ثورة ليبيا .. الحقيقة الغائبة
يوسف العاصي الطويل
عضو الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين
لم يعد هناك مجال للسؤال عن حتمية التغيير الشامل في منطقتنا العربية، حتى تنهض شعوبنا وتنال حقها في الحرية والاستقلال من قيادات جلبت كافة انواع المصائب للامه، ولكن هذا التغيير لكى يؤتى ثماره لابد وان يكون نابعا ومعبرا عن حاله جماهيرية عامه تسري في جسد الامه، لها اهداف واضحه وتملك ادوات التغيير المطلوبه، وتجمع عليها غالبية اطياف المجتمع تكون مهمتها الاساسية تغيير النظام ووضع دستور جديد يلبي طموحات الامه، للوصول الى تشكيل حكومات منتخبه، تكون مسئوله امام شعوبها في كل تصرفاتها.
وقد استطاعت كلا من الثورة التونسية والمصرية تحقيق بعض الانجازات في هذا المجال وينتظرهما الكثير من النضال للوصول الى تحقيق كافة الاهداف. اما الاحداث التى تدور الان في ليبيا وبعض الدول الاخرى، فمصيرها مجهول ومفتوح على سيناريوهات عديدة تخضع بالدرجه الاولى لعوامل داخلية وقوى خارجية تحاول استغلال الاحداث الجارية وتوجيهها لتحقيق اجندات خاصه، بعيده كل البعد عن مطالب التغيير الوطنى.
وفي قرائتنا لما يدور في ليبيا وسيناريوهاته المختلفه نجد منذ البداية غموض كبير يحيط بما يدور هناك وتضارب للانباء بين ما تنقله وسائل الاعلام المختلفه عربية او محلية او عالمية، يضاف الى ذلك ان المعلومات المتوفره عما يدو كلها توضح الاختلاف الكبير بين ما يحدث في ليبيا وبين ما حدث في مصر وتونس وذلك من عدة جهات.
1- لاحظنا في ثورتى تونس ومصر الطابع السلمي لهما بالرغم سقوط ضحايا على ايدى الحكومه، ولكن الجيش بقى على الحياد لفتره كبيره، وكانت علاقته بالمتظاهرين جيده حتى وصلنا الى اللحظه الحاسمه التى تدخل فيه الجيش وحسم الامر لصالح المتظاهرين.
2- في الحالة الليبيه كان المتوقع ان يحدث نفس السيناريو، ولكن العكس حصل، فالبرغم مما قيل عن انضمام كتائب من الجيش للمحتجين، الا اننا لاحظنا عمليات تخريب ممنهجه لمعسكرات الجيش وقيام المحتجين باستخدام كافة انواع الاسلحة ضد الجيش وحدوث حرب شوارع وعمليات حرق وتخريب للممتلكات العامه وسيطره المحتجين على مقرات الجيش ومستودعات الاسلحه.
3- في حالتى مصر وتونس كانت هوية الثوار معروفه وواضحه، تمثل كافة اطياف الشعب من شباب واحزاب ومثقفين وعمال، هذا بعكس احداث ليبيا التى كانت بدايتها الاولى شعبية ولكن فجأه تم اخططافها بواسطة جماعات مسلحه، غير معروفة الهوية والتوجه، وقررت حسم الصراع بالقوه المسلحه بدل الثورة الشعبية.
4- لوحظ في احداث ليبيا غياب الفعاليات الشعبية في الداخل، من مثقفين ومعارضين، وتم التركيز على مثحدثين باسم الثوره من عواصم غربية مختلفه، لا تربطهم بالواقع ايه صله، ويروجون للتدخل الاجنبي، هذا بعكس ثورتى مصر وتونس التى كان المتحدثين يتكلمون من قلب الحدث، ومن وسط الجماهير. وحتى بعد السيطره على مدن بنغازي وغيرها استمر الوضع على ما هو عليه، بل اختفت وجوه برزت في بداية الاحداث مثل وزير الداخلية المستقيل، وغيره من الضباط اللذين قيل انهم انضموا للثوار.
5- لوحظ في احداث ليبيا سرعة التحرك العربي والدولي لحسم الامر لصالح القوى المعارضه للنظام، وتم العمل على استصدار قرارات من الجامعه العربية ومجلس الامن والمحكمة الجنائية الدولية ضد الحكومه الليبية والعقيد القذافي، بناء على معلومات وتقارير اخبارية صدرت من اطراف بعينها، ولم يتم التأكد من صدقها، هذا بعكس ما حدث في مصر وتونس.
6- في احداث ليبيا وجدنا كم هائل من الفتاوى الدينية التى تحرض المحتجين على قتال النظام الليبي، صدرت من شيوخ معروف عنهم فتاويهم المتكرره بحرمه الخروج على ولى الامر حتى ولو كان فاجرا، حتى وصلنا الى الفتوى الغريبه للقرضاوى الذى اباح دم العقيد القذافي، والتى لا يوجد لها اى سند دينى. وفي نفس الوقت برر نفس هؤلاء الشيوج تسلط انظمه غارقه في الفساد وحرموا التظاهر ضدها او انتقادها، ولم يشيروا من قريب او بعيد لما يحدث في دولهم.
7- بالرغم من اننى سجلت في مقالات سابقه ملاحظاتى على التغطية الاعلامية لاحداث مصر وتونس، وعدم موضعيتها بالذات من قبل قناتى الجزيره والعربية، الا اننى اجد نفسي عاجزا عن سرد وتوضيح حجم الكذب والتزييف والتضليل التى مارسته هاتات القناتان في تغطية احداث ليبيا، وساذكر بعض الحوادث التى تبين ذلك.
- زعمت هاتان القناتان ان النظام الليبي استخدم الطائرات لضرب المحتجين، ولكن حتى اللحظه لم تستطع اي منهما بث صوره او حادثه تؤكد هذا الزعم الذى جعل معظم الناس في العالم يتعاطفون مع الثوره الليبية، ولهذا وجدنا اوباما يصرح بالامس فقط بانه لديه اتباثات عن استخدام الطائرات ضد المحتجين، ولكنه لم يعرض الصور ليتأكد الناس منها. وفي احدى المرات واثتاء متابعتى لقناة العربية تم عرض تقرير عن عمليات قصف لطائرات القذافي لمطار بنغازى، وعند متابعتى للتقرير لم يشر مراسل العربيه الى ايه عمليات قصف للمطار بل كل ما ذكره هو كيفية استيلاء المسلحين على المطار وملاحقتهم للساعدى ابن القذافي واصابة سيارته باعيره نارية، اما القصف الذى كان عنوان التقرير فلم تتم الاشاره اليه او اظهار صوره .
- منذ بداية الاحداث تم نشر آلاف الاخبار العاجله التى تفيد بسقوط هذه المدينه او تلك واخبار عن مرتزقه وعمليات قصف وقتل وهروب القذافي وعائلته وغيرها، ولكن لحتى اللحظه ظهر كذب اغلبها وفبركتها. ففي تقرير لمراسل العربية من مدينة الزاوية اشار مراسل العربية الى وجود ثلاثة آلاف متظاهر في وسط المدينة يتظاهرون سلميا، وقوات الجيش تراقبهم من بعيد، وبالرغم من ذلك كان مذيعوا العربية والجزيره يصرون على القول بسقوط الزاوية في يد الثوار.
- لوحظ غياب الموضوعية في نقل الاحداث، او شعار الرأى والرأى الآخر التى تتبجح به هذه القنوات، فاذا كنا نقر بوجود احتجاجات في ليبيا، الا ان هناك صوره اخرى غائبه او غيبت عمدا، وهو تلك المظاهرات الكبيره في كثير من المدن الليبية المؤيدة للقذافي، بل ان القذافي لم يلقى خطبه المتعددة من غرف مغلقة او تحت الارض بل في ساحات عامه، وهناك صور يبثها التلفزيون الليبي وبعض الفضائيات الاجنبية لحياة طبيعية في طرابلس ومدن اخرى، بل ان هناك صوره اخرى قاتمه تعيشها المدن التى خرجت من سيطرت الحكومه، عبر عنها كثير من المتصلين بالتلفزيون والاذاعة الليبية، تصور حالة الفوضى والرعب التى تعيشها هذه المدن. وسواء صحت تلك الروايات ام كذبت فهى جزء من الصوره والحقيقه الغائبه.
- شاهدت على التلفزيون الليبي مشاهد لمن يسموا بالثوار وهم يحققون مع بعض افراد الجيش الليبي، وبعد ذلك قتلوهم ورموا جثتهم في الشارع، وهذه الصورنفسها تم نشر بعضها في الجزيره والعربيه على انها جثت من المتظاهرين الذين قصفوا بالطائرات. بل ان احد افراد الجيش الليبي ذو بشره سوداء عرضت جثته على انه احد المرتزقه ولكن التلفزيون الليبي عرض لمكالمه لشخص ليبي قال ان القتيل هو ابن عمه وقال اسمه بالكامل.
مما تقدم يمكن استخلاص بعض النتائج :
1- ان ما يحدث في ليبيا لا يمكن لاى عاقل ان يسميه ثوره شعبية بالمعنى المعروف للكلمه، بل هى اقرب الى التمرد المسلح والمواجهات بين الجيش الليبي وبين جماعات مسلحه بكافة انواع الاسلحه، قامت بالاستيلاء على مقرات حكومية نتج عنها تدمير وقتل وارهاب، واحداث شلل كامل في اماكن المواجهات وترويع للاهالى وتدمير لممتلكاتهم، هذا بعكس ما حدث في مصر وتونس. وبحسب القوانين المحلية والدولية فان المظاهرات والاحتجاجات تفقد شرعيتها وقانونيتها فورا بمجرد لجوئها الى استخدام القوه بكافة اشكالها، ومن حق الدوله استخدام القوه ضد قوى التمرد.
2- ان من سموا زورا بالثوار لم يكونوا محتجين عاديين من عامة الشعب لهم مطالب معينه كحالتى مصر وتونس، بل هم انساس مدربون جيدا ولديهم معلومات كافيه وجهه توجههم وتقودهم، كما انهم لا يمكن ان يكونوا من الجيش الليبي، والا فكان الاسهل لهم ولقيادتهم قيادة التمرد باسم الجيش نفسه وهذا يمنحهم شرعية كبيره ويجعل الشعب يلتف حولهم، وهنا يظل احتمال كونهم من تنظيم القاعدة او من جماعات اخرى كما تقول الجهات الليبية الرسمية احتمال كبير وله ما يبرره، وبالذات بعد انتشار عناصر هذا التنظيم في منطقة الصحراء الكبرى وقيامهم بعمليات اختطاف اجانب ومواجهات مع جيوش حكومية في تلك المنطقة، على مدى الشهور الماضية.
3- -هناك غياب للادلة القاطعه على طبيعه ما يحدث تجعلنا نشك في كل ما يذاع على الفضائيات ويجعلنا نستذكر اكاذيب امريكا والغرب لتبرير غزو العراق وتدميره. فاذا كانت امريكا حتى اللحظه لم تستطع اثبات استخدام الطائرات ضد المدنيين، فلماذا تم اتخاذ اجراءات ضد ليبيا في مجلس الامن والمحكمه الجنائية وتجميد اموال بناء على تقارير واخبار غير مؤكده.
4- يضاف الى ما تقدم هو غياب التغطية الاعلامية الموضوعية لما يحدث، حيث ان مصادر المعلومات اصبحت قاصره على ما ثبته قناتي الجزيره والعربية والقنوات الاجنبية، بما فيها من تحيز وانتقائية، وغياب الوجه الاخر من الصوره. فالروايه الرسمية مغيبه، كما ان اعتماد الاثاره ونشر اخبار وصور بدون توثيق او معرفه مصدرها اصبح طابع عام لهذه القنوات.
5- في الوقت الذى تقوم فيه الجزيره والعربية بالتركيز على الحدث الليبي يتم التغاضي واهمال احداث اخرى في المنطقة مثل البحرين وعمان والاردن والعراق، وهذا يكشف ازدواجية في التعامل مع الاحداث، ويجعلنا نشك بالاهداف التى تسعى اليها هذه القنوات، وارتباطها باجندات خارجية لا تمت بصله لما يقال عن نشر الديمقراطية والحرية، ومحاربة الفساد، بل لن نكون مبالغين لو ايدنا ما قاله الرئيس اليمنى على عبدالله صالح بان هذه الثورات تدار من غرفه في تل ابيب ووواشنطن، والا كيف يمكن تفسير ترحيب اوباما واسرائيل بما يدور.
6- سيكون لما يحدث في ليبيا انعكاسات خطيره على مستقبل التغيير في المنطقة، فبعد ان كسرت الشعوب حاجز الخوف من الانظمه الحاكمه، جاءت احداث ليبيا لتعطي مثلا سيئا ومرعباً، لمستقبل التغيير، بسبب حجم الدمار والفوضى وخطر الحرب الاهلية، والتدخل الاجنبي، وهذا سيجعل الشعوب تفكر الف مره وتخاف من مصير مشابه لثوراتها ومطالبها العادله، وستعطى للانظمه مبرر للبطش بايه مطالب للتغيير.
وفي النهاية لا يسعنى الا ان اكرر ما قاله الدكتور سيار الجميل من ان الثورة الحقيقية تصنعها الشعوب ولا يخرجها خبراء في استويوهات أفلام إعلامية ، ولا في دوائر مؤامرات خارجية .. ولا ينجزها محتل غاشم يفرض أجندته على أي شعب من الشعوب .. ولا تمثلها جوقة من الضباط الذين يسمنون انفسهم بـ ” الاحرار ” ليقوموا بانقلاب عسكري دموي او صوري ، ولا تتبنى أكذوبتها شلة حزبية قوامها أولاد شوارع من المتسكعين الفاشلين ، ولا يتبجح بها معارضون ساقطون تنقلوا على كل الموائد ، وقد نصبّهم المحتل على حكم البلاد والعباد .. ولكم في تجربة العراق وافغانستان عبره يا اولي الالباب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق