الجمعة، 18 يوليو 2008

تطور الوسائل السلمية في القانون الدولي المعاصر

تطور الوسائل السلمية في القانون الدولي المعاصر




يوسف العاصي الطويل

مقدمه
بالرغم من ان التاريخ يعطينا صوره قاتمه عن الصراعات والحروب التى خاضها الانسان ضد اخيه الانسان، الا ان ذلك لا يعنى ان الحرب كانت الوسيله الوحيدة لفض المنازعات بين الدول والشعوب، حيث عرفت الانسانية عبر تاريخها الطويل وسائل عديدة لتسوية المنازعات بالطرق السلمية، حيث تجلى ذلك في حضارات الشرق القديمه مصر والعراق، وجددت العديد من الوسائل التى سعت من خلالها الى تفادي الحرب وتسوية الخلافات عن طريق المفاوضات وعقد الاتفاقيات.
كما عرفت كلا من الحضارة اليونانية والرومانية هذه الوسائل ولكن ذلك كان في اطار العلاقات بين الداخلية، ولم يمتد اثرها لعلاقاتها مع الشعوب والحضارات الاخرى بسبب نظره عنصرية قصرت مفهوم المواطنه فقط على اليونانيين والرومان، ولهذا كانت علاقاتها الخارجية تقوم على اساس مبدأ الحرب لحل النزاعات. ولكن ونتيجه لظهور الديانه المسيحية فقد حدث تغيير طفيف في هذه العلاقات وظهرت فكرة الحرب العادلة لدى الشعوب المسيحية، حيث كان ظهور الاسلام بقوه على الساحة الدولية بمبادئه السمحه وانتشاره الكبير بسرعه في ترسيخ مبادئ جديده في العلاقات الدولية وقوانين الحرب والسلام، وفض المنازعات بالطرق السلمية، حيث انتقلت هذه المبادئ الى اوروبا وسعىالمفكرون الاوربيون الى وضع اسس جديده لتفادى الحروب المستمره التى شهدتها اوروبا في العصور الوسطى بسبب الصرعات المستمره، والتى شهدت زياده ملحوظه مع عصر النهضه وحركة الاصلاح الدينى التى افرزت حروب دينية طاحنه بين الشعوب الاوربية والتى استمرت 30 عاما، حيث انتهت بتوقيع اتفاقية واستفاليا عام 1647 والتى اسست لظهور ما يسمى التنظيم الدولى، حيث سعت الدول المنتصره فرض النظام في اوروبا من خلال التحالفات والمعاهدت والمؤتمرات والتى كان اهمها مؤتمر لاهاى الذى وضع الاساس القانوني لوسائل فض المنازعات بالطرق السلمية، حيث كانت القواعد التى ارساها هذا المؤتمر اساس للقواعد التى نادت بها عصبة الامم ثم الامم المتحدة ومعظم المنظات الدولية والاقليمية.
وفي معالجتنا لتطور الوسائل السلمية لفض المنازعات في القانون الدولى قسمنا الدراساة الى خمسة فصول تناولنا في الفصل الاول تاريخ تطور الوسائل السلمية منذ العصور القديمة وحتى الان، اما الفصل الثاني فعالجنا فية الصراع الدولى ووسائل ادارة الازمات المختلفه، اما في الفصل الثالث فخصصناه للوسائل السلمية لفض المنازعات في القانون الدولي المعاصر من دبلوماسية وسياسية وقضائية وزجرية وتحدثنا بالتفصيل عن المفاوضه والوساطه والمساعى الحمية والتوفيق والتحقيق والتحكيم.
اما الفصل الرابع فخصصناه للحديث عن دور المنظمات الدولية فى حل النزاعات بالطرق السلمية وتحدثنا بالتفصيل عن هيئة الامم المتحدة وبالذات مجلس الامن والجمعية العامة ودورهما في حل النزاعات بالطرق السلمية. اما الفصل الخامس والاخير فتكلمنا عن دور المنظمات الاقليمية في حل النزاعات واخترنا جامعة الدول العربية كمثال على ذلك.
وفي النهاية ومن خلال عرضنا للوسئل السلمية وتطورها عير التاريخ وحتى عصرنا الحاضر يمكن القول ان هذه الوسائل شهدت تطورا كبيرا، ولكن في نفس الوقت شهدت فيه الحروب وادواتها تطور اكبر، بل انه اصبح لاول مره بامكان دوله معينه من الدول النووية ان تضع حدا للحياة البشرية على كوكب الارض نتيجه لحدوث صراع معين او بسبب وجود زعيم ديكتاتوري مجنون او بسبب خلل بشرى يمكن ان يقع في ايه لحظه.
من هذا الواقع المخيف فانه مطلوب من المجتمع الدولى وعقلاء هذا العالم ان يبدلوا جهود كبيره لتلافي مثل هذا اليوم الذي يمكن ان يقع في ايه لحظه، وبالتالى فانه لم يعد المهم تطبيق هذه الوسائل بل لا بد من ابتكار وسائل جديده تتماشى مع حجم التحديات التى تواجهها الانسانية.


الفصل الاول
تطور الوسائل السلمية عبر التاريخ
لم تكن الحرب، وليست الان، الطريقة الوحيدة لمعالجة النزاعات بين الدول، فقد عرفت الانسانية وسائل يمكن ان نعدها سلمية منذ اعماق التاريخ حتى اليوم، وقد اعطت ثمارا لا سيما عندما كانت النوايا حسنة. وقد تمسك واضعو ميثاق الامم المتحدة بهذه الوسائل السلمية.
العصور القديمة : ان الاتصال بين الشعوب القديمة لم يكن قاصرا على ميدان القتال والغزو، بل كانت هناك بين الكثير منها علاقات سلمية ويحتوى التاريخ اكثر من دليل على قيام علاقات دولية في العصور القديمة وعلى وجود بعض قواعد كانت تخضع لها هذه العلاقات. وقد سجل المؤرخون بعض امثلة لمعاهدات تحالف وصداقة عقدت وقتئد، كما سجلوا الكثير من معاهدات الصلح التى انهت الحروب العديدة التى كانت تلك العصور مسرحاً لها. فهناك معاهدة تحالف ابرمت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد بين رمسيس الثاني فرعون مصر وخاتيسار امير الحيتيين، ومعاهدة صداقة وعدم اعتداء بين بعض بلدان الشرق القديمة .
وتفيد بعض الآثار التى عثر عليها حديثا في منطقة الكلدة ان هذه الشعوب كانت تلجأ الى الوساطة والتحكيم كوسيلة لحسم المنازعات بينها سلمياً. وبالرغم من كل ذلك الا ان العلاقات الدولية في العصور القديمة كانت ضيقة ومحدودة ولا تتعدى الشعوب المتجاورة، ولم تكن مستقرة منظمة بحيث يمكن اتباع تطورها
عصر الاغريق : تميزت العلاقات في زمن الاغريق (اليونان) بصورتين هما: العلاقات القائمة بين المدن اليونانية نفسها، والعلاقات بين اليونان والشعوب الاخرى، فقد كانت بلاد اليونان تتشكل من مدن - دول، وكل منها تتمتع باستقلالها، وهذا ما ادى الى قيام بعض القواعد التي تنظم علاقات هذه المدن زمني الحرب والسلم، كاعلان الحرب قبل بدئها وتبادل الأسرى وحرمة اللجوء الى اماكن العبادة. اما علاقة اليونانيين بالشعوب الاخرى فكانت تقوم على العداء وحب السيطرة انطلاقاً من نظرة الاستعلاء، والاعتقاد بتفوق حضارتهم على بقية الشعوب، فانطلقوا للسيطرة على العالم في زمن الاسكندر الكبير وفرضوا قانونهم الخاص على هذه الشعوب.
الامبراطورية الرومانية
كانت روما في نشأتها_ كما اليونان- دولة مدينة ولكنها كانت مهددة تهديداً مستمراً بغزو الدول المجاورة، فلم تجد بداً من انتهاج سياسة القوة ودأبت على الغزو والفتح . وهنا لا يختلف الرومان عن الاغريق في نظرتهم الى ماعداهم من الشعوب، فلم تكن لهذه الشعوب اي حقوق قبلهم يتعين عليهم احترامها، وكانت صلاتهم بها في الغالب صلات عدائية وسلسة من الحروب اوحت بها سياسة روما العليا للسيطرة على العالم. وبالرغم من ذلك كانت لروما بعض عادات مرعية خاصة بالحرب غير انها لا تعدو مجرد اجراءات شكلية تهدف اسباغ طابعا شرعيا على الحرب. كذلك ابرم الرومان كثير من معاهدات الصلح مع الشعوب المغلوبه، ولكنها كانت ارادة الغالب يمليها على المغلوب ، حيث كان من دأب السياسية الرومانية العمل على سحق كل شعور قومي مشترك في منبته، اخذاً بمبدأ "فرق تس"، ولم تسمح بنشوء قوميات محلية لانها لم تكن تستطيع اعطائها نصيباً في الحكم الا اذا اخذت بالتمثيل النيابي، وهذا ما ترفضه .
الاسلام
جاء الاسلام والعرب تسودهم الفوضى وتجري بين قبائلهم حروب شعواء متصلة الحلقات ولاتفه الامور، فتضطرم الحروب ويعم الخراب والدمار شبه الجزيرة. ولم يكن هذا هو الحال في شبه الجزيرة القريبة وحدها بل كان هو الشأن في الدول المحيطة بها في بلاد الفرس والروم وغيرها. فجاء الاسلام مؤكداً مبادئ الاخاء والمساواة على نحو فريد لم يشهده العالم من قبل، وقرر الاخوة التى لا تأبه لفروق الجنس او اللون او اللغة او الثروة، وكان تقرير المساواة من حيث المبدأ ومن حيث التطبيق هو الذي أذن للاسلام بالانتشار على مستوى عالمي بسرعة مذهلة، وجعل الناس في مختلف الشعوب تقدم عليه في طواعية واختيار، ونجح الاسلام في تأليف اجناس بشرية مختلفة في جبهة اسلامية واحدة اساسها المساواة . ومن هنا اختلف الفتح العربي تماماً عن الفتوحات الرومانية والمغلولية التى لم تهتم بانشاء حضارات راقية ثابته دائمة. بل ان المغول خربوا ودمروا كل الحضارات القائمة. بينما كان الفتح العربي يحمل رسالة حضارية، تدعو الى الرخاء والسلام في الاسرة البشرية .
ولما كان نشر الدعوة الاسلامية هو "الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم وهو الذي يحدد المكانة الحقيقية للسلم في نطاق هذه العلاقات، فإنه ينبني على ذلك حقيقة أساسية مفادها أن الأدوات التي يمكن للدولة الإسلامية أن تستعين بها في إدارة وتنظيم علاقتها مع الدول والجماعات غير الإسلامية في وقت السلم تتعدد وتتنوع لتشمل: التفاوض والتعاهد (إبرام العاهدات لتنظيم مسائل معينة مع الغير)، والتبادل الاقتصادي والتجاري، وتبادل الرسل والسفارات إلي غير ذلك من الوسائل والأدوات التي يستعان بها عموما لتصريف الشئون الخارجية وقت السلم
وقد مارس الرسول (ص) والخلفاء الراشدين كافة الادوات والوسائل السلمية مع خصومهم كالمفاوضة، والتحكيم، ولمح الى قبوله المصالحة. فقد كان الرسول(ص) يامر قادته الا يباشروا حربا قبل طرح تخيير الخصم بين قبول شروط معينة وبين ‏الحرب . اما التحكيم فقد اشتهرت قضية التحكيم التي قام بها ابو موسى الاشعري، بين سيدنا على ومعاوية، اما المصالحة فقد جاءت الدعوة اليها بنص القرآن الكريم (وان طائفتان من‏المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فان بغت احداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفي الى امر اللّه فان فاءت‏فاصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا ان اللّه يحب المقسطين).
العصور الوسطى
تمتد هذه الحقبة من سقوط الامبراطورية الرومانية عام 476م وحتى معاهدة وستفاليا عام 1648، وفيها استمرت حياة الامم الاوربية تدور في حلقة مفرغة من الحروب، وظلت فكرة الحق للأقوى تسيطر على علاقات الدول ببعضها. ولكن كان لانتشار المسيحية ودعوتها الى التآخي والمساواة بين الشعوب والأفراد ونبذ الحروب دور في بروز فكرة الحرب العادلة التي كانت ترمي الى تقييد اللجوء الى الحرب، وتلطيف عملياتها، فلم تعد مباحة الا عند الضرورة ولسبب عادل، وبعد استنفار الوسائل السلمية لرفع الظلم. كذلك تمّ وضع نظامين مهمين هما "السلام الالهي" ويقضي بحياد الأماكن المقدسة، ورجال الدين، والاطفال، والعجزة، و"الهدنة الالهية" التي تمنع الحرب في أيام محددة من الاسبوع كالسبت والاثنين وأيام الأعياد. وبهذا كان لانتشار المسيحية تأثير في التوفيق بين دول اوروبا وقيام أسرة دولية مسيحية تخضع لسلطة البابا، وقد ساعد على توطيد هذه الفكرة ظهور الاسلام وتهديده بانتزاع السيادة على العالم من المسيحية.
فقد أدى انتشار الاسلام ووصوله الى جنوبي فرنسا الى تكاتف الامم الاوروبية تحت لواء البابا الروحي لدفع هذا الخطر، حيث اصطدمت الكتلتان في حروب متعددة ادت الى انقسام العالم الى قسمين، ولكن ذلك لم يمنع الطرفين من اكتشاف كل منهما للآخر، واكتشاف المبادئ الانسانية التي تقوم عليها كل من الديانتين، كما دلت الحروب بينهما على المبادئ التي تحكم هذه الحروب وروح التسامح والعدالة الاسلامية، ومعاملة الاسرى، والأطفال، والنساء، والعجزة،، واللجوء الى السلم، وعدم شنّ الحرب إلا دفاعاً عن النفس، وعن ديار المسلمين .
العصر الحديث: ادى انهيار الامبراطورية الرومانية الغربية الى انهيار جهازها السياسي، واستحالة قيام الوحدة في اوروبا مره اخرى، حيث ساد النظام الاقطاعي. ولما قامت حرب المائة عام بين فرنسا وانجلترا (1337-1453) ازدادت اواصر القومية بين رعايا هاتين الدولتين وازداد شعور كل شعب بكيانه القومي . ثم تلا ذلك عصر النهضة الذى كان من نتائجه سعي الدول الى تدعيم سيادتها عن طريق خلق سلطة مركزية قوية باى ثمن، كما جاء في كتاب الامير لميكافيلي الذى قرر فيه ان السياسة يجب ان لا تقيد نشاطها بأية اعتبارات خلقية حتى لا يؤدي هذا التقيد الى عرقلة اهداف الدولة . وجاءت حركة الاصلاح الديني في مستهل القرن السادس عشر لتعزز الملكية المطلقة، ولتقضي على ما تبقى من سلطة الكنيسة الكاثوليكية في روما، مما ادى الى زيادة التجزئة وبروز الدول القومية نتيجة للحروب الدينية التى قسمت اوروبا الى دول مذهبية (كاثوليكية وبروتستانتية وارثوذكسية)، وهذا ادى الى مزيد من الحروب، و تصادم الفرقاء في حرب ضروس عمت كل اوروبا، استمرت ثلاثين عاماً، وعرفت بحرب "الثلاثين سنة" وانتهت بمعاهدة "وستفاليا" عام 1648، والتي شكلت اتجاهاً جديداً في العلاقات الدولية، وتأطيراً لنظرية الامن الجماعي الاوروبي، والتي استقت مبادئها من وحي الأديان وكتابات المفكرين، والفلاسفة الذين تأثروا بفلسفة اليونان المثالية خصوصاً افلاطون في كتاب "الجمهورية"، وتوماس مور في كتابه "اليوتوبيا" وغيرهما .
ظهور التنظيم الدولي:
كانت العلاقات في المجتمعات القديمة تقوم على أساس القوة لاستثمار الموارد، ولذلك كانت الحرب هي الوسيلة الأساسية أن لم تكن الوحيدة لحل المشاكل التي تواجهها المجتمعات وان الفصل للقوة والكلمة للمنتصر. وبذلك لايمكن تصور وجود تنظيم دولي او منظمات دولية تقوم بدورها بالرغم من عدم نفي وجود علاقات بين تلك المجتمعات فالحرب بذاتها هي نوع من أنواع العلاقات الدولية ألا أنها الصورة السلبية لها.
وامام التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وبضغط الحاجة للأمن والسلام والاستقرار والتقدم ولاسباب أخرى بدأت الدعوات تتصاعد ومنذ القرن الرابع عشر لايجاد منظمات دولية تتسم بصفة الثبات والاستقرار لتنظيم العلاقات بين الدول، وطرحت المشاريع لذلك منها المشروع الذي طرحه المشرع الفرنسي (بيير دي بوا) سنة 1305 م ومشروع الوزير الفرنسي (سلي) 1603 م لانشاء جمهورية مسيحية كبرى تضم جميع شعوب أوروبا، ثم مشروع الأب (سان بيير) 1713 م المقدم الى مؤتمر (أوترخت) لانشاء عصبة أمم أوربية.
معاهدة وستفاليا 1648
لم يبدأ اهتمام الدول بتنظيم علاقاتها على اساس من القواعد القانونية الثابتة الا منذ ثلاثة قرون، اي في اواسط القرن السابع عشر على اثر الحروب والمنازعات الاوربية التى انتهت بابرا معاهدة وستفاليا 1648م. وتعتبر هذه المعاهدة فاتحة عهد جديد للعلاقات الدولية ، حيث وضعت هذه المعاهدة القواعد والأسس لقيام الامن الجماعي واتخذت العلاقات الدولية بعدها اتجاه التعاون والمشاركة بدلاً من السيطرة والاخضاع، وأهم ما اوجدته المعاهدة ما يأتي:
• اجتماع الدول لأول مرة للتشاور وحلّ مشاكلها على اساس المصلحة المشتركة.
• اقرار المساواة بين الدول المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية، والغاء سلطة البابا الدنيوية.
• ارساء العلاقات بين الدول على أساس ثابت بإقامة سفارات دائمة لديها.
• اعتمدت فكرة التوازن الدولي كأساس للحفاظ على السلم وردع المعتدي.
• التأسيس لفكرة تدوين القواعد القانونية والزاميتها .
وهكذا كانت هذه المعاهدة قمة التطورالسياسي والقانوني في ذلك الوقت حيث انها لم تتضمن فقط مبدأ الحرية الدينية ومساواة البروتستنت بالكاثوليك في الاجتماعات الدولية، بل تضمنت مبدأ أنشاء سفارات دائمة، وهذا يعبر عن حقيقة اساسية هي تضامن المصالح والتعاون الدولي من اجل هذه المصالح ورعايتها. غير ان مبدأ انشاء سفارات دائمة لم يكن عاما اذ كان الهدف من تقريره هو تطبيقه بين الدول الاوربية المسيحية وحدها. ومن هنا نلاحظ الصفة الجزئية أي غير الشاملة لهذه الدبلوماسية. والواقع ان تفسير ذلك يرجع الى الفكرة التي سادت العالم المسيحي في ذلك الوقت والتي كانت ترى ان الجماعة الدولية قاصرة على الدول المسيحية وحدها.
مؤتمرات وأنظمة دولية
ادى تعاظم قوة بعض دول اوروبا كفرنسا الى الاخلال بهذه المعاهدة فتكاتفت الدول الاوروبية، وتجمعت في حرب ضدها في عهد لويس الرابع عشر، انتهت بعقد معاهدة "أوترخت" عام 1713، والتي اكدت على مبادئ معاهدة "وستفاليا" بعد اعادة تنظيم اوروبا. وفي عام 1776 م تم اعلان استقلال الثلاثة عشر مستعمرة انجليزية في أمريكا الشمالية، وترتب على هذا الاعلان ظهور فكرة رضا الشعوب عن حكامها التى تضمنها الدستور الامريكي، ثم جاء اعلان حقوق الانسان والمواطن الصادر عن الثورة الفرنسية الذي تضمن مبدأ الديمقراطية في الحكم الداخلي ومبدأ حق الشعوب في اختيار حكوماتها. وفي نفس الفتره صدر تصريح عن الجمعية الوطنية الفرنسية في 19 نوفمبر 1792 ورد فيه مساعدة فرنسا لكل الشعوب التي تريد التحرر. وكان من شأن كل هذا بدأ انتشار الحروب في اوروبا في ذلك الوقت بسبب الحروب النابليونية التى عملت على الاخلال بميزان القوى في القارة. ولذلك تكتلت الدول الاوربية ضد فرنسا وتمكنت في النهـاية من هزيمة نابليون بونابورت 1814 م.
مؤتمر فيينا 1815: كان همّ اعضاء المؤتمر اعادة التوازن الدولي في اوروبا على اساس إرجاع الملوك، الذين قضى بونابرت على سلطانهم، الى عروشهم، حيث عكس مؤتمر فيينا إرادة الدول المنتصرة في الحرب ضد نابليون (وهي إنكلترا والنمسا وبروسيا وروسيا) من دون الالتفات الى رغبات الشعوب ورأيها، والتي أثرت فيها مبادئ الثورة الفرنسية وأفكارها، ولذلك عقدت هذه الدول في ما بينها "التحالف المقدس" لقمع أي ثورة تهدد البيوت المالكة. وفي عام 1818 عقدت معاهدة "إكس لاشابل" بين الدول المذكورة بعد انضمام ملك فرنسا (لويس 18)، فيما نصبت هذه الدول نفسها قيمة على السياسة الأوروبية وأخذت حق التدخل في جميع المنازعات الأوروبية والدفاع عن نظام الملكيّة في كل مكان تراه مهدداً.
وقد امتد نشاط هذه الدول الاربعة خارج اوربا حيث قامت بتفتيت وتحطيم الدولة التركية خلال الفترة 1825 _ 1918، حيث تم دعوة تركيا لمؤتمر باريس 1856 م وهو اول مؤتمر دولي يسمح لتركيا بحضوره، حيث اتفقت هذه الدول على مساندة اليونانيين والصرب ورومانيا وغيرها من الدول ضد تركيا، وتعددت المؤتمرات في باريس وبرلين وكان اخرها مؤتمر لندن 1912-1913 بعد الحرب البلقانية الثانية.
وعندما حاولت الدول الاوروبية التدخل في الأراضي الأميركية لصالح اسبانيا اطلق الرئيس الاميركي جيمس مونرو تصريحاً شهيراً في عام 1823 يرفض فيه اي تدخل للدول الاوروبية في شؤون القارة الاميركية او احتلال اي جزء من أرضها، وبذلك وضع حداً لتدخل اوروبا في القارة الاميركية، واسس لنمط جديد للولايات المتحدة في علاقاتها الدولية مع أوروبا والعالم في ما بعد .
المؤتمر الأوروبي والنظام الدولي: شكل مؤتمر فيينا أساساً لتشكيل الجماعة الدولية الحديثة، فبدأ يتسع مع اتساع الحركة الدولية والثورة الصناعية وحركات الاستعمار، واستقلال الدول، وظهور القوميات، وبدأ يشمل دولاً غير مسيحية، نظراً لاتساع دائرة المشاكل وضرورة حلها، فكان يعقد مؤتمر في كل مناسبة ترى الدول الكبرى، او احداها ضرورة لذلك، او مصلحة لها في عقده، وهكذا سيطرت هذه الدول على السياسة الدولية وفرضت وجهة نظرها في النصف الشرقي من الكرة الأرضية، وبذلك سمي هذا النظام الدولي الذي كان يشرف على العالم بنظام "المؤتمر الأوروبي"، والذي تميّز بسياسة عقد المؤتمرات لحلّ المشاكل التي واجهت العالم خلال القرن التاسع عشر، واستمر حتى الحرب العالمية الاولى، وقد استطاع ان يؤسس للكثير من المعاهدات والقوانين التي ما زالت في الكثير منها قائمة حتى اليوم، كاتفاقيات جنيف 1864 الخاصة بمعاملة جرحى الحرب واتفاقيات لاهاي 1899 و1907 الخاصة بقواعد الحرب والحياد، وتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، وكذلك محكمة التحكيم الدولي الدائمة في لاهاي.
مؤتمر لاهاى وفض المنازعات بالطرق السلمية
لاشك ان مؤتمري لاهاي يمثلان اهمية خاصة بالنسبة للتنظيم الدولي واللذان عقدا 1899-1907 واسفرا عن اتفاقيات دولية تحمل اسم هذا المؤتمر كان لها اعظم واخطر النتائج والاثار في تطور القانون الدولي حيث اقرت لاول مرة في العلاقات الدولية نضاما لفض المنازعات الدولية بالطرق السلمية أنشأت لاول مرة كذلك هيئة قضائية دولية هي محكمة التحكيم الدولي الدائمة في لاهاي كمـا انضمت ودونت قواعد الحرب والسلم الدولي. وبالاضافة الى ذلك عرفت العلاقات الدولية تنظيمات من نوع اخر تلك هي التنظيمات الادارية والاقتصادية الدولية مثل اتحادات البريد والتلغراف والسكك الحديدية .
عصبة الأمم المتحدة: لم يستطع المؤتمر الاوروبي بالرغم من كل هذه المؤتمرات في المضي قدما في تحقيق ماكانت تعقد عليه الانسانية من امال في اقرار الامن والاستقرار والتقدم وسيادة حكم القانون في المحيط الدولي. فقد ادى التنافس الاقتصادي، ونمو الشعور القومي، والرغبة في السيطرة لدى الدول الأوروبية الكبرى الى الحرب العالمية الأولى 1914، والتي استمرت اربع سنوات رأت فيها البشرية الويلات، والكوارث، وقد دفعها ذلك مع نهاية الحرب مطلع عام 1919، وخلال عقد مؤتمر فرساي في باريس الى خلق تنظيم دولي جديد عرف باسم "عصبة الأمم" لمنع الحرب وفض المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، وهذه الفكرة كانت تخالج نفوس الكثير من السياسيين والمفكرين منذ زمن بعيد، وهي ايجاد هيئة دولية عليا ودائمة تتولى النظر في علاقات الدول وتعمل على توطيدها، وتكون اداة لحفظ السلام العام وحلّ المنازعات بالطرق السلمية وعبر المفاوضات، والعمل على تخفيض التسلح.
منظمة الأمم المتحدة: ايضاً لم تثمر الجهود التي بذلتها العصبة لصيانة السلم الدولي، ولم تستطع المواثيق والمعاهدات التي ابرمت تحت جناحها، منع وقوع الصدام بين الدول وقيام الكثير من الحروب المحلية، كما عجزت عن منع، او ايقاف الكارثة الكبرى التي تمثلت في اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، والتى كانت شاملة، أصابت بنتائجها دول العالم المحاربة، وغير المحاربة، وقد استمرت ست سنوات، وكادت تقضي على النظام العالمي كله، ولما انتهت الحرب، تداعى زعماء الدول المنتصرة الى مؤتمر عقد في سان فرنسيسكو في الولايات المتحدة عام 1945 ووضعوا ميثاقاً جديداً للعلاقات بين الدول وتحريم اللجوء الى الحرب الا دفاعاً عن النفس، وتسوية النزاعات بالطرق السلمية، وفرض الجزاء والعقوبات على المخالفين، واوكلت هذه المهمة الى هيئة دولية دعيت "منظمة الأمم المتحدة" تستند على ميثاق مكتوب يتضمن كافة الأمور الاجرائية والادارية الضرورية للقيام بدورها على اكمل وجه .
وهكذا تحققت على ارض الواقع لأول مرة تلك الفكرة المثالية في تأمين الأمن الجماعي من خلال هيئة دولية قادرة على فرضه عبر مجموعة من القواعد الملزمة، والتي وافقت الدول المؤسسة على احترامها والالتزام بها، وتشجيع كافة الدول الأخرى على الانضمام الى هذه المنظمة الدولية الجديدة، حيث جاهدت المنظمة الدولية، كي تبقى وفية لميثاقها، ملتزمة بالقوانين التي سنت لحماية الامن الدولي، ونشر العدالة بين البشر، من خلال الأجهزة والفروع التابعة لها، ولكن الواقع الدولي، وصراع القوى الكبرى، ولعبة التوازن، والمصالح الخاصة بهذه القوى، أثر مباشرة على دور المنظمة وفعاليتها، وربما هذا ما يدفع كثير من الدول الى المطالبه باصلاح المنظمة الدولية من جديد لتكون معبره عن مصالح وتطلعات اعضائها والانسانية جمعاء في صيانة الامن والسلم الدوليين وليس من اجل تحقيق مصالح الدول الكبرى فقط والذي يمكن ان يؤدي الى كارثه جديده تحل بالعالم اذا استمر الوضع كما هو عليه الآن.

الفصل الثاني
الصراع الدولي ووسائل ادارة الازمات
تنفرد ظاهرة الصراع الدولي عن غيرها من ظواهر العلاقات الدولية بأنها ظاهرة ديناميكية متناهية التعقيد، ويرجع ذلك إلى تعدد أبعادها ، وتداخل مسبباتها ومصادرها، وتشابك تفاعلاتها وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة ، وتفاوت المستويات التي تحدث عندها وذلك من حيث المدى أو الكثافة والعنف . إضافة إلى ذلك الاختلاف الجذري أحيانا في طبيعة استراتيجيات إدارة الصراع الدولي التي تنتهجها الأطراف في هذ العمليات التصارعية المستمرة ، سواء ما تعلق من ذلك بالأهداف والأساليب والوسائل، وكل ذلك ادى الى صعوبة وضع نظرية عامة للصراع الدولي تستطيع أن تؤصل دوافعه وأسبابه وكذا سبل مجابهته واحتوائه في إطار من الشمول والتكامل المنطقي . بيد أن ذلك يجب ألا يقلل من المجهودات الأكاديمية الهائلة التي بذلت من أجل تهيئة الأساس العلمي لمثل هذه النظرية الصراعية المتكاملة والتي تبلورت في بعدين أساسيين:
1- المداخل والمنطلقات النظرية الرئيسة المستخدمة في تفسير الصراع الدولي وذلك من حيث تقرير أسبابها ودوافعها والقوى المحركة التي تكمن وراءها.
2- أهم نظريات المجابهة والاحتواء لهذه الظاهرة في كلياتها وذلك من حيث الكيفية التي يمكن للمجتمع الدولي معالجتها من الجذور في نطاق تدابير دولية عامة تستهدف في أساسها التمكين للسلم الدولي في صورة ومستقرة .
إدارة الأزمات الدولية في المجتمع الدولي المعاصر
إن بروز خلافات وصراعات ومواجهات بين الدول تشكل تحديا حقيقيا يواجه أصحاب القرار، نظرا لتضارب المصالح في المجتمع الدولي. وتأتي إدارة الأزمات كوسيلة لدرء وتلافي المواجهات العسكرية الوخيمة العواقب، وهي تقنية قديمة اعتمدت على سبل تقليدية كالمفاوضات تم تطويرها في العقود الأخيرة لتعتمد طرقا فنية وتقنيات عالية الدقة والفعالية، والغاية من إدارة الأزمات هو تجنب حدوث مواجهة عسكرية قد لا يتوقعها أطراف النزاع عند بداية الأزمة. وتقنية إدارة الأزمات لها قواعدها وضوابطها وهي في هذا الجانب علم، ولكن تطبيق هذه القواعد بما يتواءم والظروف الضاغطة والمتقلبة والمواقف المفاجئة والمتسارعة التي يفرضها الأطراف يتوقف على قدرة خلاقة لصاحب القرار أو مدير الأزمة، ولذلك فهي من هذه الناحية فن يتعلق بموهبة القيادة التي لا يمكن أن تكتسب بالمعرفة أبدا وإن كانت المعرفة تصقلها وتهذبها وتعمقها
مفهوم الأزمة
يهدف أسلوب إدارة الأزمات الدولية أساسا إلى منع تفاقم المشاكل الدولية والحؤول دون تطورها إلى مواجهة عسكرية مباشرة, عبر وسائل متنوعة, وبذلك يقترب من تسويـة المنازعات بل يكاد يتمـاهى معـه أحيانا، ولهذا سنحاول تسليط الضوء على هذا الأسلوب من خلال التطرق بداية لمفهوم إدارة الأزمات قبل الانتقال إلى تحديد الوسائل الدوليـة لإدارة هذه الأزمات .
إن مصطلح الأزمة هو مصطلح قديم, تداوله الفكر اليوناني الذي كان يقصد به نقطة تحول في الأمراض الخطيرة والقاتلة التي تؤدي إلى الموت المحقق أو الشفاء التام، كما استخدم في الصين في شكل كلمتين (wet- ji ) أولا هما تعبر عن الخطر والثانية عن الفرصة , أما دلالتها على المستوى الدولي فهناك من يعرفها بأنها "فعل أو رد فعل إنساني يهدف إلى توقف أو انقطاع نشاط من الأنشطة أو زعزعة استقرار وضع من الأوضاع بهدف إحداث تغيير في هذا النشاط أو الوضع لصالح مدبره" . ويعرفها آخر بانها: "مرحلة الذروة في توتر العلاقات في بيئة استراتيجية وطنية أو إقليمية أو دولية, بحيث يصبح أطراف تلك العلاقات قاب قوسين أو أدنى من الحرب" .
ومن هنا فأن "الأزمة هي مرحلة متقدمة من مراحل الصراع، والصراع في أي مظهر من مظاهره وعلى أي نطاق من نطاقاته، بدءا من داخل النفس البشرية وانتهاء بالصراعات الدولية" وهذا يعني بأن أشكال الصراع مختلفة الأسباب والدوافع، ويمكن تعريفه بكونه: "ذلك التفاعل الناجم عن المواجهة والصدام بين المصالح والمعتقدات والبرامج وغير ذلك من الكيانـات المتنازعة "
ولما كان الصراع في صميمه هو تنازع الارادات الوطنية الناتجه عن الاختلاف في دوافع الدول في تصوراتها واهدافها وتطلعاتها ومواردها وامكانياتها .. الخ مما يؤدي الى اتخاذ سياسات خارجية تختلف اكثر مما تتفق، ولكن برغم ذلك يظل الصراع بكل توثراته وضغوطه دون نقطة الحرب المسلحة. وهذا يعنى ان الصراع يمكن ان تتنوع مظاهره واشكاله، فقد يكون صراعا سياسيا او اقتصاديا او مذهبيا او حضاريا، كما ان ادواته يمكن ان تتدرج من الضغط والحصار والاحتواء والتهديد والعقاب والتفاوض والمساومة والاغراء والتنازل والتحالف والتحريض والتخريب والتآمر .. الخ، اما الحرب فإنها لا يمكن ان تتم الا على صورة واحدة وباسلوب واحد هو التصادم الفعلى بوسيلة العنف المسلح حسما لتناقضات جذرية لم يعد يجدى معها الاساليب اللينه، ومن هنا فإن الحرب المسلحة تمثل نقطة النهاية في تطور بعض الصراعات الدولية .وبذلك تختلف الأزمة عن الحرب التي تعرف بتلك المواجهة العسكرية التي تتم لفترة طويلة أو قصيرة باستخدام قوات مسلحة وتسفر عن ضحايا.
وعموما يمكن استخلاص مجموعة من الخصائص التي تميز الأزمة الدولية:
• فهي محطة تحول حاسم غالبا ما يتصف بالفجائية في نسق داخلي أو دولي, يهدد مصالح دولية معينة و يثير نوعا من الذهول والقلق في أوساط الأطراف المعنية بها.
• تتسم بالتعقيد والتشابك في عناصرها وأسبابها وتستقطب اهتماما دوليا كبيرا.
• تتطلب جهدا كبيرا لمواجهتها وذلك لتلافي تطوراتها السلبية التي قد يمتد خطرها للمستقبل.
• وهي نتاج لتراكم مجموعة من التأثيرات السابقة التي لا يتم حسمها .
• تطرح نوعا من الارتباك والشك في الخيارات المطروحة للتعامل معها خصوصا, في ظل غياب معلومـات كـافية حولها.
• قد تخلق حالة من التوتر العالمي خلال فترة زمنية قصيرة, خصوصا في ظل العلاقات الدولية المتشابكة والمعقدة حاليا . .
أما عن الأسباب التي تقف وراء نشوب الأزمات فهي متعددة ويمكن إجمالها في:
• وجود بؤرة خلاف لم تحسم رغم مرور الوقت.
• وجود حالة من تعارض المصالح والأهداف بين الدول.
• تنامي الإشاعات بين الدول
• بروز أزمات مدبرة ومخطط لها بهدف تحقيق أهداف استراتيجية معينة .
• الأخطاء البشرية الناجمة عن سوء الفهم وسوء التقدير أو سوء الإدارة إلى جانب اليأس.
• الميل إلى استعراض القوة من قبل دولة تجاه دولة أخرى قصد ابتزازها وإحراجها.
• خرق الدول للاتفاقيات القائمة بينها.
بقي أن نشير إلى أن لكل أزمة دولية طرفان: الأول هو الذي خرج عن الوضع السلمي الطبيعي القائم مع الطرف أو الأطراف الأخرى ويعرف بمفجر الأزمة, بينما الطرف الثاني فهو الذي تستهدفه الأزمة ويفترض فيه أنه هو الذي يواجهها.
في مفهوم إدارة الأزمات الدولية
إذا كانت الأزمة – كما رأينا- هي حالة يمكن أن توصف بالاقتراب من خروج الأمور عن نطاق التحكم والسيطرة، فإن مواجهتها ينبغي أن تتم بسرعة وبطرق ذكية وإجراءات رشيدة لتفادي تطور المواقف إلى نزاع مسلح مباشر، وهي العملية التي تدخل في إطار ما يسمى بإدارة الأزمات التي يعرفها أحد الباحثين بكونها: "كيفية التعامل والتغلب على الأزمة بالأدوات العلمية المختلفة وتجنب سلبياتها والاستفادة منها مستقبلا . في حين يعرفها باحث آخر بأنها: "قدرة نظام صنع القرارات سواء على المستوى الجماعي أو الفردي للتغـلب على مقومـات الآليـة البيروقراطية الثقـيلة التي تعـجز عن مـواجهة الأحداث والمتغيرات المتلاحقة والمفاجئة... في محاولة لموازنة المجابهات أو المنازعات بقصد الحفاظ على المصالح المشتركة دون اللجوء للحرب .
ولكن تبقى نتائج هذه الإدارة رهينة بكفاءة مدير الأزمة وفعالية استراتيجيته المتبعة في هذا الشأن، حيث إن ظهور الأزمة للوجود يضع الطرف الذي يواجهها أمام هدفين أو مطلبين: الأول، هو حماية المصالح والأوضاع القائمة بأقل تكلفة مادية وبشرية، والثاني هو العمل قدر المستطاع على تجنب الدخول في غمار مواجهة عسكرية مكلفة.
ورغم أن بعض المفكرين متشائمون حيال احتمال تحقق تطور نظري يعزز تقنية إدارة الأزمات في ظل العراقيل البيروقراطية والتنظيمية خلال بروز الأزمة مما قد يؤثر سلبا على اتخاذ القرارات بشكل عقلاني، فإن هذه العملية يمكن أن تستمد نجاعتها وفعاليتها من قوة الطرف الذي يدير الأزمة وتناسق استراتيجيته في هذا الصدد من خلال:
• طرح الهدف ومحاولة السيطرة على الأفعال الصادرة عن الأطراف أو الطرف المعتدي وردود أفعال الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى.
• مرونة القرار السياسي وملاءمته للأهداف البديلة المرسومة.
• توفير البدائل والخيارات، وتجنب العقبات التي قد تبرز.
• ترك هامش للتحركات السياسية تضمن "حفظ ماء الوجه" لدى الخصم .
ومن جهة أخرى يتطلب إنجاح هذه العملية دراسة الأزمة على ضوء عناصرها الموضوعية وأسبابها الحقيقية، وعدم الاكتفاء بإلقاء مسؤولية بروزها على عاتق الخصم، ومحاولة تبرئة الذات من ذلك، لأن نجاح هذه الإدارة لا يتحقق بالدفاع عن الذات وتبرئتها وتحميل عاتق الخصم المسؤولية كاملة، خصوصا وأن ذلك يمكن أن يزيد من تعنت الطرف الآخر ويؤدي بالطبع إلى طريق مسدود .
إن النتائج التي تقود إليها أية أزمة هي الحرب أو التسوية السلمية، وهذه النتائج لا تستند إلى مصادفات بقدر ما ترتكز سلبا أو إيجابا إلى المقومات الشخصية لمدير الأزمة من ناحية وإرادته ومدى كفاءة أو رداءة استراتيجيته المتبعة في إدارة هذه الأزمة
كيفية ممارسة الدول لقوتها القومية والادوات المستخدمة
1- الاقناع : وهو اسهل الاساليب واكثرها فاعلية في ممارسة الدولة لقوتها هذا فضلا عن انه ارخص الوسائل كلها واقلها مخاطره على الاطلاق. وهو من الوسائل المحببة للدول الصغرى حيث لا تملك الكثير من وسائل القوة الاخرى
2- اسلوب الاغراء : وهو تقديم اغراءات للدول الاخرى تختلف في طبيعتها وتتنوع طبقاً للموقف الذي تقدم فيه، فاحياناً تكون اغراءات نفسية او اقتصادية او سياسية
3- اسلوب توقيع العقوبات : وهو اسلوب شائع جدا في المجتمع الدولى ومن امثلتها العقوبات الاقتصادية والسياسية وفرض قيود على الهجرة والنقل والتجارة .. الخ
4- - اسلوب استخدم القوة المسلحة: بالتجاء الدولة الى استخدام اسلوب القوة المسلحة، فانها تكون قد اجتازت الحد الفاصل بين العقوبات غير المبنية على العنف العسكرى الى القوة السافرة
ولكن كيف يمكن للدولة ان تختار بين الاساليب المختلفة حين تضطر الى استعمال قوتها القومية.
كقاعدة عامه فان هذا الاختيار يتحدد في المقام الاول بطبيعة العلاقة القائمة بين الدولتين اللتين تكونان طرفا في النزاع:
1- ففي حالة وجود اتفاق تام بين الدولتين، فانه من البديهي والطبيعي الا يكون هناك مجال لاستخدام القوة المسلحة على اى نحو (بريطانيا وامريكا).
2- عدم وجود اتفاق بين الدولتين، ولكنه غير تأثير حاسم في علاقة الدولتين ببعضهما، اذ توجد حالة من الاتفاق في مجالات اخرى متعددة، وهنا يبرز اسلوب الاقناع كافضل الطرق المتبعه في ممارسة الدولة لقوتها، او اسلوب الاغراءات
3- عدم وجود اتفاق بين الدولتين، ولكن بصوره اشد من الحالة السابقة، وهنا يكون اسلوب الاغراءات كبديل افضل لاسلوب الاقناع، واوضح مثال لذلك اسلوب المعونات الاقتصادية الخارجية.
4- يغلب طابع الاختلاف وعدم الاتفاق على علاقة الدولتين، وهنا يمكن التركيز على اسلوب التهديد بتوقيع العقوبات اكثر من التركيز على تقديم الحوافز والاغراءات.
5- تصل العلاقة الى درجة العداء وهنا يتم اللجوء الى القوة العسكرية لتحقيق مصالح الدولة .
المراحل التى يسلكها الصراع الدولى : اتجاه التصاعد واتجاه التناقض، واتجاه الاستقرار، واتجاه التلاشي او النتهاء . وتصاعد الصراع يعنى الزيادة في ناحية المدى والكثافة، اى اتساع حدود الصراع وارتفاع درجة التوثر فيه. اما تناقص الصراع فهو يعنى الانخفاض في الكثافة والانكماش في المدى
الوسائل السلمية لإدارة الأزمات الدولية
أمام تنامي أوجه الصراع والأزمات على الساحة الدولية سواء في مظاهرها الإقليمية أو الدولية، ابتدع المجتمع الدولي مجموعة من الوسائل لاحتوائها وتطويقها أو التخفيف من حدتها, وقد عددت المادة الثالثة والثلاثون من الميثاق الأممي هذه الوسائل وسمحت للدول بحرية اختيار إحداها. وتتنوع هذه الوسائل بين وسائل دبلوماسية, قضائية وقهرية.
الوسائل الديبلوماسية
تندرج هذه الوسائل ضمن أقدم السبل التي التجأت إليها الدول لحل منازعاتها وإدارة أزماتها, وقد عرفت تطورا ملحوظا على مستوى آلياتها وفعاليتها, ولا تزال الممارسة الدولية تشهد على نجاعتها في احتواء العديد من المشكلات الدولية. وتتمحور هذه الوسائل حول المفاوضات, المساعي الحميدة, الوساطة, التحقيق, التوفيق, وعرض المنازعات على المنظمات الإقليمية والدولية.
الوسائل القانونية
على خلاف الطرق السياسية التي تفتقر إلى الصفة الإلزامية, فإن الطرق القانونية أو القضائية تتميز بإصدار قرارات ملزمة تتقيد الدول المعنية بتنفيذها واحترامها, وتصدر هذه القرارات إما عن هيئات التحكيم أو عن محاكم دولية دائمة.
التحكيم الدولي
يعد التحكيم بمثابة فحص ونظر في النزاع وجذوره من قبل شخص أو هيئة يلجأ إليها المتنازعون أنفسهم, مع التزام مسبق بتنفيذ القرار الذي سيصدر في النزاع, وبهذا فسلطة الحكم كسلطة القاضي وقراره بمثابة حكم قضائي له صفة الإلزام, ومعلوم أن اللجوء إلى هذا الإجراء الذي أثبت فعاليته في حل العديد من الأزمات الدولية, يتم بناء على رضى طرفي أو أطراف الأزمة.
القضاء الدولي من خلال محكمة العدل الدولية
إذا كانت قرارات التحكيم تصدر عن هيئات عرضية, فإن القرارات القضائية تصدر عن أجهزة دائمة, وتعد محكمة العدل الدولية إحدى الأجهزة الرئيسية للأمم المتحدة, هذا فضلا عن كونها الجهاز القضائي الأساسي لهذه الهيئة.
الوسائل الزجرية
قد يصبح اللجوء إلى الوسائل الزجرية والإكراهية ضرورة ملحة عند فشل الطرق الودية في إدارة أزمة دولية معينة, وتتنوع هذه الوسائل بين الضغوطات الاقتصادية والسياسية والعسكرية كحل أخير.
الضغوطات الاقتصادية والسياسية
للجانب الاقتصادي أهمية قصوى في العلاقات الدولية, وقد يكون اللجوء إلى هذا النوع من الضغوطات بشكل مباشر أو غير مباشر عاملا حاسما في التخفيف من حدة تصاعد الأزمة أو إنهائها، وتتنوع هذه الضغوطات بدورها إلى المقاطعة، الحصار الاقتصادي, الحظر، الحجز على الأموال بالخارج. ومعلوم أن استعمال هذه الضغوطات أصبح يعرف حركية كبيرة في ظل التحولات الدولية الأخيرة رغم ما يخلفه من آثار إنسانية صعبة.
أما الضغوطات السياسية فيمكن بدورها دورا مهما في هذا المجال, وتتركز هذه الضغوطات في الحملات السياسية الدعائية التي تستهدف الطرف الخصم في إطار ما يعرف بالحروب النفسية, أو الحد والتقليص من حجم البعثات الديبلوماسية للخصم في الخارج, وحرمانها من بعض الامتيازات الدولية من قبيل منع انضمامها لبعض المنظمات والاتفاقيات..
دور القوة العسكرية والمعلومات في إدارة الأزمات الدولية
إن إدارة أية أزمة دولية بشكل فعال يتطلب إمكانيات بشرية ومادية وعسكرية وسياسية مهمة, لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل يمكن توظيف القوة إلى جانب الديبلوماسية في إدارة الأزمات الدولية؟ أم أن من شأن ذلك تعميق الأزمة والإسراع بإشعال الحرب غير المرغوب فيها؟
من الحقائق الثابتة في علم العلاقات الدولية أن القوة أداة للديبلوماسية، وبذلك فإن "جزءا من إدارة أية أزمة هو بلورة وسائل وسياسات وضغوط أخرى أمنية تجعل الذي يفكر في الاعتداء يتردد" . ويعتقد بعض الباحثين أن الممارسة الدولية تؤكد على ضرورة استعمال القوة العسكرية لردع الخصم أثناء تصعيد الأزمة مع تجنب العمليات التي يمكن أن يفسرها الخصم بأنها استعداد لأعمال قتالية . كما أن ميثاق الأمم المتحدة ورغم أنه حرم اللجوء إلى القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية, خول لمجلس الأمن التدخل عسكريا في إطار نظام الأمن الجماعي وذلك في حالة تطور الأزمات والمنازعات الدولية بشكل يهدد السلم والأمن الدوليين، خصوصا بعد استنفاذ محاولات إدارة الأزمة سلميا, أو عبر الضغوطات غير العسكرية (المادة 42 من الميثاق) وسمح للدول ممارسة حقها في الدفاع الشرعي الفردي أو الجماعي عن النفس (المادة 51 من الميثاق الأممي).
فهناك ضرورة للمزج في هذا الإطار بين سياسة الترغيب والمساومة والمفاوضات عن طريق تقديم العروض والتنازلات لحمل الخصم على وقف الإثارة من جانبه أو لإرغامه على القبول والإذعان للمطالب المرجوة من ناحية، والترهيب الذي يتم عبر استخدام القوة والأعمال الزجرية غير العسكرية الأخرى أو التهديد باستعمالها من ناحية ثانية، وبخاصة وأن للقوة أهميتها –أحيانا- في الدفاع عن المصالح المهددة بأقل ما يمكن من الخسائر المادية والبشرية، مع الاحتفاظ بقنوات الاتصال مفتوحة - طبعا-, وتجنب الارتجال في اتخاذ القرارات للحؤول دون إقدام الطرف الآخر على القيام بعمل عسكري قد يفشل إدارة الأزمة تماما. وفي نفس السياق يشير البعض إلى أن الكلام الذي لا يستند إلى إمكانيات حقيقية عديم التأثير على طرف يجيد حساباته .
والجدير بالذكر أن عنصر الردع الذي يعرف بالتهديد باستخدام السلاح دون استعماله فعليا, أسهم بشكل كبير وفعال في إدارة العديد من الأزمات بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة، وإذا كان الردع وسيلة معهودة استخدمت على نطاق واسع في إدارة الأزمات بين القوى الدولية الكبرى في إطار "توازن الرعب"، فإن هذه الأخيرة – حاليا- قد تلجأ مباشرة وبسهولة إلى استعمال القوة العسكرية في إدارة الأزمات التي تكون الدول الضعيفة طرفا رئيسيا فيها إلى جانبها. فمدير الأزمة قد يلجأ إلى التهديد باستعمال القوة أو استخدامها فعلا إذا كان توازن القوة في صالحه، بحيث يجد نفسه مضطرا إلى اختيار الممكن من بين عدة بدائل قد تكون صعبة وسيئة بناء على منطق معادلة الربح والخسارة.
وإذا كانت فترة الحرب الباردة قد شهدت استثمارا للقوة في إدارة العديد من الأزمات الدولية عبر سياسة الردع، فقد أصبح واضحا أن استخدامها حاليا هو أكثر سهولة وكثافة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها بعد اختفاء تحدي المعسكر الشرقي.


الفصل الثالث
الوسائل السلمية لفض المنازعات في القانون الدولي المعاصر
مر القانون الدولي بمراحل متعددة، حيث أنبثق من الاديان المختلفة، كما وجد في فكر الفلاسفة والاصلاحيين الى أن بدأ يتقنن من خلال المعاهدات، والاتفاقات الدولية. ومن المعروف أن تسمية (القانون الدولي العام) ترجع إلى الفيلسوف الإنجليزي (بنتام)، الذي أطلق على مجموعة القواعد التي تحكم علاقات الدول اسم. القانون الدولي، وبذلك يمكن تعريف القانون الدولي بانه "مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول وتحدد حقوق كل منها وواجباتها". ويذهب (شتروب) إلى وصف القانون الدولي العام بأنه: "مجموعة القواعد القانونية، التي تتضمن حقوق الدول وواجباتها وحقوق وواجبات غيرها من أشخاص القانون الدولي". في حين يذهب (شارل روسو) إلى أن: "القانون الدولي العام هو ذلك الفرع من القانون الذي يحكم الدول في علاقاتها المتبادلة" .
ويعتبر منظرو السياسة الدولية ان اعلى منافع البشرية وخيرها يوجد في سيادة القانون: القانون الدولي، والقانون الخاص، وضرورة تطبيق القوانين التي اتفق عليها ، هذا بالرغم مما تثيره قواعد القانون الدولي من تساؤلات حول طبيعتها القانونية، بسبب عدم وجود مشرع وسلطة قضائية تنفيذية، وعدم وجود جزاء يترتب على مخالفتها . وهنا يرى كثير من فقهاء القانون الدولي أن عدم وجود مشرع، وقضاء دولي، وجزاء لا ينفي الصفة القانونية عن القواعد الدولية، ولكن مع ذلك فإن القوانين الدولية تختلف عن القوانين الداخلية في كونها تنشأ عن طريق التراضي بين الدول، خصوصاً وأن العالم بدأ يشعر بحاجته للقواعد الدولية، وحاجته للمنظمات الدولية، (بسبب تزايد إيمان الدول بأهمية التضامن بينها لأجل أمن وتعاون دولي في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية) .
فقد ظلت فكرة حماية العالم من ويلات الحروب عالقة لدى جميع الشعوب منذ العصورالقديمة، إلا أن إضفاء طابع السلمية على النزاعات الدولية، شهد تطورًا هائلاً في القرن العشرين، وكان الحدث الحاسم في ذلك هو مؤتمري السلام عامي 1899 و1907 في لاهاي. فمع انتشار ظاهرة التنظيم الدولي خلال الفترة الموالية للمؤتمرين سالفي الذكر اكتسبت قضايا المحافظة على السلام والأمن والتسوية السلمية للمنازعات أهمية خاصة، إذ أصبحت من بين المقاصد الأولى لأية منظمة دولية، كما توفرت القناعة لدى المهتمين بأمور التنظيم الدولي بأن وجود أي نظام قوي وفعال يختص بوظيفة التسوية السلمية للمنازعات يعتبر أحد المقومات الموضوعية المهمة التي تستند إليها المنظمات الدولية عموما في مجال الاضطلاع بالمهام المنوطة بها . ولهذا فقد بدأ منذ أكثر من خمسين عاماً عقل جمعي دولي لإقرار قواعد (القانون الدولي العام)، التي تحث الدول على نبذ الحرب، والالتجاء إلى الطرق السلمية لفض المنازعات، والحفاظ على السلم والأمن الدوليين ، مع إقرار حق الدول في الدفاع الشرعي لرد العدوان، واستعمال العنف كوسيلة لدفع الخطر إذا لم تنجح الوسائل السلمية لحل النزاعات بين الدول .
تسوية المنازعات الدولية
إن الوسائل الدولية لإدارة الأزمات متعددة ومتباينة وتتنوع إلى وسائل ديبلوماسية (المفاوضات، المساعي الحميدة والوساطة، التحقيق، التوفيق، عرض المنازعات على المنظمات الدولية والإقليمية…) وقانونية (التحكيم الدولي والقضاء الدولي) وزجرية (الضغوطات الاقتصادية من حظر وحصار ومقاطعة وتجميد للأموال أو حجزها في الخارج، أو سياسية وديبلوماسية أو اللجوء إلى القوة العسكرية كخيار أخير…)، ولقد عددت المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة في فقرتها الثانية مختلف هذه الوسائل ، كما نص الميثاق في مواضع أخرى منه على وجوب عرض النزاع إذا استعصى حله بإحدى هذه الوسائل المذكورة سابقا، على الهيئة الدولية لتوصي بما تراه مناسبا بشأنه، كما بينت الاتفاقيات الدولية الكبرى التي أبرمت منذ مؤتمر لاهاي لإقرار السلام الكثير من هذه الوسائل وما يتصل بها من إجراءات وأحكام، فتكلمت اتفاقية لاهاي الأولى سنة 1907 عن الوساطة والمساعي الحميدة والتحقيق والتحكيم ، وسرد النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية كل ما يتصل بالسبل القضائية, وعالجت معاهدة التحكيم العامة المبرمة في جنيف سنة 1928 موضوع التوفيق، كما تعرضت أيضا للقضاء والتحكيم.
التسوية السلمية للمنازعات الدولية
يصل عدد الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة حوالي (190) دولة وهناك دول أخرى وإن كانت قليلة ليست أعضاءً في المنظمة الدولية، وبسبب كثرة عدد الدول في العالم وتضارب مصالحها وأهدافها فإن النزاع بين دولة وأخرى أوبين عدد من الدول أمر وارد في كل وقت وذلك أن العلاقات بين الدول ليست دائماً مستقرة وهادئة وكثيراً ما يؤدي تعارض المصالح والتوجهات إلى قيام النزاع، والحكمة المتوخاة حسب الشرائع السماوية والمواثيق الدولية عند قيام النزاع بين دولتين أو أكثر هو اللجوء إلى لغة العقل بأن تسعى هذه الدول المتنازعة إلى حل النزاع بالطرق الودية أو السلمية وألا يتم اللجوء إلى أسلوب العنف أو الحرب في حل النزاع إلا في حالات الضرورة القصوى.
وقد حرص المجتمع الدولي على ضرورة الأخذ بالخيار الأول وهو السعي لحل الخلافات والنزاعات بالطرق السلمية حيث تم تأكيد ذلك في مؤتمر (لاهاي) الذي عُقد سنة 1899م، الذي حضره محبو السلام من ساسة العالم حيث أسفر هذا المؤتمر عن مجموعة من المبادئ لتسوية المنازعات الدولية إضافة إلى ما ورد فيما بعد في عهد عصبة الأمم التي أنشئت سنة 1919م وما ورد في ميثاق هيئة الأمم المتحدة التي أُنشئت سنة 1945م. ويستخلص مما ورد في هذه المواثيق الدولية أن حل الخلافات والمنازعات الدولية بالطرق السلمية يتم حسب الخطوات الآتية :
• استخدام طرق التسوية الودية ذات الصبغة الدبلوماسية (المفاوضة والمساعي الحميدة والوساطة والتحقيق)
• اللجوء إلى الطرق القضائية (بواسطة هيئات التحكيم أو محكمة العدل الدولية).
• فرض ميثاق الأمم المتحدة على الدول الأعضاء عرض كل نزاع أخفقت الدول في حله على مجلس الأمن، ونصت المادة الثانية (فقرة 3) من ميثاق الأمم المتحدة على أنه يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية، على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر .
ويبدو من ذلك أن هناك العديد من الوسائل التي يمكن اللجوء إليها لتسوية المنازعات، فهناك:
اولاً: وسائل التسوية السياسية والدبلوماسية .
ثانياً: وسائل ذات الصبغة القانونية أو القضائية.
كما انه هذه الوسائل يمكن تقسيمهما الى عدة انواع بحسب الاطراف التى تشارك فيها وهي :
• الوسائل التي تقتصر على أطراف النزاع: التفاوض
• الوسائل التي تتضمن تدخل الغير الذي لا يملك حسم النزاع: المساعي الحميدة - الوساطة-التحقيق-المصالحة أو التوفيق.
• الوسائل التي تنطوي على تدخل الغير الذي يملك حسم النزاع (مثال محكمة العدل الدولية)
• اللجوء إلى المنظمات الدولية (مثال مجلس الأمن)
اولاً: وسائل التسوية السياسية والدبلوماسية
1- المفاوضة
إن التفاوض عملية قديمة قدم التاريخ، ولقد عرفت الحضارات البشرية التفاوض بقصد تحقيق الأهداف السياسية، والمنافع الاقتصادية، وأحياناً، الغايات العقائدية. فاستخدمت الأقوام التفاوض في تنظيم العلاقات فيما بينها، ومع غيرها. كما أن المفاوضات العسكرية كانت أسلوباً شائعاً، نتيجة كثرة الصدامات المسلحة التي كانت تنشب، فيما بين القبائل، أو المدن، أو الدول أو الشعوب، أو الأمم. وهكذا شاع أسلوب المفاوضة في السلم، وفي الحرب. وهي تقوم على تلاقي مسؤولين من الجهتين المتنازعتين لبحث اسباب النزاع وعناصره، بقصد التوصل ‏الى حله. وقد تجري المفاوضة عن طريق مؤتمر دولي يجمع الجبهتين المتنازعين مع غيرهما.
المفاوضة، وهي تبادل الرأي بين دولتين متنازعتين بقصد الوصول إلى تسوية للنزاع القائم بينهما. ويقوم بالمفاوضة عادة المبعوثون الدبلوماسيون للدول الاطراف في النزاع عن طريق اتصال كل منهم بوزير خارجية الدولة الاخرى . أو عن طريق مندوبين مخصصين لهذا الغرض إذا كان النزاع ذا أهمية خاصة ويكون تبادل الآراء بين المفاوضات شفهياً أو كتابياً، وقد يتطلب الأمر إضافة فنيين لكلا الفريقين المتفاوضين إذا كان النزاع مثلاً يتعلق بالخلاف حول الحدود ومن أمثلة القضايا التي حُلت عن طريق المفاوضات انسحاب إسرائيل من صحراء سيناء الذي تم بعد مفاوضات طويلة بين مصر وإسرائيل.
ويستعمل مصطلح المفاوضة ليعني، في اللغة العربية، مفهوم (المراوضة) والمراوضة (لغة) مصطلح ازدهر استعماله في المجال التجاري، وتحديداً في معاملات البيع والشراء، وفي عمليات المزايدة والمناقصة وكان المعنى يفيد أن يسعى كل طرف إلى ترويض الآخر، أي غلبته. أما القاموس الدبلوماسي، فيرى في التفاوض أنه : لا يمثل - فحسب - سبب وجود الممثل الدبلوماسي بصفته رئيساً للبعثة الدبلوماسية. وإنما يمثل جوهر الدبلوماسية كلها، وكل أشكال وجوانب الدبلوماسية خاضعة لعملية التفاوض وهنا اقترب مفهوم التفاوض من معنى الدبلوماسية وذلك لارتباط المسألة بآليات العمل الخارجي للدولة، وهذا مادفع بهنري كيسجنر إلى القول بأن الدبلوماسية بالمعنى المتعارف عليه، هي عملية التقريب بين وجهات النظر المتعارضة من خلال المفاوضات .
ويقصد بالمفاوضة (قانوناً) تبادل وجهات النظر فيما بين ممثلي شخصين من أشخاص القانون الدولي العام، أو المنظمة الدولية وما في حكمها. فالعلاقات ما بين أشخاص القانون الدولي العام إنما تتم من خلال، وعبر أشخاص طبيعيين مخولين حق تمثيل تلك الوحدات القانونية ويقتصر حق مباشرة هذه المهمة - وبشكل واضح - على الأجهزة التنفيذية، وممثليهم المفوضين قانوناً وهو أمر من شأنه أن يبوأ المتفاوضين مكانة سامية في مسارات عملية التفاوض .
طبيعة التفاوض :
أكد القضاء الدولي على أن المفاوضات هى إحدى سمات وسائل فض المنازعات بالطرق السلمية، بل إنه قد بوأها مكانة تتقدم على الحلول القضائية وذكرت المحكمة الدائمة للعدل الدوليه بأنه لا يجب أن يعرض عليها إلا القضايا التي لا يمكن حلها عن طريق المفاوضات. لذلك، فإن القانون الدولي العام يقر آلية التفاوض، ويدعو إليها وينظمها، سواء كان هذا التفاوض ما بين طرفين، أو ما بين عدة أطراف، أو في إطار منظمة دولية إقليمية أو عالمية. وقد تجري هذه المفاوضات الإشراف المباشر لإحدى المنظمات الدولية (العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966، العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966، اتفاقية قيينا للعلاقات الدبلوماسية 1961، اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية 1963، اتفاقية قانون البحار لعام 1982، اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية الدولية 1998 .. إلخ )، أو قد تجري خارج هذه المنظمات الدولية استجابة لمعطيات سياسية أو قانونية ( اتفاق دايتون بولاية أو هايو الأمريكية، نوفمبر 1995) والذي جرى ما بين ممثلين عن الصرب، والبوسنة والهرسك، أو قمة واشنطون في 1995، والتي ضمت الأردن، وفلسطين، وإسرائيل، تحت إشراف الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وقد تجري المفاوضات داخل أجهزة المنظمة ذاتها .
وقد تأخذه هذه المفاوضات مسارات لقاء القمة، سواء كانت ثنائية ( القمم الأمريكية السوفيتية والروسية، أو القمة الفرنسية – الألمانية). وقد تكون مفاوضات القمة متعددة الأطراف ( الملوك والرؤساء العرب في الجامعة العربية، أو جماعية (قمة عدم الانحياز )، أو استراتيجية (قمة الدول الثماني الصناعية) حتى وإن كانت لقاءات القمة - عادة ما تسفر مفاوضاتها عن إصدار بيان وليس معاهدة دولية .
ولا يوجد زمن للمفاوضات، فهى قد تبدأ وتنتهي في زمن قصير جداً وقد تطول لتستمر سنوات ( اتفاقيات قانون البحار 1973-1982 ) وهى كما تكون علنية، فإنها يمكن أن تكون سرية ( مباحثات أو سلو1993) والمفاوضات ( في القانون الدولي العام ) كما يتصور أن تجري ما بين أطراف متنازعة فإنها قد تجرى ما بين أطراف متوافقة، وحيث أنها قد تزدهر في حالات السلم .وأخيراً، فإن المفاوضات لا يشترط أن تتم ما بين أطراف متساوية في المركز القانوني، أو الوضع الدولي، أو في الثقل الاقتصادي، أو في الكثافة السكانية، فهى يمكن أن تجري ما بين أشخاص قانونية دولية غير متكافئة .
والأكثر من ذلك، فإن المفاوضات قد تصاحبها وسائل إكراه تستهدف النيل من قدرة أحد الأطراف، أو حتى إرغامه على التفاوض وتأخذ هذه الوسائل أشكالا عدة تبدأ من ممارسة الضغوطات السياسية، أو الأخلاقية ، أو الاقتصادية وسواء تمت ممارسة هذه الضغوطات أثناء عملية التفاوض (الضغط على إيران عام 2006 من أجل التفاوض مع الوكالة الدولية للطاقة النووية في موضوع البرنامج النووي الإيراني)، أو قبلها بقصد الإجبار على التفاوض، فإن الدفع بها قانوناً لإبطال النتائج أمر تكتنفه العديد من الصعوبات، خاصة وأن بعض هذه الضغوطات لا تباشر بشكل واضح، علني، ومقنن، أو أن من يمارسها يملك من أدوات القوة، والتقنية، وحق الاعتراض في مجلس الأن ما يمكنه من تحقيق نتائج عملية .
وإجمالاً .. فإن جميع القضايا التي يمكن أن تطرحها علاقات المجتمع الدولي أو تفرضها طبيعته المتغيرة، تصلح لأن تكون مجالاً خصباً للمفاوضات، وقد تأخذ المفاوضات الطابع النوعي، فيتم التفاوض حول مسألة بذاتها، ولكن بجميع تشعباتها، مثل المؤتمر الدولي للمياه والبيئة ( دبلن(1992، أو المفاوضات الجماعية المتعلقة بإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة (روما 1998).
2- الوساطة :
هي الخطوة الثانية لحل النزاع الناشب بين الدول في حال فشل المفاوضات المباشرة بين الدولتين المتنازعتين، وفي هذه الخطوات تقوم إحدى الدول وخاصة إذا كانت ترتبط بعلاقة صداقة بين الدولتين المتنازعتين بالتوسط بينهما إما من أجل العودة للمفاوضات بينهما ويطلق على هذا الأسلوب (الخدمات الودية) أو أن تشترك الدولة الوسيطة في المفاوضات بصورة فعلية ومباشرة ويعرف هذا الأسلوب (بالوساطة) حيث تقوم الدولة الوسيطة حسب هذا الأسلوب بالتوفيق بين المطالب المتعارضة للدول المتنازعة والتخفيف من حدة الجفاء بينهما وبدون صفة ملزمة، وتنتهي مهمة الدولة الوسيطة في هذه الحالة إذا تبين لها أن وساطتها غير مقبولة من كلا الطرفين المتنازعين أو أحدهما، أو إذا قرر أحد الطرفين المتنازعين عدم قبول هذه الوساطة، ومن أمثلة القضايا التي حلت بالوساطة رفع الحظر الاقتصادي عن ليبيا الذي استمر لمدة سبع سنوات بسبب وساطة الملك عبدالله بن عبدالعزيز ورئيس جنوب أفريقيا السابق نيسلون مانديلا.
الوساطة المزدوجة: وهي أسلوب آخر للوساطة لحل المنازعات الدولية وهي خاصة بالمنازعات الخطيرة التي تهدد السلم العالمي وفيها تقوم إحدى الدولتين المتنازعتين باختيار دولة أجنبية لتتولى عنها المفاوضة بشأن النزاع القائم حيث تعمل الدولتان المختارتان في البداية على عدم قطع العلاقات السلمية بين طرفي النزاع، ثم تقومان بالمفاوضات لتسوية النزاع وفي حدود (30) يوماً يمتنع خلالها طرفا النزاع من الحديث حوله، فإذا لم تنجح المساعي حول ذلك وتوتر الوضع بين الدولتين المتنازعتين بقطع العلاقات السلمية بينهما فإنه مطلوب من الدولة الوسيطة في هذه الحالة استغلال الفرصة المناسبة للعمل على إعادة السلم بين طرفي النزاع.
دبلوماسية المكوك
وهي نوع من الوساطة حيث يقوم الوسيط بإجراء المفاوضات بين طرفين متحاربين يتعذر لقاؤهما المباشر؛ فيناقش المقترحات ويجري الحوار حول الردود عليها، مع كل من الطرفين المتنازعين بالتوالي، بهدف التوصل إلى تسويات مؤقتة وجزئية، تقود في النهاية إلى توفير شروط التوصل إلى مراحل متقدمة في التسويات السياسية بين الأطراف المعنية. ويعتمد هذا الأسلوب على سرعة الحركة، وشرح المواقف للطرف الآخر وظروفه، وكذلك إلى امتلاك وسائل الترغيب أو التهديد، الخفية والمعلنة، المساعدة على الدفع في اتجاه تذليل العقبات، والتوصل إلى نتائج عملية محددة. وقد اقترن هذا الأسلوب بهنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي، في التوسط في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، من طريق دبلوماسية الخطوة خطوة، على إثر اندلاع حرب أكتوبر 1973 .
3-المساعي الحميدة: وتقوم على التقريب بين مواقف الجهتين المتنازعتين لاستئناف المفاوضات او البدء بها. وقد وضعت اتفاقية لاهاي لسنة 1907 المتعلقة بتسوية النزاعات الدولية بالوسائل السلمية، القواعد الخاصة بالمساعي‏الحميدة والوساطة في الفصل الثاني (المادة 2 - 8). وقد اصبح هذا الاسلوب شائع في عصرنا الحاضر حيث تلجأ اليه كثير من المنظمات الدولية وبالذات منظمات الامم المتحدة من خلال استخدام شخصيات عالمية مرموقه ولها شعبية واحترام دولي للقيام ببعض المهام السلمية او في بؤر الصراعات.
4-التحقيق
ويتم بواسطة لجان دولية يعرض عليها النزاع، حيث يلجأ إليها طرفا النزاع إذا كان الخلاف بينهما على وقائع معينة حيث تقوم هذه اللجان بإيضاح حقيقة الوقائع المختلف عليها حتى تكون المناقشة فيما بعد لحل النزاع مستندة إلى وقائع صحيحة، وتقوم لجان التحقيق بأعمالها في جلسات سرية وتتخذ قراراتها بأغلبية الآراء وتعلن تقاريرها في جلسات علنية إلا أن الرجوع للجان التحقيق لحل المنازعات بين الدول ليس ملزماً بل يتم باتفاق الأطراف المتنازعة. وقد نظمت اتفاقية لاهاي طرق التحقيق في‏الباب الثالث (الماد 9 - 36)، ثم طورت معاهدات بريان (1913 - 1915) هذه الطرق بشكل واسع. ويهدف التحقيق عادة ‏الى جلاء بعض النقاط في الخلاف بشكل موضوعي.
معايير دولية للجان تقصي الحقائق
اصبحت لجان التحقيق ظاهرة عالمية، حيث شهدت الفترة من عام 1974 إلى عام 2007 إنشاء ما لا يقل عن 32 لجنة تحقيق في 28 بلداً. وقد شُكل أكثر من نصف هذه اللجان خلال السنوات العشر الماضية. ويجري حالياً النظر في إنشاء لجان أخرى للتحقيق .ولهذا بدلت الامم المتحدة وغيرها من المنظات الاقليمية جهود كبيره لوضع قواعد دولية لتقصي الحقائق، وكانت أول عملية دولية لجمع وتصنيف لإجراءات تقصي الحقائق هي اتفاقية لاهاي لتسوية المنازعات بالوسائل السلمية لعام 1907. وفي عام 1970 أصدر الأمين العام مشروع قواعد نموذجية لإجراءات تقصي الحقائق الخاصة بهيئات الأمم المتحدة، تغطي الانطباق ودستور الهيئة المخصصة وجدول أعمال الاجتماعات والموظفين والأمانة واللغات والتصويت وسير العمل والتعاون مع الدول الأعضاء والشهادات الشفوية والتحريرية ومصادر المعلومات الأخرى والسجلات والتقارير. وتتيح القواعد لأي لجنة وضع توصيات وإصدار تقرير. كما تتيح للدولة المعنية تقديم أدلة وتعيين ممثل وطرح أسئلة على الشهود، ولكنها لا تسمح للدولة بوضع توصيات لجدول الأعمال أو إعاقة حضور الشهود. وموافقة الدولة المعنية مطلوبة لدخول الهيئة المخصصة إلى الدولة. وتقبل جميع الأدلة بالرغم من أن استعمالها يخضع لرأي اللجنة. ويحلف الشهود ويقسم أعضاء اللجنة على أداء واجباتهم "بشرف وبصدق وبحيادية وبإخلاص." ويجوز قيام عضو أو أكثر بعقد جلسة استماع.
5- التوفيق
وهو وسيلة تقع بين الوساطة وبين الطرق القضائية، ويقوم على التحقيق في المسائل التي يقوم حولها النزاع،واقتراح الحلول التي يمكن ان يرضى بها الطرفان، وتقوم بالتوفيق لجان يطلق عليها تسمية (لجان التوفيق) وهي تشبه لجان التحقيق في السعي لحل النزاع بين الدول إلا أن لجان التوفيق يكون من مهامها أيضاً اقتراح حل للنزاع يمكن أن يقبله الطرفان المتنازعان.
و"التوفيق" طريقة حديثة لتسوية المنازعات الدولية، دخلت التعامل الدولي بعد عام 1919 بواسطة عدة معاهدات ثنائية وجماعية. وتتألف لجان التوفيق بموجب اتفاق يعقد بين الطرفين المتنازعين، أو بقرار صادر من الأمم المتحدة، أو إحدى المنظمات الدولية أو الإقليمية. وتتولى هذه اللجان دراسة النزاع القائم وتقديم تقرير وافٍ عنه إلى الطرفين، أو إلى المنظمة، يتضمن عدة اقتراحات، أو حلول، لتسوية النِّزاع. ومن امثلة ذلك قرار الامم المتحدة 194 الخاص بالتقسيم، حيث تضمن البند الثالث من القرار فقرة خاصة أنشئت بموجبها لجنة التوفيق الدولية وأنيطت بها مهمة تسهيل إعادة اللاجئين إلى ديارهم، الأمر الذي رفضته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وما زالت تصر على مواقفها هذه.
ثانياً: وسائل ذات صبغة قانونية أو قضائية
التحكيم
يعتبر التحكيم وسيلة فعالة وسريعة لحل المنازعات التي تثار بين الخصوم وتقترن احكام المحكمين وقراراتهم بالعدالة وحرية الرأي. والتحكيم قديم في نشؤه حيث عرفه القدماء في جميع الحقب الحضارية المتعاقبة حتى قال عنه (ارسطو) ان الاطراف المتنازعة يستطيعون تفضيل التحكيم على القضاء ذلك لأن المحكم يرى العدالة بينما لا يعتد القاضي الا بالتشريع) وازدهر التحكيم قبل الاسلام عند العرب وبرز عديد من المحكمين حيث ان كل قبيلة لها محكميها وكانت ابرز قضية قبل الاسلام حكم فيها رسولنا العظيم عليه الصلاة والسلام في رفع الصخرة المشرفة الى مكانها عندما اختلفت قبائل قريش عليها في حينه وجاء الاسلام ليضع التحكيم في اهم موقع في الحياة وهو العلاقة الزوجية (فان خفتم شقاقا بينهما فابعثوا بحكم من اهله وحكما من اهلها ان يريدا اصلاحاً يوفق الله بينهما). وكذلك في العلاقات الاخرى حتى وصلنا الى معركة صفين التي حكم فيها عمر بن العاص وابو موسى الاشعري بين سيدنا علي ومعاوية بن ابى سفيان.
والتحكيم هو البت في النزاع من طريق شخص او هيئة يكلفها المتنازعون بذلك، ويخضعون لقرارها، لان له ‏صفة الالزام. وقد نظمت التحكيم مؤتمرات لاهاي (1899 - 1907) وافردت له الاتفاقية الخاصة بتسوية المنازعات‏السلمية الفصل الرابع (المادة 27 - 90). ويعرف التحكيم بالتسوية القضائية للمنازعات الدولية وهو يتصف بالإلزام لأطراف النزاع حول ما يصل إليه من قرارات إلا أنه لا يلجأ إليه إلا باتفاق الأطراف المتنازعة، وقد يتم التحكيم عن طريق:
1- لجان تحكيم خاصة، وتتألف لجنة التحكيم الخاصة من خمسة محكمين يعين اثنان منهم من قبل الدولتين المتنازعتين ويعين الثلاثة الباقون بمَنْ فيهم رئيس اللجنة باتفاق الطرفين على أن يكونوا من دول أجنبية.
2- قد يتم التحكيم بلجوء الطرفين المتنازعين الى (محكمة العدل الدولية) التي كرس انشاءها ميثاق‏الامم المتحدة، وكانت سبقتها (المحكمة الدائمة للعدل الدولي) في ظل عصبة الامم. والمحكمة تبت بالامور بالطريقة ‏القضائية، معتمدة على القوانين والاعراف الدولية والمبادئ العامة للقانون. وقد فصلت المحكمة في كثير من المنازعات الدولية، وهي تتألف من خمسة عشر قاضياً معينين بمعرفة الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة وهي تتميز عن لجان التحكيم بأن أطراف النزاع لا يتدخلون بتعيين قضاتهم لحل النزاع بينهم، وتنظر هذه المحكمة في القضايا المعروضة أمامها في جلسات سرية إلا أن الحكم يُتلى في جلسة علنية وتفصل المحكمة في قضايا المنازعات برأي الأكثرية من قضاتها وإذا تساوت الأصوات رجح الجانب الذي فيه رئيس المحكمة، أما القضاة الذين يخالفون رأي الأغلبية فيوضح رأيهم في بيان مستقل، وحكم محكمة العدل الدولية نهائي وغير قابل للاستئناف إلا أنه يمكن إعادة النظر فيه في حالة ظهور وقائع تؤثر وبشكل حاسم في الدعوى وكانت هذه الوقائع غير معلومة لدى المحكمة وقت إصدار الحكم ولا الدولة التي طلبت إعادة النظر في الحكم، وألا يكون جهلها بهذه الوقائع نتيجة إهمال منها، وأن يكون طلب إعادة النظر في الحكم خلال مدة ستة أشهر من تاريخ اكتشاف الوقائع وبشرط ألا يكون قد مضى على صدور الحكم عشر سنوات، ومن أمثلة القضايا التي حلت عن طريق محكمة العدل الدولية الخلاف الحدودي بين البحرين وقطر
ولمحكمة العدل الدولية نشاط قضائي واسع، وتعد الأحكام الصادرة عن المحكمة قليلة نسبياً، لكنها شهدت بعض النشاط ابتداء من مطلع الثمانينيات، ومنذ العام 1946 أصدرت محكمة العدل الدولية 78 في نزاعات تتعلق من بين أشياء أخرى بالحدود البرية والحدود البحرية والسيادة الإقليمية وعدم استخدام القوة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والعلاقات الدبلوماسية والرهائن وحق اللجوء السياسي والجنسية والوصاية وحقوق المرور المائي والحقوق الاقتصادية. وقد شككت الولايات المتحدة بنزاهة القضاة إبان قضية نيكاراغوا، عندما ادعت أنها تمتنع عن تقديم أدلة حساسة بسبب وجود قضاة في المحكمة ينتمون إلى دول الكتلة الشرقية. وقد سحبت الولايات المتحدة الأمريكية اعترافها بالسلطة القضائية الإلزامية لهذه المحكمة، مما يعني بأنها تلتزم بما تقبله من قرارات المحكمة وتتحلل مما لا تقبله منها!



الفصل الرابع
دور المنظمات الدولية فى حل النزاعات بالطرق السلمية التسوية
يعد مبدأ التسوية السلمية للمنازعات أحد المبادئ الأساسية التي انبنى عليها التنظيم الدولي الحديث، وعلى وجه التحديد منذ انعقاد مؤتمري السلام عامي 1899 و1907، فمع انتشار ظاهرة التنظيم الدولي خلال الفترة الموالية للمؤتمرين سالفي الذكر اكتسبت قضايا المحافظة على السلام والأمن والتسوية السلمية للمنازعات أهمية خاصة، إذ أصبحت من بين المقاصد الأولى لأية منظمة دولية، كما توفرت القناعة لدى المهتمين بأمور التنظيم الدولي بأن وجود أي نظام قوي وفعال يختص بوظيفة التسوية السلمية للمنازعات يعتبر أحد المقومات الموضوعية المهمة التي تستند إليها المنظمات الدولية عموما في مجال الاضطلاع بالمهام المنوطة بها . ويقصد بالتنظيم الدولي مجموعة القواعد التى تحكم نشأة وعمل المنظمات الدولية، وتتمثل اهدافه في امرين:
اولا : تحقيق الامن والسلم الدوليين
ثانياً : تحقيق الرفاهية والرخاء لصالح الشعوب .
والتنظيم الدولي يعمل على تحقيق الامن والسلم الدوليين من خلال الامور التالية :
1- منع استخدام القوة في العلاقات الدولية
2- تسوية المنازعات بالطرق السلمية
3- الدفاع عن امن وسلام الدول من خلال انشاء الاحلاف التى تسعى الى ايجاد توازن بين الدول
وفي دراستنا لدور المنظمات الدولية في تسوية المنازعات بالطرق السلمية سنتناول الدور الذي تقوم به كلا من الامم المتحدة كمنظمة دولية، وجامعة الدول العربية كمنظمة اقليمية .
الامم المتحدة
مر العالم بأزمات وحروب خلفت وراءها ضحايا وخسائر جسيمة، وهكذا كان السلام- ومنذ القدم- يشكل هدفا للإنسانية، وقد كان لمأساة الحرب العالمية الثانية أثر كبير نحو إصرار المجتمع الدولي - وخصوصا صانعي القرار الدولي- لإقامة الأمم المتحدة والتأكيد على هدفها الرئيسي المتمحور حول تحقيق السلم والأمن الدوليين، خصوصا مع بروز أسلحة أكثر تدميرا للحياة الإنسانية. غير أن هذا المفهوم لايرتبط فقط بعناصر عسكرية، ولكن هناك عناصر أخرى غير عسكرية يمكن أن تسهم في تحقيقه في حالة توافرها أو المس به في حالة غيابها .
وتختلف وتتطور السبل الدولية لتحقيق السلم والأمن الدوليين بتطور العلاقات الدولية. فالأستاذ "دانييل كولار" يرى أن المجتمع الدولي نهج سبلا عديدة لتحقيق السلم والأمن الدوليين إبان فترة الحرب الباردة: فهناك السلام بواسطة الردع ومراقبة التسلح، والسلام بواسطة الانفراج الذي أعقب أزمة كوبا وموت ستالين وتجسد بإرادة العظميين عبر الدخول في عصر التعايش السلمي ثم هناك السلام بواسطة عدم الانحياز في ظل اشتداد الحرب الباردة وخطورة السلام النووي على البشرية وأخيرا السلام بواسطة التنمية على اعتبار أن معظم النزاعات والأزمات الدولية مصدرها اقتصادي واجتماعي .
ولو اننا حاولنا القاء نظرة سريعة على دور الامم المتحدة من هذا المنطلق فإننا سنلاحظ انها سعت الى تحقيق هذا الهدف من خلال المبادئ والاهداف التى وردت في الميثاق.
مبادئ الأمم المتحدة مستوحاة من ميثاقها
تقوم هيئة الأمم المتحدة على عدد من المبادئ الهامة والمذكـورة في الميثاق (الملحق الرقم 1). وتلتزم بهذه المبادئ كل من: الهيئة، والدول الأعضاء في علاقاتها بعضها ببعض، وهذه المبادئ هي:
1 - مبدأ المساواة في السيادة: تنص ديباجة ميثاق الأمم المتحدة على المساواة بين جميع الدول، بغض النظر عن التفاوت في إمكاناتها، من حيث الثروات الطبيعية، والبشرية، والتقدم.
2 - مبدأ فض المنازعات الدولية بالطرق السلمية: ويطبق هذا المبدأ فقط في حالة النزاعات التي تنشب بين الدول الأعضاء، حيث لا تتدخل الأمم المتحدة في المنازعات التي تحدث داخل الدولة.
3 - مبدأ حسن النية في أداء الالتزامات الدولية: نصت المادة (2) الفقرة (2) من الميثاق على أنه "لكي يكفل أعضاء الهيئة لأنفسهم جميعاً الحقوق والمزايا المترتبة على صفة العضوية، يقومون في حسن نية بالالتزامات التي أخذوها على أنفسهم بهذا الميثاق".
4 - مبدأ منع استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية: ورد هذا المبدأ الهام في ديباجة الميثاق، ونصه "نحن شعوب العالم ...، اعتزمنا ...، ألا تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة". كما نصت المادة (2) الفقرة (4) من الميثاق على أن: "يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة، أو استخدامها ضد سلامة الأراضي، أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة".
5 - مبدأ معاونة الأمم المتحدة في الأعمال التي تقوم بها، والامتناع عن مساعدة الدول التي تعاقبها:
6 - مبدأ التزام الدول غير الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة بالعمل وفقاً لمبادئها. بقدر ما تقتضيه ضرورة حفظ السلم والأمن الدولييْن".
7 - مبدأ عدم تدخل الأمم المتحدة في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
أهداف هيئة الأمم المتحدة ومقاصدها من الميثاق
تسعى الأمم المتحدة إلى تحقيق عديد من الأهداف السامية، من أهمها:
فض النزاعات التي قد تشكل خطراً على السلم والأمن الدولييْن، ومنع استخدام القوة، وتحقيق السلام العادل بين دول العالم. وقد جاء ذكر مقاصد الأمم المتحدة في أماكن متعددة من الميثاق على النحو التالي:
1 - حفظ السلم والأمن الدولييْن: ورد هذا المقصد في عديد من الفقرات من الميثاق، لما له من أهمية خاصة، فقد ورد ذكره في الفقرة الأولى من الديباجة "نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف". كما ذكرت كذلك الديباجة "وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولييْن".
كما نصت المادة (1) الفقرة (1) من الميثاق على "حفظ السلم والأمن الدولييْن، وتحقيقـاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، ولقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرع بالوسائل السلمية وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها". وقد خَصَّت الهيئة مجلس الأمن بسلطة تحقيق السلم والأمن الدولييْن، لما يملكه من سلطات وفعاليات واسعة، وعهدت الهيئة لمجلس الأمن بتحقيقه، سواء بالطرق السلمية، أم باستخدام القوة. وعلى هذا نجد أن المجلس ينفرد بسلطة كبيرة في فرض التسويات.
2 - تنمية العلاقات الودية بين الدول: وهو مقصد ورد في ديباجة الميثاق الذي نص على "أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار". كما ورد ذكره في المادة (1) الفقرة (2) من الميثاق التي حثت على "إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الملائمة لتعزيز السلم العام".
3 - تحقيق التعاون الدولي في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية:
4 - اتخاذ هيئة الأمم المتحدة مرجعاً لتنسيق أعمال الدول الأعضاء، وتوجيهها نحو إدراك الغايات المشتركة
دور هيئات الامم المتحدة في تسوية المنازعات الدولية:
منذ تأسيس هيئة الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم عام 1945 جعلت هذه المنظمة من حفظ السلم والأمن الدوليين وتحقيقه هدفا رئيسا لها وهذا ما تبلور بوضوح في الفقرة الأولى من المادة الأولى لميثاقها، خصوصا وقد عانت الإنسانية من ويلات حروب مدمرة أتت على الإنسان والعتاد والطبيعة والمعمار.
ولما كانت التسوية السلمية للمنازعات وعدم استخدام القوة والتهديد بها، أو استخدامها أصبحت من الأمور المستقرة في فقه القانون الدولي العام، ومن المبادئ الأساسية الراسخة التي تحكم العلاقات الدولية، فإن اضطلاع المنظمات الدولية بتسوية المنازعات التي قد تحدث بين الدول المنخرطة في عضويتها أمر منطقي وضروري، بل يعد ذلك وظيفة جوهرية لعمل هذه المنظمات.
عرض النزاع على مجلس الأمن الدولي،
تتمحور فلسفة ميثاق الأمم المتحدة حول المحافظة على السلم والأمن الدوليين، حيث شكل هذا المبتغى هدفا رئيسيا لواضعي الميثاق وهو ما تبلور بالفعل في ديباجة الميثاق حيث تعاهدت شعوب الأمم المتحدة بأن تعمل على اتقاء الأجيال المقبلة من ويلات الحروب. ولقد احتل مجلس الأمن مكانة الريادة في نظام المحافظة على السلم والأمن الدوليين وذلك طبقا للمادة 24 من الميثاق وحتى يتمكن من تحقيق هذا الهدف خوله الميثاق مجموعة من الوسائل والسلطات سواء فيما يخص تكييف الحالات المهددة أو المخلة بالسلم والأمن الدولي أو اتخاذ ما يلزم من إجراءات مختلفة لردع الدول المعتدية، في حالة فشل الوسائل السلمية في حسم المشكل واحتواء الأزمة وتتنوع هذه الوسائل بدورها بين الضغوطات والعقوبات الاقتصادية والإعلامية والديبلوماسية والعسكرية. وضمن هذه الوسائل يحتل مجلس الأمن مكانة بارزة في هذا الصدد خولها له الميثاق الأممي بالنظر إلى القيمة القانونية لقراراته والحاسمة وكذا الدور الذي يحظى به في إقرار الحالات المهددة أو المخلة بالسلم والأمن الدوليين أو وقوع حالة العدوان, واحتكاره لوسائل استعمال القوة والإجراءات الزجرية الأخرى في مواجهة الدول المعتدية.
يعتبر قيام مجلس الأمن الدولي بنظر النزاع الذي يحصل بين دولتين أو أكثر هو الخطوة الأخيرة لحل النزاع، إذ يحق لمجلس الأمن الدولي في البداية دعوة الأطراف المتنازعة إلى حل الخلاف بينهما بالطرق السلمية (سالفة الذكر) فإذا أخفقت في ذلك وجب عليها عرض الأمر على المجلس الذي له أن يوصي بما يراه مناسباً لحل النزاع، ويتخذ مجلس الأمن الدولي قراراته بأكثرية تسعة من أعضائه الخمسة عشر بشرط أن يكون الخمسة الأعضاء الدائمون (أصحاب حق النقض) من بينهم، وقرارات مجلس الأمن الدولي لحل المنازعات هي مجرد توصيات لأطراف النزاع، يمكنهم أن يأخذوا بها أو يتحولوا عنها لطرق التسوية السلمية إلا أنه في حالة استمرار النزاع وأصبح مهدداً للسلم والأمن الدوليين، فإن من حق مجلس الأمن الدولي أن يقرر ما يراه لازماً لحفظ السلم والأمن الدوليين ويكون قراره في هذه الحالة ملزماً لأطراف النزاع وغيرهم من الدول الأعضاء في الهيئة الدولية.
وقد ترك الميثاق لمجلس الأمن أن يقرر استخدام القوة في حل المنازعات الدولية، طبقاً للظروف والملابسات المحيطة بكل حالة على حدة، كما أعطت المادة (41) لمجلس الأمن الحق في "أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء "الأمم المتحدة" تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً وقطع العلاقات الدبلوماسية". وفي حالة التأكد من أن التدابير التي نصت عليها المادة (41) لم تف بالغرض، فإن المادة (42) قد أجازت لمجلس الأمن أن يتخذ إجراءات عسكرية عن طريق القوات الجوية والبحرية والبرية، كما يجوز لمجلس الأمن كذلك اتخاذ إجراءات أخرى تتضمن المظاهرات والحصار.
وعلى الرغم من أن مبدأ منع استخدام القوة قد جاء ذكره في الديباجة، أباح ميثاق الأمم المتحدة استخدام القوة في حالات معينة منها:
أولاً: في حالة قيام المجلس بإجراءات القمع والقهر لحفظ الأمن والسلم الدولييْن
ثانياً: عند رفض إحدى الدول قبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها
ثالثاً: في حالة استخدام الدول الأعضاء القوة ضد دولة كانت أثناء الحرب العالمية الثانية من الدول المعادية لإحدى الدول الموقعة على الميثاق .
رابعاً: في حالة الدفاع الشرعي.
وبالرغم من المهمة الكبيرة والخطيرة التى يقوم بها، الا إن مباشرة مجلس الأمن لمهامه المرتبطة بحفظ السلم والأمن الدوليين تقتضي منه - نظريا- الالتزام والخضوع لمجموعة من الضوابط القانونية التي يعكسها الميثاق الأممي، وإذا كان هذا الأخير يشكل إطارا عاما ودستورا لجميع أجهزة الأمم المتحدة فإن ظروف الحرب الباردة وما تولد عنها من صراعات إيديولوجية بين الشرق والغرب كان لها الأثر السلبي الكبير على مدى إنضباط المجلس لمبادئ ومقتضيات هذا الميثاق في جانبه المتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين مما نتج عنه ضعف حصيلة المجلس وهزالتها في هذا الشأن، كما ان انهيار المعسكر الشرقي وتحول النظام الدولى الى نظام احادي القطبية، فتح المجال على مصراعية لامريكا للاستفراد بدول العالم ضاربه عرض الحائط بميثاق الامم المتحدة، مما يمثل اكبر تهدي للسلم والامن الدوليين.
عرض النزاع على الجمعية العامة للأمم المتحدة:
تحتل الجمعية العامة مركزاً متميزاً بين بقية أجهزة الأمم المتحدة الرئيسية، حتى أن الساسة أطلقوا عليها "البرلمان العالمي"، إذ تتكون من مندوبين عن كل الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة، وعددها 192 دولة حتى الآن (1998). وقد أقر ميثاق هيئة الأمم المتحدة لهذه الهيئة الدولية الحق في مناقشة أية قضية تتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين عندما يطلب منها ذلك من إحدى الدول أو من مجلس الأمن الدولي وتصدر الجمعية العامة للأمم المتحدة توصياتها بشأن النزاع المعروض أمامها بأغلبية ثلثي الأعضاء إذا كان النزاع يمس السلم والأمن الدوليين وبالأغلبية العادية في المنازعات الأخرى، وتوصيات الجمعية العامة ليست ملزمة إلا أنه يجدر بالدول المتنازعة وقد التزمت بأهداف الهيئة الدولية أن تجعل هذه التوصيات محل اعتبار لديها.
قرار الاتحاد من أجل السلم
يعتبر من القرارات المهمة في تاريخ الأمم المتحدة، أصدرته الجمعية العامة في 1950 بناءً على اقتراح امريكي، وذلك نتيجة عجز مجلس الأمن عن اتخاذ خطوات إيجابية بشأن المشكلة الكورية، بسبب استخدام الاتحاد السوفيتي لحق الفيتو. ويقضي هذا القرار بأنه "إذا أخفق مجلس الأمن، بسبب عدم توافر الإجماع بين أعضائه الدائمين، في القيام بمسؤولياته الأساسية الخاصة بحفظ الأمن الدولي، في الحالات التي يلوح فيها تهديد للسلم أو إخلال به أو عمل عدواني، تبحث الجمعية العامة الموضوع فوراً لإصدار التوصيات اللازمة للأعضاء لاتخاذ التدابير الجماعية المناسبة، بما في ذلك استخدام القوات المسلحة للمحافظة على السلم أو إعادته إلى نصابه". كما قضى القرار بتعديل إجراءات دعوة الجمعية العامة، ليصبح للجمعية حق الانعقاد في دورة انعقاد استثنائية طارئة خلال 24 ساعة، إذا تلقى الأمين العام للأمم المتحدة طلباً في هذا الشأن من مجلس الأمن بأغلبية تسعة أعضاء، ليس من بينها بالضرورة أصوات الأعضاء الدائمين، أو بناء على طلب من الجمعية العامة، بموافقة أغلبية أعضائها.
عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام عمليات حفظ السلام
حفظ السلام وسيلة لمساعدة البلدان التي يمزقها صراع على خلق ظروف لتحقيق السلام المستدام. فأفراد عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام، يرصدون ويراقبون عمليات السلام التي تنشأ عن حالات ما بعد الصراع ويساعدون المحاربين السابقين على تنفيذ اتفاقيات السلام التي وقعوا عليها.
يمنح ميثاق الأمم المتحدة مجلس الأمن صلاحية اتخاذ تدابير جماعية والاضطلاع بها لحفظ السلام والأمن الدوليين. لهذا السبب، يتطلع المجتمع الدولي عادة إلى مجلس الأمن لكي يصدر تكليفا بإطلاق عمليات حفظ السلام. ويجيز مجلس الأمن المنظمات الإقليمية من قبيل منظمة حلف شمال الأطلسي، والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا أو تحالفات البلدان الراغبة، تأدية وظائف محددة لحفظ السلام أو إحلاله.
تعود بدايات عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام إلى عصر الحرب الباردة يوم كانت وسيلة لحل النزاعات بين الدول عبر نشر أفراد عسكريين من عدد من البلدان، غير مسلحين أو يحملون أسلحة خفيفة ويعملون بقيادة الأمم المتحدة، بين القوات المسلحة التابعة للأطراف المتنازعة سابقا. وهذا يمنح الوقت ويفسح في المجال أمام الجهود الديبلوماسية لمعالجة الأسباب الكامنة وراء النزاع.
وفي مذكرة اعلامية بتاريخ 30 نيسان/أبريل 2007 صادره عن ادارة عمليات حفظ السلام التابعه للامم المتحدة وضحت ان عمليات الامم المتحدة قامت بـ 61 عملية سلام منذ 1948 وان العمليات الجارية الآن يبلغ عددها 15، اماعمليات السلام الحالية الموجهة والمدعومة من قبل إدارة عمليات حفظ السلام فعددها 18.




اصلاح الأمم المتحدة
على مدى خمسين عام أو قل قليلاً-أي على مدى مرحلة السلام الطويلة سلام الحرب الباردة-كان منطقياً ألا تحظى الأمم المتحدة بالأهتمام المناسب من جانب الدول العظمى والكبرى, إذ وضعت الحرب الباردة لنفسها القواعد والآليات اللازمة لمنع الأنفجار. ولم تكن الأمم المتحدة مؤهلة أو مفوضة للقيام بدور أساسي, أو بأي دور آخر في مجالات الردع المتبادل والأحلاف العسكرية وتوازن القوى. وفور الوصول الى النهايتين! نهاية الحرب الباردة, ونهاية السلام الطويل, عاد الأهتمام بالمنظمة الدولية يتجدد. وأحتلت الأمم المتحدة مكانة مهمة في الجدل حول حجم الصلاحيات التي يجوز أو لايجوز منحها للأمم المتحدة, وحول حدود الدعم الأمريكي لها.
أن تحليل الأفكار المتداولة بشأن تطوير الأمم المتحدة وأصلاحها يشير الى أنها تركز على أحد أتجاهين:
الأتجاه الأول يتعلق بالمهمة الرئيسية للأمم المتحدة, وذلك في ضوء التغيرات التي حدثت في المجتمع الدولي.
الأتجاه الثاني فيركز على تنظيم الأمم المتحدة وتركيبها الأمر الذي من شأنه رفع كفاءتها.
وقد ركزت المقترحات والإصلاح على مجلس الأمن, فأقترح بعضهم مثلاً ضرورة توسيع عضوية المجلس. وأقترح آخرون ضرورة إعادة النظر في تركيب المجلس بما يجعله أكثر تعبيراً عن حقيقة الوضع العالمي الراهن والكثرة العددية لدول الجنوب, وهناك بعض الأفكار مثالية, والتي ترى أهمية إعادة النظر في حق الفيتو, ومدى سلامة أستمرار أحتكاره بواسطة عدد محدود من الدول, ورأى بعضهم الآخر ضرورة تقييد هذا الحق.
أن مجلس الأمن المفروض أن يكون مرآة لبنية السلطة في النظام الدولي وهو الجسر بين-أسمى المبادئ والقيم المتصلة بالمساواة والعدالة- في المجتمع العالمي من ناحية, وبين الواقع القبيح للسياسة في عالمنا من ناحية آخرى. ومع ذلك فأن بوسعنا أن نجعل المجلس أكثر ديمقراطية, فيغدو جهازاً تنفيذياً عالمياً أكثر شرعية, خصوصاً أنه من المفروض أن يتحدث ويتصرف نيابة عن المجتمع العالمي, متى ما أنصبت عنايتنا على قضايا التمثيل, وأستخدام حق الفيتو, والشفافية وقد طرحت أقتراحات عديدة ونوقشت في إطار فريق العمل غير المحدد المهام حول مسألة التمثيل العادل والزيادة في عضوية مجلس الأمن التي تمت في كانون أول 1993.
وهناك مجال آخر للإصلاح الا وهو الجمعية العامة وأعطائها دوراً أكثر فاعلية وعملية, فقد صار من الضروري إعادة التوازن بين الهيئة ذات الأختصاص العام, والتي تمثل هموم القطاع الأكبر من البشرية من ناحية, تلك التي ينعقد لها الأختصاص الرئيسي في حفظ السلام والتطبيق الإلزامي لقرارات الأمم المتحدة من ناحية آخرى.
أن القضايا والمشكلات التي تتجاوز حدود الإقليم تتطلب أستجابة جماعية لايمكن لأحد غير الأمم المتحدة أن يوفرها. وعلى كل الأطراف المستفيدة من تلك الأستجابة أن تسهم بنصيبها من أجل ضمان النجاح لها. وهذا هو جوهر المشاركة في العائدات والمسؤوليات, وفي توفير قدر أكبر من الأمن والأستقرار للمجمتع العالمي. والأهم بين كل ما تبقى هو الأمم المتحدة, وهذه حقيقة يجب أن يعيها دعاة الإصلاح وتكون الأساس الذي تبنى عليه محاولات إصلاح المنظمة الدولية إذ أنه حين تقف الأمم المتحدة وحيدة بعد أن فقدت معظم أفراد عائلتها من جراء معاناتها آثار الحرب العالمية الثانية, مثل الصراع بين القطبين الأعظمين, ونظام الحلفين, ونهاية الأستعمار وفكرة عدم الأنحياز, فأنها تستحق من الإصلاحيين ما هو أكثر من أقتراحات متناثرة, تستحق إطاراً عاماً وشاملاً كالإطار الذي نشأت في ظله فكرة الأمم المتحدة ووضع على اساسه ميثاق المنظمة الدولية.

الفصل الخامس
دور المنظمات الاقليمية في حل النزاعات بالطرق السلمية
خص ميثاق الامم المتحدة المنظمات الاقليمية بنصيب في مهمة المحافظة على السلم والامن الدولي، فقررت المادة 52 من الميثاق انه على مجلس الامن ان يشجع الاستثكتار على الحل السلمي للمنازعات المحلية بطريق هذه المنظمات بناء على طلب الدول التى يعنيها الامر واما بالاحالة عليها من جانب مجلس الامن (مادة 53) . كذلك فرضت نفس المادة على الدول الاعضاء في الامم المتحدة الداخلة في مثل هذه المنظمات ان تبدل كل جهودها لتدبير الحل السلمي للمنازعات المحلية عن طريق المنظمات التى هي عضو فيها وذلك قبل عرضها على مجلس الامن (فقرة 2) .
والمنظمات الاقليمية الموجودة في العالم عديده مثل الاتحاد الاوروبي ومنظمة الوحدة الافريقية ومنظمة المؤتمر الاسلامي ومنظمة دول امريكا اللاتينة وجامعة الدول العربية، حيث نص ميثاق كل هذه المنظمات الاقليمية على مبدأ تسوية المنازعات بالطرق السلمية وان اختلفت التفاصيل من منظمة لاخرى في الوسائل وآلية التنفيذ. و سنعرض لجامعة الدول العربية باعتبارها احد المنظمات الدولية الاقليمية، والوسائل السلمية التى تأخذ بها لفض المنازعات بين اعضائها وايضا آلية عملها .
جامعة الدول العربية
جامعة الدول العربية هي إحدى المنظمات الدولية الإقليمية التي أكدت في ميثاقها على عدم استخدام القوة لفض المنازعات بين دولتين أو أكثر من دول الجامعة، وقد تقرر هذا التوجه أيضا في معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي التي صادق عليها مجلس الجامعة في أبريل 1950، ودخلت حيز التنفيذ سنة 1952 في مادتها الأولى بالحرص على دوام الأمن والاستقرار وفض المنازعات بين الأعضاء بالطرق السلمية .
والملاحظ أنه عند إنشاء جامعة الدول العربية تباينت الآراء ما بين الداعي للالتزام بالأحكام القضائية من خلال التحكيم (العراق ومصر)، وبين المطالبين بالحفاظ على سيادة الدول الأعضاء وعدم المساس بهذه السيادة (لبنان)، لذا جاء الميثاق كحالة توفيقية لهذا الاختلاف، بل يمكن القول أنه انحاز للرؤية الثانية . ولذلك جاءت المادة الخامسة من الميثاق متناولة مسألة حل الخلافات بين الدول الأعضاء وسبل تسويتها سلميا مع تأكيدها على عدم الالتجاء للقوة لفض المنازعات بين دول الجامعة، أكثر تواضعا من نص المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة ومن منظمة الوحدة الإفريقية. فقد اقتصرت هذه المادة على ذكر وسيلتين هما الوساطة والتحكيم، مع الإشارة إلى أن الجامعة قد استحدثت وسائل أخرى للتسوية السلمية للمنازعات.
الوسائل المنصوص عليها في الميثاق
اقتصر الميثاق على ذكر وسيلتين هما الوساطة والتحكيم، كما أن معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي لم تتلافى النقص المشار إليه في الميثاق
1- الوساطة: اقتصر ميثاق جامعة الدول العربية على ذكر وسيلة سياسية ودبلوماسية واحدة تتيح تدخل مجلس الجامعة في فض المنازعات بطريقة سلمية متمثلة في الوساطة، مع ملاحظة أن الميثاق قد ربط مسألة إجراء الوساطة بالخلافات التي يمكن أن تتطور وتؤدي إلى نزاع مسلح أو يستشف منها إمكانية أن تؤدي إلى نشوب حرب بين الأطراف المتنازعة . وهذا يعنى، أن أي وساطة في أي نزاع عربي تقع من خارج المجلس لا تعتبر من قبيل الوساطة التي تقوم بها الجامعة، و إنما هي وساطة عربية. وقد اشترط الميثاق في الوساطة التي تقوم بها الجامعة أن تكون مقتصرة على المنازعات التي يخشى منها وقوع حرب بين دولتين عربيتين، وهذا أمر يمكن أن يؤخد ـ بطبيعة الحال ـ على واضعي الميثاق، إذ أن المفترض في وظيفة المنظمة الدولية أنها " وظيفة وقائية"، بمعنى أنها لا يجب أن تنتظر حتى يخشى من تصاعد نزاع ما ثم يتحول إلى حرب. ناهيك على أن الوساطة التي تحدث عنها الميثاق تتسم بسمة أساسية، وهي أن النتيجة التي تصل إليها ليست بالضرورة ملزمة.
فالوساطة تظل في النهاية مبادرة ودية يقوم بها المجلس بغية الوصول إلى حلول مرضية للأطراف المتنازعة، وفي أمور لا تخص مسألة استقلال الدول أو سلامة أراضيها أو سيادتها . وهذا بدوره يطرح تساؤلا عريضا، ماذا لو قبلت الأطراف المتنازعة اللجوء إلى مجلس الجامعة العربية في أمور يحق للمجلس بموجبها اتخاذ قرار ملزم ولم يطبق أحد الأطراف نتائج الوساطة ؟ خاصة في ظل غياب نص صريح يعالج مثل هذه الأمور.
إن ذلك ولا شك يساهم في إضعاف فعالية نظام التسوية السلمية للمنازعات التي تقوم بها الجامعة العربية، وقد بحث مجلس الجامعة في العديد من الخلافات العربية/ العربية، وخاصة في مسألة الحدود، فقد نظر في النزاع العراقي الكويتي سنة 1961، النزاع المصري السوداني، النزاع بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي، والنزاع الحدودي بين المغرب والجزائر. وعموما، يمكن القول أن الوساطة ( كوسيلة سياسية ودبلوماسية) يتوقف نجاحها على العديد من الاعتبارات أهمها: موقف الأطراف المتنازعة، رغبتها في تدخل مجلس الجامعة ، طبيعة النزاع ودرجة خطورته، التأثيرات الخارجية وغيرها.
2- التحكيم : يظهر من خلال قراءة نص المادة الخامسة من ميثاق جامعة الدول العربية أنها أشارت إلى جانب الوساطة كوسيلة سياسية، إلى التحكيم كوسيلة قضائية مع تأكيدها على التحكيم الاختياري وليس الإجباري، وهذا يعني أن المسألة تظل مرهونة برغبة وإرادة الأطراف المتنازعة، فلا يحق لمجلس الجامعة القيام بمهمة التحكيم بدون رضى الأطراف المعنية بنزاع أو خلاف ما بغض النظر عن درجة خطورة هذا النزاع و طبيعته.
إن تحديد الإطار السابق يساهم في إضعاف دور الجامعة العربية في هذا المجال، كما أن غياب أية إشارة في الميثاق إلى طبيعة الجزاء الذي يمكن أن يترتب على الأطراف التي قبلت التحكيم ثم رفضت الالتزام بقراراته . ولذلك يعد الطابع الاختياري الذي تمسكت به الدول العربية عند تأسيسها للجامعة العربية خوفا على استقلالها وسيادتها الوطنية (الموقف اللبناني) من جهة، ثم تخويل جهاز سياسي-مجلس الجامعة- القيام بمهمة التحكيم وليس جهازا قضائيا، دفع بالبعض إلى رفض فكرة التحكيم الإلزامي (الموقف العراقي) معتبرا أن القيام بهذه المهمة من قبل مجلس الجامعة سيخلق وضعا خطيرا يهدد تركيب الجامعة بصفة شاملة.
الوسائل الغير المنصوص عليها في الميثاق
شهد مجلس جامعة الدول العربية تطورا بالنسبة لدوره في مجال تسوية المنازعات العربية، وذلك على مستوى استخدام أساليب جديدة خارج الإطار الضيق الذي حدده الميثاق في الوسيلتين السابقتين أي الوساطة والتحكيم الاختياري، فقد استعان المجلس بالعديد من الوسائل و"التكتيكات"، فلجأ في المنازعات المختلفة التي عرضت عليه إلى المساعي الحميدة والمصالحة والتحقيق وبعثات تقصي الحقائق. كما اعتمد المجلس أسلوب الفصل بين الأطراف المتنازعة من خلال إرسال قوات عربية مشتركة، وقد حدث ذلك مرتين في تاريخ الجامعة: الأولى كانت أثناء النزاع العراقي الكويتي سنة 1961، والمرة الثانية كانت أثناء أزمة الحرب الأهلية اللبنانية . إلا أن أهم وسائل تسوية المنازعات العربية غير الواردة في الميثاق تتمحور حول جهازين رئيسيين: الأمين العام، ودور دبلوماسية مؤتمرات القمة.
1- الدور السياسي للأمين العام في تسوية المنازعات العربية.
و قد استند الأمين العام في قيامه بدور سياسي رئيسي في مجال تسوية المنازعات العربية والوساطة بين الأطراف العربية المتنازعة إلى تزايد اهتمام الجامعة - وبصفة خاصة المجلس ـ بمنصب الأمين العام ، والاقتناع بأهمية هذا المنصب ، باعتباره أحد العوامل الفاعلة في إدارة مختلف المنازعات العربية المحلية بشكل إيجابي. كما استند الأمين العام إلى مجموعة النصوص الواردة في النظام الداخلي لكل من مجلس الجامعة والأمانة العامة وفي مقدمتها المادتين 20 و21 من نظام المجلس الداخلي .
وقد تزايد دور الأمين العام بدرجة ملحوظة مما أدى إلى اعتماد المجلس عليه في القيام بمهام الوساطة والتوفيق وبدل المساعي الحميدة ، وقد بلغ هذا الاعتماد من طرف المجلس على الأمين العام حدا كبيرا ، إذ كان يعهد إليه كليا بالقيام بدور الوسيط في الكثير من الحالات ، كما أن الأمين العام كثيرا ما يقوم بجهوده التوفيقية بين أطراف النزاع حتى قبل تكليف المجلس له ، وقيام الأمين العام بذلك يمثل ضرورة تفرضها مقتضيات وظيفته ، فلكي يتسنى له مثلا توجيه نظر مجلس الجامعة أو الدول الأعضاء إلى أية مسألة تسيء إلى العلاقات القائمة بينها ، يتعين عليه بادئ ذي بدء أن يلم بالقدر الكافي بحقائق الموقف موضوع النزاع . ولم يتردد مجلس الجامعة في الترحيب في دوراته العادية بالجهود التي يقوم بها الأمين العام بالوساطة بين أطراف نزاع ما على امتداد الساحة العربية ، وكثيرا ما كان يطلب منه الاستمرار في بدل تلك الجهود .
وقد حدث ذلك على سبيل المثال بالنسبة لأزمة الحدود بين اليمن الشمالية واليمن الجنوبية سنة 1972 ، حيث أصدر المجلس قرارا بأن يستمر الأمين العام في مجهوداته من أجل تحقيق مصالحة الدولتين وبمساعدة لجنة خاصة مكونة من ممثلي بعض الدول الأعضاء . وفي الحرب الأهلية اللبنانية لم يتردد الأمين العام في بدل مساعيه لدى الأطراف المتنازعة منذ اللحظة الأولى لنشوب القتال ، و قد رحب المجلس في دورته العادية الثالثة و الستين بالجهود التي كان يبذلها الأمين العام في هذا الشأن. كذلك من الأدوار الرئيسية التي اضطلع بها الأمين العام بتكليف من المجلس دوره في أزمة الكويت عام 1961 ، فقد قام الأمين العام ( عبد الخالق حسونة ) بدور ملحوظ في تلك الأزمة و بصفة خاصة فيما كان يتصل بإنشاء و إرسال قوات حفظ السلام العربية التي صدر بشأنها قرار المجلس .
على أن تعاظم دور الأمين العام في مجال تسوية المنازعات العربية المحلية قد برز بوضوح شديد في حالة نزاع الحدود بين المغرب والجزائر سنة 1963 ، فبعدما تدهور الموقف بين الطرفين بادر الأمين العام بدعوة مجلس الجامعة للإنعقاد في دورة غير عادية لبحث هذا النزاع.
ولا شك أنه إذا كانت مبادرة الأمين العام بدعوة مجلس الجامعة للإنعقاد في دورة استثنائية لبحث النزاع المغربي الجزائري ، قد جاءت بالأساس انطلاقا من النص الذي تقرره المادة 20 من النظام الداخلي للمجلس، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يلجأ فيها الأمين العام لاستخدام حقه بمقتضى هذه المادة ، إلا أن ما يميز مبادرة الأمين العام هذه استحداث أسلوب تدخل على النحو الذي تم به وإن كان لم يحقق النجاح المرجو، وكانت هذه سابقة تبنتها الأمانة العامة لنفسها توسيعا لإمكاناتها لدعوة المجلس للانعقاد .
وعلى العموم لعبت شخصية الأمين العام دورا سياسيا في تطوير كفاءة الجامعة في التعامل مع المنازعات العربية، ففي كثير من الحالات قام الأمين العام بدور الوساطة والتحقيق والاتصال بأطراف النزاع حتى قبل صدور تكليف رسمي من المجلس. وهذه النتيجة تؤيدها الدراسة السلوكية التي قدمها الأستاذ "ارنيس هاس" وزملاؤه حول إدارة الصراع في المنظمات الإقليمية ومنها جامعة الدول العربية، وقد انتهت هذه الدراسة إلى أن الجامعة تتميز بمركزية دور الأمين العام في تسوية المنازعات، حيث تمت تسوية حالة واحدة فقط بدون تدخل فعال للأمين العام وهي حالة النزاع بين لبنان والجمهورية العربية المتحدة سنة 1958، كما أن الأمانة العامة قامت بمجهودات توفيقية في تسوية بعض المنازعات العربية في مهدها قبل أن تنفجر وتعلن على الملأ .
وعلى الرغم من الظروف الموضوعية التي كانت وراء تعاظم الدور السياسي للأمين العام على صعيد تسوية الخلافات و المنازعات العربية، فان هذا الدور المتعاظم كثيرا ما يتعرض للنقد من جانب بعض الدول الأعضاء و هي ظاهرة تعود في الواقع إلى السنوات الأولى لقيام الجامعة، كما أنها ليست مقتصرة على أمين عام جامعة الدول العربية، بل نكاد نجدها في أغلب المنظمات الدولية .
2- دور دبلوماسية مؤتمرات القمة العربية في تسوية المنازعات العربية :
إن الاجتماعات الدورية لرؤساء الدول والحكومات العربية لها فائدتها في التسوية السلمية للمنازعات التي قد تنشأ بين الدول العربية لأن في ذلك فرصة للقاء الزعماء والقيادات العربية، ويعني حضور الأطراف المتنازعة جلسات مؤتمر القمة أنه قد تتاح الفرصة المناسبة للمساعدة عن طريق طرف ثالث مستعد لتقريب وجهتي نظر الأطراف المتنازعة ، حيث إن مناخ عقد مؤتمرات القمة قد تتهيأ فيه الفرصة لمباشرة الدبلوماسية الشخصية لرؤساء الدول ، ولذلك نجد أن لمؤتمر القمة دوره الفاعل في التسوية السلمية للمنازعات ، خاصة إذا كان طرفا النزاع حاضرين في المؤتمر، و في حالة تعذر جمع طرفي النزاع يحتاج الأمر إلى طرف ثالث لمحاولة الوصول إلى تسوية .
وهكذا فجامعة الدول العربية استحدثت دبلوماسية القمة العربية كإحدى أدوات تسوية المنازعات العربية، معبرة بذلك عن قدرة الجامعة على التكيف مع الظروف الجديدة ، وقد لعبت اجتماعات رؤساء وملوك الدول العربية دورا محوريا في تسوية المنازعات من خلال صورتين :
ـ الصورة الأولى : أن تخلق اجتماعات القمة المناخ المناسب للتفاهم بين رؤساء الدول الأطراف المتنازعة، حتى وإن لم يكن الهدف من الاجتماع هو تسوية النزاع ،وعلى سبيل المثال فقد مهد اجتماع القمة العربية الأول عام 1964 إلى لقاء مصري سعودي لتسوية الأزمة اليمنية ، ولقاء جزائري مغربي لتسوية الأزمة بين الدولتين . و بعبارة أخرى فإن جامعة الدول العربية تقوم بوظيفة " اتصالية" بين القيادات العربية تمهد بالتالي لتسوية المنازعات.
الصورة الثانية : هي اجتماع رؤساء و ملوك الدول العربية في إطار الجامعة من أجل تسوية نزاع عربي ، و من أمثلة هذه الصورة اجتماع القمة العربية في أكتوبر 1976 للنظر في الحرب الأهلية في لبنان، و هو الاجتماع الذي أسفر عن وضع التشكيل النهائي لقوات الردع العربية في لبنان.
و بالإضافة إلى مؤتمرات القمة العربية ، تلعب اجتماعات مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية دورا مؤثرا في دراسة الملفات العالقة تمهيدا لعرضها على مؤتمر القمة بهدف إيجاد تسوية سلمية للمنازعات العربية.

تاريخ النزاع أطرافه طبيعته الأنظمة المتنازعة دور الجامعة تسويته
1948 حرب أهلية يمنية داخلي -- محدود انتصار أحد الأطراف
1949 سوريا- لبنان -- وسط- وسط لم تتدخل الجامعة وساطة مصرية سعودية
1958 مصر- السودان حدودي تقدمي –وسط لم تتدخل الجامعة الأمم المتحدة
1961 العراق- الكويت حدودي تقدمي- محافظ إرسال قوات طوارئ عربية لم تقم بأي دور يذكر إنشاء لجنة مختلطة لترسيم الحدود
1963 المغرب-الجزائر حدودي محافظ- تقدمي الدعوة إلى تكوين لجنة وساطة اتفاق ثنائي
1972 اليمن ش-اليمن ج حدودي وسط- تقدمي دور الأمين العام في إنشاء لجنة وساطة اتفاق ثنائي
1975 حرب أهلية لبنانية -- -- لعب الأمين العام دور التوصل لاتفاق الأطراف اتفاق ميثاق الطائف
1990 العراق- الكويت حدودي تقدمي- محافظ لم تتدخل الجامعة الأمم المتحدة
المصدر
مشروع آلية جامعة الدول العربية للوقاية من النزاعات وإدارتها وتسويتها عام 2000
اتفق مجلس جامعة الدول العربية على ما يلى:
1- إنشاء آلية تسمى "آلية جامعة الدول العربية للوقاية من النزاعات وإدارتها وتسويتها"، تعمل تحت إشراف مجلس الجامعة، وفى إطار مباشرته لمهام التسوية السلمية للمنازعات ووفقاً لتوجيهاته.
2- تهدف هذه الآلية فى الوقاية من النزاعات بين الدول العربية. وفى حال حدوث مثل هذه النزاعات، تعمل على تطويقها والحد من آثارها وتسويتها، والتعاون مع المنظمات الاقليمية والدولية عند الاقتضاء.
3- التزام الآلية بالمبادئ المنصوص عليها فى ميثاق جامعة الدول العربية، ومعاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى بين دول الجامعة العربية ، وبصفة خاصة مبادئ احترام سيادة جميع الدول الأعضاء وسلامة أراضيها، وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، وحل النزاعات بالطرق السلمية.
4 - لايجوز الالتجاء الى القوة لفض المنازعات بين دولتين أو أكثر من دول الجامعة، فإذا نشب بينهما خلاف لا يتعلق باستقلال الدولة أو سيادتها أو سلامة أراضيها، ولجأ المتنازعون الى المجلس لفض هذا الخلاف، كان قراره عندئذ نافذاً وملزماً. وفى هذه الحالة لا يكون للدول التى وقع بينها الخلاف الاشتراك فى مداولات المجلس وقراراته. ويتوسط المجلس فى الخلاف الذى يخشى منه وقوع حرب بين دولة من دول الجامعة، وبين أية دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها، للتوفيق بينهما. وتصدر قرارات التحكيم والقرارات الخاصة بالتوسط بأغلبية الآراء.
5- إذا وقع اعتداء من دولة على دولة من أعضاء الجامعة، أو خشى وقوعه فللدولة المعتدى عليها، أو المهددة بالاعتداء، أن تطلب دعوة المجلس للانعقاد فوراً. ويقرر المجلس التدابير اللازمة لدفع هذا الاعتداء، ويصدر القرار بالإجماع، فإذا كان الاعتداء من إحدى دول الجامعة، لايدخل فى حساب الإجماع رأى الدولة المعتدية. وإذا وقع الاعتداء بحيث يجعل حكومة الدولة المعتدى عليها عاجزة عن الاتصال بالمجلس، فلممثل تلك الدولة فيه، أن يطلب انعقاده للغاية المبينة فىالفقرة السابقة. وإذا تعذر على الممثل الاتصال بمجلس الجامعة، حق لأى دولة من أعضائها أن تطلب انعقاده
وبالرغم من هذه الالية الجديدة يظل دور الجامعة العربية في تسوية المنازعات محدودا ومحكوما بتوجهات الدول الاعضاء وحالة الاستقطاب في الصف العربي، والاهم من ذلك تدخلات القوى الكبرى ذات المصالح وبالذات امريكا التى اصبحت تفرض حلول تتماشى مع مصالحها بعيدا عن مصالح هذه الدول، ويكفى ان نلقى نظرة الى النزاعات في لبنان والصحراء الغربية والعراق والسودان، والتى لم تستطع الجامعة العربية تحقيق ايه تقدم في هذه النزاعات، بل يبدو موقفها وكأنه يتماهى في بعض الاحيان مع الموقف الامريكي من النزاع وما يحدث فى لبنان خير مثال على ذلك.