .
هدف ديني
ولو حاولنا أن نحدد أهداف الاستشراق و دوافعه فإننا نستطيع أن نقول أن الهدف الديني كان هو السبب الأول في نشأة الاستشراق وازدهاره ففي البدايات الأولى كان من الصعب الفصل بين الاستشراق والتبشير الديني لأنهما كانا مرتبطان باللاهوت المسيحي ومع بداية عصر الاستعمار وتوجه أنظار الغربيين للسيطرة على العالم الإسلامي ظهرت أهداف أخرى للاستشراق مثل الأهداف الاقتصادية والتجارية والسياسية.
والهدف الديني للاستشراق يتمثل في محاربة الإسلام وتشويهه لتشكيك المسلمين بدينهم بالإضافة إلى حماية المسيحيين من خطر انتشاره بينهم وذلك عن طريق حجب حقائقه عنهم واطلاعهم على ما فيه من نقائض مزعومة .
أما الهدف التجاري للاستشراق فيتمثل في ازدياد أطماع الغربيين ورغبتهم في توسيع تجارتهم والسيطرة على موارد العالم الإسلامي الغنية واللازمة لصناعتهم ولهذا وجدوا الحاجة ماسة لمعرفة البلاد الإسلامية وعاداتها وتقاليدها وجغرافيتها وتركيبتها السكانية وغير ذلك من الأمور حتى يستنى لهم استغلالها بسهولة .
أما الهدف السياسي للاستشراق فقد أوضحنا أن الحروب الصليبية وفشلها في السيطرة على العالم الإسلامي عن طريق الغزو العسكري كان له اكبر الاثر في نشأت الاستشراق وازدهاره. فقد أدرك الغرب أن الغزو العسكري لبلاد المسلمين بدون معرفة كاملة بالدين الإسلامي وعادات وتقاليد ولغات الشرق المسلم لا بد مخفف لأنه سيكون مفتقرا للدراسة الواعية التي يمكن أن تساعده في دوام السيطرة حتى بعد زوال السيطرة العسكرية .
ومع بداية السيطرة على البلاد الإسلامية اضطرت الدولة الاستعمارية لتعليم موظفيها في المستعمرات لغات البلاد الإسلامية وجزء من أدابها ودينها وعاداتها وتقاليدها حتى يستطيعوا سياسة هذه المستعمرات وحكمها .
وقد أفاد الاستعمار كثيرا من التراث الاستشراقي وما كتبه المستشرقون عن العالم الإسلامي وكان لزيادة التوسع الاستعماري في البلاد الإسلامية أثر كبير في زيادة مؤسسات الاستشراق ونشاطه بدعم ومساعدة من الدول الاستعمارية .
وقد كان التعاون بين الاستعمار والاستشراق وثيقا حيث استطاع الاستعمار أن يجند كثيرا من المستشرقين لخدمة أغراضه وأهدافه في البلاد الإسلامية، فكان المستشرقون يمدون الاستعمار بالدراسات والبحوث التي تيسر له حكم البلاد الإسلامية واستغلالها فمثلا قام المستشرق كارل هيزيسن بيكر مؤسس مجلة الإسلام الألمانية بدراسات تخدم الاهداف الاستعمارية الالمانية في أفريقيا ودعا إلى استخدام الإسلام في أفريقيا والهند كدروع سياسية في وجه البريطانيين
أما عالم الإسلاميات الهولندي ( سندك هورجروفيه ) فأنه في سبيل استعداده للعمل في خدمة الاستعمار توجه إلى مكة في عام 1885 بعد أن انتحل اسما إسلاميا هو ( عبد الغفار ) وأقام هناك ما يقرب من نصف عام وقد لعب هذا المستشرق دورا هاما في تشكيل السياسة الثقافية الاستعمارية في المناطق الهولندية في الهند الشرقية وشغل مناصب قيادية في السلطة الاستعمارية الهولوندية في أندونيسيا.
وفي فرنسا كان هناك عدد من المستشرقين يعملون مستشارين لوزارة المستعمرات الفرنسية مستشارين لوزارة المستعمرات الفرنسية عن شؤون شمال أفريقيا حيث كانوا يستشارون في المسائل المتعلقة بالشرق الإسلامي من قبل وزير الخارجية ووزير الحربية .
أما في بريطانيا فقد دعا اللورد كيرزن لإنشاء مدرسة للدراسات الشرقية باعتبار أنها تعد جزءا من تأثبت الامبراطورية وتساعد على الاحتفاظ بالموقع الذي نالته بريطانيا في الشرق وقد كانت الحكومة البريطانية من أجل تحقيق أهدافها الاستعمارية ترسم سياستها في مستعمراتها في الشرق بعد التنسيق والتشاور مع فريق من المستشرقين الذين يقدمون لها الدراسات المطلوبة. وهكذا اتجه الاستشراق المتعاون مع الاستعمار بعد الاستيلاء العسكري والسياسي على بلاد المسلمين إلى اضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين عن طريق تشكيك المسلمين في معتقداتهم وتراثهم والقيام بالترويج للحضارة والثقافة الغربية بين ربوع المسلمين حتى يتم اخضاعهم في النهاية اخضاعا تاما للثقافة والفكر الغربي .
وإذا كان كثير من المستشرقين قد ارتضوا لأنفسهم بأن يكون عملهم وسيلة للاستيلاء على بلاد المسلمين وتسخيرها لخدمة الأهداف الاستعمارية فإن بعض المستشرقين المنصفين يشعرون بالخجل والمرارة إزاء هذه الأعمال وفي ذلك يقول المستشرق الغربي المعاصر استفان فيلد : والأقبح من ذلك أنه توجد جماعة يسمون أنفسهم مستشرقين سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين هذا واقع مؤلم لا بد أن يعترف به المستشرقين المنصفون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة .
ومن الانصاف القول أنه إذا كان كثير من المستشرقين قد درسوا الإسلام والحضارة الإسلامية لأهداف دينية وتجارية وسياسية إلا أن هناك نفر قليل من المستشرقين الذين كانت دراساتهم عن الإسلام والحضارة الإسلامية منصفة وموضوعية فبينوا الجوانب المشرقة فيها وبينوا أثرها على الحضارة الغربية بوجه خاص والحضارة الألمانية بوجه عام أمثال جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب وغيره من المستشرقين الذين اهتموا بالإسلام إلى الدرجة التي أدت إلى اسم كثير منهم .
وقد ساعد على وجود هذا النفر القليل من المستشرقين زوال أثار التعصب الديني في بداية العصر الحديث وأيضا مامرت به أوروبا بما يعرف بعصر التنوير الذي أوجد نفر من الباحثين الذين كانت بحوثهم عن العالم الإسلامي تتسم بالموضوعية والنزاهة العلمية ولم يكن لهم غرض سوى البحث عن الحقيقة .
ولكن إذا صدق القول على بعض المستشرقين المسيحيين فإنه لا يصدق أبدا على أي من المستشرقين اليهود الذين دخلوا مجال الاستشراق بهدف النيل من الإسلام والحضارة الإسلامية فكانت بحوثهم ومؤلفاتهم مليئة بالحقد والدس والكيد للإسلام .
وليس من قبيل المصادفة أن نجد أن أكبر المستشرقين منذ وأواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين هو اليهودي جولدرزبهر والذي كرس حياته للطعن على الإسلام ونبى الإسلام وقرآن الإسلام بأسلوب علمي مقنع تتبعث منه أحقاد اليهود ومكرهم وخبثهم .
وفي جولة قام بها الأستاذ مصطفى السباعي في جامعات أوروبا التقى خلالها مع كثير من المستشرقين استخلص النتائج الآتية
1- أن المستشرقين لا يخلوا أحدهم من أن يكون قسيسا أو استعماريا أو يهوديا وفد يشذ عن ذلك أفراد قليلون
2- أن الاستشراق في الدول الغربية غير الاستعمارية كالدول الاسكندنافية أضعف منه عند الدول الاستعمارية
3- أن الاستشراق بصورة عامة ينبعث من الكنيسة وفي الدول الاستعمارية يسير مع الكنيسة ووزارة الخارجية جنبا إلى جنب ويلقى منها كل تأييد
4- أن الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا ما تزال حريصة على توجيه الاستشراق وجهته التقليدية من كونه أداة هدم للإسلام وتشويه السمعة للمسلمين
والمستشرقون بالإضافة إلى أعمالهم السابقة فإنهم سلكوا كل طريق ظنوه محققا لأهدافهم فقد استطاعوا أن يتسللوا إلى المجمع اللغوي بمصر والمجمع العلمي بدمشق والمجمع العلمي ببغداد كما أنهم قاموا بالتدريس في بعض الجامعات في البلاد الإسلامية .
فقد كان المستشرق الانجليزي جيب عضوا بالمجمع اللغوي بمصر بالإضافة إلى اشتراكه في تحرير دائرة المعارف الإسلامية والمستشرق الفرنسي ماسيون كان عضوا بالمجمع اللغوي المصري والمجمع العلمي العربي بدمشق
والمستشرق جنيبرت الانجليزي كان عضوا بالمجمع اللغوي بمصر والمجمع العلمي العربي بدمشق بالإضافة إلى اشتراكه في تحرير دائرة المعارف الإسلامية
والمستشرق نيكلسون كان عضو بالمجمع اللغوي المصري وهو أيضا من محرري دائرة المعارف الإسلامية وهكذا فإن المستشرقون يلجأون إلى كل طريق لتحقيق أهدافهم وليس معنى ذلك أن هذه هي آخر وسائلهم وطرقهم بل انهم كل يوم يبتكرون وسائل جديدة سواء بالقاء المحاضرات والاشتراك في مؤتمرات الحوار بين الأديان أو بوضع كتب ومؤلفات تتحدث عن الإسلام والحضارة الإسلامية ويكون ظاهرها المدح والثناء وباطنها الدس والتشكيك بطرق ملتوية تجعل المرء يحتار في أمرها والمقصود منها. وربما وصل الأمر إلى اعتناق الإسلام ظاهريا حتى يتسنى له أن يقول ما يريد من غير أن يتعرض للنقد من علماء المسلمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق